الصّديق السّري.. موسيقى عذبة قادرة على أن تتحدّى الجدار الصهيوني
الوفاق/ خاص
د.سناء الشعلان
لم يحظَ يوماً بأيّ صديقٍ بالمعنى الدّقيق لهذه الكلمة، ولعلّ هذه الشّفة الأرنوبيّة هي السّبب في هذا الأمر؛لم يستطع أبداً أن يدير حواراً غير مختزلٍ مع أيّ أحد خارج بيته كي يختزل لحظات تحديق العيون الفضوليّة في شفته الأرنوبيّة التي وُلد بها، البعض يقول إنّها عيب خلقيّ مردّه إلى أنّ أمّه قد أنجبته وهي كبيرة في السّن قد تجاوز عمرها الخمسين سنة بعامين، والبعض يرجّح أنّ هذه الشّفة هي من مضاعفات القنابل المسيلة للدّموع التي يغرق العدو الصّهيونيّ الشّوارع والأحياء بها مرّة تلو الأخرى.
لا يعرف سبب علّته ونقصه، ولكن ما يعنيه من كلّ ما سمعه حول شفّته أنّه يستطيع أن يتخلّص منها بعملية تجميليّة سهلة في أيّ عاصمة عربيّة خارج الوطن حيث طبّ التّجميل متقدّم ومتيسّر، ولكن هذا حلم مؤجّل بسبب ذلك الجدار العازل الذي خنق قريته، وعزله وقومه عن الدّنيا وأهلها في جغرافية ضيّقة تناضل لتظلّ على قيد الحياة في أصعب معطيات الإستمرار.
هذه الشّفة جعلته يصادق النّاي الخشبيّ الذي صنعه جدّه له منذ زمن طويل، هذا النّاي هو الصّديق الوحيد الذي يهبه وجهه كاملاً غير متدارٍ خلف الصّمت كي يشيح بشفته عن أيّ نظرات فضوليّة قد تطرح عليه الأسئلة المزعجة الخانقة عن سبب هذا التّشوية الخلقيّ المزعج.
لولا هذا الجدار العازل لتمكن من أجراء العمليّة المنشودة منذ أشهر طويلة، ولكنّه مصلوب على عذاب يتلخّص في أنّ من يخرج من بيته خلف الجدار الفاصل قد لا يستطيع العودة إليه، إذن عليه أن يظلّ في انتظار أمله المجنّح المحلّق نحو البعيد، وفي انتظار ذلك يهمس بأحلامه الزّاهية وآماله الملحاحة إلى نايه الحبيب الذي يحوّل دواخل نفسه المكلومة إلى موسيقى عذبة قادرة على أن تتحدّى الجدار، وأن تحلّق بفرح نحو البعيد حيث الانعتاق والحرّية دون أن تطالها يد خانقة، أو يصادرها ظلّ جدار عال لا يُتخطّى.
جزء من الجدار العازل لا يزال غير إسمنتيّ بل هو أسلاك شائكة، وحراسة مشدّدة في انتظار دوره كي يُزرع إسمنتاً وصلباً وحديداً مثل سائر الجدار، ومن أقصى امتداده الشّرقي حيث يمتدّ في حقول الحمضيات بعد أن اكتسح الأشجار، ونزعها ليلقي بها بعيداً يكشف عن تلك المستعمرة الصّهيونيّة التي تربض على أرضٍ سلبتها وجوه غريبة شوهاء قادمة من البعيد لينتصر الموت والبغي والظّلم والأسلحة على الجغرافيا والتّاريخ في معادلة سياسيّة استبداديّة ساخرة.
في البداية اعتاد على أن يتلصّص على المستدمرة من باب الشّهوة في كسر إسار الجدار المضروب حول كلّ شيء، فيما بعد غلبه الإستسلام لتلك اللّعبة الفضوليّة الجهنّميّة المسمّاة مقارنة، أركان اللّعبة متوفّرة كاملة في هذه اللّحظة وفي اللّحظات جميعها، فعالمه المقهور المظلوم في مواجهة ذلك العالم المرفّة الجميل هناك في المستدمرة، هنا تحاصره وجوه الجنود والكلاب والسّلاح والموت والأرض المحروقة والمعتقلات والتّعذيب والقتل والخراب واليتم والخوف والفقر والحرمان وحظر التّجول والشّوارع الضّيقة والبيوت القديمة والخدمات المعدومة والغلاء والمعاناة، وهناك في المستدمرة على مسافة يقطعها بربع ساعة من السّير الهوينى يرى الرّخاء والرّفاهيّة والسّلام والأمن والغنى وأسباب السّعادة حاضرة جميعها، قليل من التّفرّس في تلك الوجوه الطّفوليّة الباسمة الرّغيدة المترعة صّحة وعافية، وهي تصهل في تلك السّاحة العشبيّة الخضراء، وتتبارى في صخب وضحك كفيلة بأن تقوده إلى صور بؤسه المقيم حيث الوجوه الكالحة في القرية، إذ لا تأتي السّعادة إليهم إلاّ مهربّة تستعجل المغادرة، ثم تولّي هاربة مع أوّل طلقة رصاص من بندقية صهيونيّة.
كم يحلم بأن يعيش في هذه العالم الجميل، ومن جديد يتساءل لماذا عليه أن يكون أسير عالمه البائس حيث ظلّ الجدار العازل؟! يكرّر السّؤال على نفسه المرّة تلو الأخرى، وتحار الإجابات، وتضلّ طريقها عنه، ويظلّ أسير هذا السّؤال الذي يقدح زناد سخطه وحقده، فيضيفه إلى جملة أسئلته ذات الأقدار المجهولة.
لم يكن يتوقّع أنّ هناك عينين ترقبانه منذ أيام طويلة، وتسعيان إلى أن تقتربا منه إلى أكبر مسافة ممكنة، ولم يتخيّل أن تسلّله لبضع خطوات إلى داخل المستدمرة سوف تجعل تلكم اليدين الصّغيرتين تقبضان عليه بعطف موزّع بين الحذر والخوف والرّغبة الشّديدة في التّواصل،كاد قلبه يطير خوفاً عندما هبطت اليدان الدّافئتان الصّغيرتان على كتفه، ولكن تلك القبضة الحنونة البعيدة عن القسوة التي ألفها وشعبه من أيادي الصّهاينة جعلته يستسلم لها، ويلزم مربضه دون أن يفكّر في الهرب.
العينان اللّتان كانتا ترقبانه واليدان اللّتان قبضتا عليه كانتا لصبّي في مثل عمره، هو صهيوني صغير من ذلك العالم حيث الرّفاهية والسّعادة، إنّه من أبناء الغاشمين الظلّمة الذي سرقوا وطنه، ذلك الغريب الصّغير يعيش في نور الشّمس، أمّا هو فيعيش قسراً في ظلّ الجدار العازل،عليه أن يبتعد عنه، وأن يغادر المكان ليعود إلى أهله وبيته، وأن لا يثق فيه، ولكنّه يرى أمناً غريباً في عينيه الرّماديتين،ورجاء مخلصاً يسأله بذل أن يظلّ معه،وأن لا يهرب بعيداً عنه، في نفسه حربان،وعليه أن ينتصر لواحدة منهما ضدّ الأخرى كي يجد طريق الرّشاد؛إمّا أن يهرب نحو البعيد،أو أن يصدّق قلبه الذي يهمس له بأن يبقى مع هذا الصّبيّ الصّهيونيّ ولو لبعض الوقت،ونفسه تهتف به أن يستسلم لهمس قلبه،وأن يقطع أجمل أوقات اللّعب معه في هذه الحديقة الجميلة التي يرتع فيها ليل نهار.
مضت أسابيع طويلة وهو يسعد بهذا الصّديق السّري الذي وهبه له القدر في لحظة تخلّ عن قسوته،لقد حظي أخيراً بصديق حقيقيّ لا يخجل من أن يحدّق في شفّته الأرنوبيّة الشّوهاء،هما من عالمين مختلفين،بل من معسكرين متحاربين،ولكن تجمعهما محبّة طفوليّة كلّها دهشة وأُنس وألفة ولا تخضع لحروب الكبار وخصوماتهم،ولا تعترف بجدران أو فواصل،يجلسان لساعات مختبئين في مربضهما بين الأشجار في حديقة المستعمرة،متواريان عن كلّ شيء خلا حديثهما العذب الحنون،يتحدّثان في كلّ شيء بلهجة خليط من العربيّة والعبريّة التي يتوافر كلّ منهما على أقدار كافية منهما،ويتمنيّان لو يستطيعان أن يجريا في المروج دون وجل أو خوف.
في لحظة تخلّ عن ضوابط عالميهما يقرران أن يجريا ويرمحا في الحديقة،يخرجان من مكمنهما،وشطيرة كل منهما في يده،يقضم كل منهما قضمات سريعة من شطيرته،ويمضغ لقمه على عجل،ثم يستسلمان لرغبتهما الأثيرة في الرّكض واللّعب،ويعلو صوت لهاثهما المحمّل بالضّحك والسّعادة،ويطغى ضجيج لهوهما على أصوات الصّبية حولهما،دقائق تمرّ،وينتبه الموجودون إلى الفتى الفلسطينيّ الأسمر الذي يصهل في الحديقة،ويعانق الفتى الصّهيونيّ،فوضى سريعة تطغى على المكان،وخبر الصّبي الفلسطينيّ الموجود في الحديقة يطيّر في المستدمرة كما النّار في الهشيم،بنادق تصوّب نحوهما،عيون شريرة كثيرة تحاصر المكان لاقتناص الصّبي الفلسطينيّ الذي يتجمّد في مكانه مبهوتاً مرعوباً متذكّراً وصايا أمّه بعدم الاقتراب من المستدمرة، عشرات الصّور والوجوه تمرّ سريعاً دون سبب مبرّر في مخيلته البريئة،وأزيز طلقات يعلو في المكان،ثم تستقر الطّلقات جميعها في بطنه،وتتوالى أخر مسرعة إليه لتستقرّ أنّى شاءت في جسده الصّغير الغضّ،رغبة جارفة في الاستسلام للعدم تجتاحه،فيجثو مهدوماً على الأرض،وعيناه تبحثان عن أرض دون ألم في عيني صديقه الصّهيونيّ الذي يرفع عقيرته برجاء موصول للبنادق كي تكفّ عن صبّ جحيمها على جسد صديقه الفلسطينيّ،وعندما يفشل في إقناع البنادق بأن تكفّ عن إطلاق رصاصها،يلقي بنفسه على جسد صديقه،ليشاركه بتلقّي الرّصاصات الواغلة في جسديهما دون رحمة .
الصّور والوجوه جميعها تغيب عنهما،يسقطان أرضاً في مساحة صغيرة،عينا الصّبي الصّهيونيّ تجولان بوهن في عيني صديقه الفلسطينيّ بحثاً عن ابتسامة مسامحة يهبها له تكفيراً عن هذه الرّصاصات التي اغتصبت فرحه وروحه،وعينا الصّبي الفلسطينيّ تهربان نحو الجدار العازل حيث وجه أمّه مسجوناً خلفه في حزن دائم،يبتسم لوجهها ذي الحزن النّبيل الدّائم وهو يبرق في ذاكرة قلبه،ثم يمضي نحو البعيد حيث لا جدران عازلة أو بنادق غادرة أو صديق صهيونيّ اللّعب منه يعني الموت.