مع تزايد أعباء تدابير الحماية الاجتماعية
متقاعدو العالم العربي.. الهواجس الاقتصادية تثقل كاهلهم
قد يغفل الناس في مرحلة شبابهم عن الواقع المر الذي سيلاحقهم عند وصولهم إلى سن الستين، وما يصاحب هذه الفترة من فراغ اجتماعي واقتصادي، وفي حال إدراك البعض لهذه المرحلة فهي غالبًا لن تكون بالنسبة لهم سوى كابوس مزعج، خاصةً لمن يعيشون في المجتمعات العربية التي بالكاد تلبي مطالب الشباب حتى تلتفت إلى احتياجات المتقاعدين.
كم مليون شخص عمره فوق الـ60 في المجتمعات العربية؟
بما أنه من الصعب الحصول على إحصائيات دقيقة حول أعداد المتقاعدين في الوطن العربي، بين التقرير الصادر من الأمم المتحدة عام 2017 م أن الفئة العمرية التي يزيد عمرها عن 60 سنة، يبلغ عددها في الدول العربية أكثر من 28 مليون نسمة يستمرون في التزايد بشكلٍ متسارع، وتحديدًا في بلدان مثل الجزائر والكويت والبحرين وليبيا وعمان وقطر.
وبالنسبة إلى إحصائيات لعام 2014، فإن لبنان وتونس والأردن والمغرب والسعودية من أكثر الدول العربية التي ستشهد زيادة في معدلات الشيخوخة في عام 2030، وبناءً على ذلك تزيد الهواجس الاقتصادية لدى هؤلاء الأشخاص وتثقل المسؤولية على حكومات هذه البلدان.
تقودنا هذه الإحصائيات إلى أسئلة واسعة حول أوضاع هذه الفئة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وكيف تلبي الحكومات احتياجات هذه المرحلة وتمنحهم بيئةً داعمة وصحية، وهل تعتبر هذه الشريحة طاقة مهدرة في مجتماعتنا العربية؟ وما هو دورها وكيف يتم التعامل معها اجتماعياً؟
نصف العمال العرب بلا تغطية صحية بعد التقاعد
يساهم العمال والمستخدمون من أجرهم لتسديد نفقات الانتساب إلى صناديق التقاعد الاجتماعية، لكي يضمنوا راتبهم آخر كل شهر بعد خروجهم من وظائفهم في القطاعات الخاصة والعامة، ولكن هل تكفي رواتب التقاعد لتأمين من وصلوا إلى سن الشيخوخة في الدول العربية؟
يُشير تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية في عام 2014ي، إلى أن 48% من الناس فوق سن التقاعد في العالم لا يحصلون على معاش تقاعدي. في حين أشار تقرير منظمة العمل العربية ، أن واقع أنظمة التقاعد في العالم العربي سيء، إذ أن 38% فقط من حجم القوى العاملة تحصل على تغطية صحية في سن التقاعد.
ووفق بيانات آخر جدول صادر عن المصدر ذاته، تبلغ نسبة المشمولين بأنظمة التقاعد في تونس 47% من إجمالي القوى العاملة، وتصل في مصر إلى 57%، وبالنسبة للمغرب فهي بنسبة 22%، أما الجزائر فتقارب نسبة المشمولين في أنظمة التقاعد 30%، وفي لبنان أكثر بقليل عن الـ40%... بمعنى آخر، يمكن القول إن أكثر من نصف القوى العاملة العربية ستعيش "من قلة الموت"، في مرحلة الشيخوخة.
هذا وربطت منظمة العمل العربية وضعية الرواتب في الدول العربية، بـ "ارتفاع معدلات الإعالة مقابل انخفاض نصيب الفرد من الدخل، وتزايد أعباء تدابير الحماية الاجتماعية".
أكثر من 7 في المئة من سكان الأردن من المسنين
في الأردن، تُفاخر الحكومة بأنها تعمل على حماية الشيخوخة في المجتمع الأردني عبر
قرارات عدّة، كالرعاية الطبية، ودور المسنين، والتقاعد المدني، لكن مراقبين يرون أن المسنين والمتقاعدين من بين الفئات التي لا تزال مهملة وغير فاعلة، ويصنف المجتمع الأردني بأنه فتيٌّ، وتغلب عليه فئة الشباب.
ويقدر عدد المسنين في المملكة بنحو 800 ألف شخص، وبنسبة تزيد على سبعة في المئة، من مجموع السكان، ومعظمهم من النساء، وتقطن غالبيتهم في العاصمة عمان، وتُعرف الاستراتيجية الوطنية لكبار السن في الأردن المسنين بأنهم من بلغوا سن 60 عاماً فأكثر.
وقبل سنتين، صدر في الأردن نظام رعاية المسنين الذين تهتم بهم جهات متعددة، منها المجلس الوطني لشؤون الأسرة، إضافةً إلى إقرار نظام لإيواء الهائمين على وجوههم قريباً، غير أن توصيات قدمها متخصصون تدعو الحكومة الأردنية لشراء خدمات الرعاية الإيوائية للمسنين، وإنشاء مركز تدريب متخصص في رعاية المسنين ورفده بالكوادر التعليمية المؤهلة ليكون نقطة انطلاق نحو توفير خدمات الرعاية المنزلية مستقبلاً، وعلى أساس التطوع، وتنفيذ برامج تدريبية للكوادر العاملة في دور الرعاية على إجراءات إدارة الحالة للتعامل مع الحالات النفسية والاجتماع.
مسنون عاملون
ومن المؤشرات السلبية أن كثيراً من المسنين الأردنيين ما زالوا في سوق العمل، وأظهر مسح متخصص أن نحو 35 ألف مسن ما زالوا يعملون، بخاصةً مع إقبال كثيرات من الأردنيات المسنات على الحصول على تقاعدهن المبكر كدفعة واحدة، من مؤسسة الضمان الاجتماعي، ما يفتك بالحماية الاجتماعية لهن، ويعرضهن لمخاطر عدم القدرة على العيش الكريم مستقبلاً.
في المقابل، تدعو مؤسسات اجتماعية كثيرة إلى توفير فرص عمل لكبار السن، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم ومعارفهم لدعم الاقتصاد الوطني، وإعادة جدولة المراحل العمرية لضمان أن تكون هذه السنوات ضمن سنوات الإنتاج، وليست سنوات الشيخوخة، بخاصة مع ضعف الحماية الاجتماعية.
متقاعدو لبنان... خوف في ظل الإفلاس
يعيش "متقاعدو لبنان" حالة خوف غير مسبوقة من المستقبل، فها هو نظام التقاعد يتهاوى أمام أنظارهم بسبب عجز الدولة عن حمايتهم. وهو ما يشكل عاملاً إضافياً لعدم الاستقرار في البلاد.
ويُشكل سن التقاعد معياراً أساسياً لمدى احترام الدولة لمواطنيها، وسعيها لتأمين الحماية لهم بعد سني الخدمة. ففي وقت رُفع سن التقاعد في فرنسا من سن 62 سنة إلى 64 سنة، مع الحفاظ على المكاسب والتقديمات للمتقاعدين. يختلف العنوان في لبنان، إذ يجهد هؤلاء لتحقيق الحد الأدنى من ضرورات العيش الكريم في ظل الانهيار المتسارع لسعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي.
في لبنان، وفق أرقام "الدولية للمعلومات"، يُقدّر عدد المتقاعدين من القطاع العام في لبنان بـ 120 ألفاً، غالبيتهم من المعلمين والعسكريين. هؤلاء انقلبت حياتهم رأساً على عقب في السنوات القليلة الماضية، بُعيد تفشي وباء كورونا وتعاظم الأزمة الاقتصادية التي أهدرت حقوقهم كما باقي اللبنانيين.
فقدان التقديمات والخدمات
تزداد معاناة المتقاعدين في ظل الانهيار المالي وبلوغ الدولة عتبة الإفلاس، ويعتقد تيار كبير من هؤلاء أنهم بحاجة إلى "معجزة" لتحسين أوضاعهم. فقد وصلت الأجور التقاعدية لبعض الموظفين السابقين مستوى 20 دولاراً أميركياً، مع فقدان التقديمات الصحية، والاستشفائية، والتعليمية في وقت هم في أمس الحاجة إليها بفعل تقدمهم بالسن وعدم توافر مصادر دخل أخرى.
تونس: معاشات لا تكفي تأمين النفقات الضرورية
"نحن الذين حاربنا لنيل الاستقلال تونس، وكنا نظن أنه سيتم تكريمنا، ولكن وقعت إهانتنا".. بهذه الكلمات لخص أحد المتقاعدين في تونس أوضاع أمثاله ممن خرجوا على المعاش.
تضغط الأزمة المعيشية في تونس على أكثر من مليون متقاعد ممن يتقاضون معاشات لا تتجاوز 400 دولار، بينما تغيب البرامج الرسمية لتخفيف الأعباء على هذه الفئة التي ينحدر جزء منها نحو الفقر، بسبب عدم القدرة على مجابهة الغلاء وتداعيات انفلات التضخم.
وتُعد شريحة المتقاعدين في تونس من بين أكثر الشرائح الاجتماعية تضرراً من الأزمة الاقتصادية، إذ تواجه الغلاء برواتب ضعيفة، فضلاً عن تأثرها بتراجع الخدمات الأساسية التي يحتاجها المسنون، ولا سيما الرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي.
ويشكو المحالون إلى التقاعد عموماً من عدم قدرتهم على مجابهة سيل المصاريف، ما يدفع العديد منهم إلى البحث مجدداً عن عمل لتوفير دخل إضافي.
ويبلغ عدد المتقاعدين في تونس مليوناً ومائة ألف متقاعد، تصرف معاشاتهم من صندوقين وهما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للمتقاعدين من القطاع الخاص والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية للمتقاعدين من القطاع الحكومي.
رواتب زهيدة لا تكفل حياة كريمة
يؤكد المتقاعدون أن رواتب نهاية الخدمة في تونس ضعيفة جداً ولا تكفل عيشاً كريماً لشريحة واسعة من المجتمع. ويقدر معدل معاشات المتقاعدين من القطاع الحكومي بـ1200 دينار (387 دولاراً) في حين لا يتجاوز في القطاع الخاص 850 ديناراً (274 دولاراً) وفق بيانات رسمية لوزارة الشؤون الاجتماعية.
إن أكثر من 40 في المائة من المتقاعدين في تونس في حاجة إلى مساعدات عائلية لتأمين نفقاتهم المعيشية، وذلك بسبب وضعهم المالي الصعب، وفقاً لبيانات رسمية كشف عنها مركز الإحصائيات الديمغرافية بمعهد الإحصاء الحكومي، إذ يضطر هؤلاء إلى طلب مساعدات مالية من أبنائهم غالباً.
المتقاعدون في العراق.. أوضاع صعبة ومطالب تنتظر الاستجابة
يعيش المتقاعدون في العراق أوضاعاً صعبة، إذ يأمل العديد منهم بالاستجابة لمطالبهم بتأمين الحياة الكريمة بعد سنوات أفنوها في العمل، في وظائف لم تنصفهم .
تتلّخص مشكلة المتقاعدين، بعدة قضايا متفرعة، لكنها قائمة على محور رئيسي يتعلّق بضعف الرواتب بشكل عام، وكذلك “انعدام العدالة والتفاوت بين رواتب المتقاعدين المتناظرين بعدد سنوات الخدمة".إذ تعدّ رواتب المتقاعدين القدامى أقل بكثير من نظرائهم في الشهادة والخدمة من المتقاعدين الجدد.
قانون يكرّس اللاعدالة ومواد غير مفعلة
ويعاني المتقاعدون في العراق من عدد من المصاعب التي يتعلق أبرزها بقضية الراتب الزهيد، إضافة إلى إشكالات حول قانون التقاعد.
ومشكلة المتقاعدين مع الحكومة العراقية هي قانونية، إذ لم يتمّ تطبيق المواد القانونية في قانون التقاعد الموحد المقر منذ عام 2014. وعلى سبيل المثال، نصت المادة 36 من القانون على أن تزداد رواتب المتقاعدين بقرار من مجلس الوزراء سنويًا وفق مستوى التضخم في البلد. لكنّ “نسبة التضخم ارتفعت منذ 2014 وحتى الآن، وبلغت القمة في عامي 2019 و2020 بعد فيروس كورونا وكذلك تغيير سعر الصرف والرواتب بقيت مستقرة على مستواها.
ختاماً، تُعد العناية بالحماية الاجتماعية هو مقياس لمدى تقدم المجتمع ونهضته وتماسك مكوناته وترابطها. لكن عربياً، نظراً لغياب آليات دمج مبادئ المساواة الاجتماعية وحقوق الإنسان، تتعرض شريحة المواطنين الذين وصلوا إلى مرحلة الشيخوخة من التهميش الحقوقي والصحي.