المقبرة.. قصة أُم فلسطينية قدّمت أبناءها شهداء في قوافل الحرّيّة
د. سناء الشعلان
لا تستطيع الحاجّة رشديّة أن تُحصي أحزانها الفلسطينيّة؛ فأحزان الفلسطينيّ لا تُحصى ما دامت لعنة الاحتلال الصّهيونيّ تنهش ماضيه وحاضره ومستقبله، كذلك لا تستطيع أن تُحصي عدد من فقدتْ من أحبّة من أقارب وجيران وأصدقاء بين قتل وسجن ونفي وتعذيب ومرض وتشويه واختطاف، ونكاية بعدوّها الغاشم فهي تصمّم على أن لا تذكر علناً عدد من قدّمت من أبنائها شهداء في قوافل الحرّيّة، وإن كان قلبها يحصيهم في كلّ لحظة بحرقة وتوجّد وفقد، فهم ثلاثة من زينة الشّباب، كانوا مثل سنابل فرعاء نديّة شهيّة عندما قصفهم العدوّ الصّهيونيّ الواحد تلو الآخر دون أن يرأف بشبابهم المُرتجى أو بآمال أمّهم التّي أفنت سنين شبابها عاكفة على يتمهم وفقرهم.
لم يرها أحد في يوم تبكي أحداً من أبنائها، وكانت تصمّم على أن يناديها أهل الحيّ باسم أمّ الشّهداء، وتتيه فخراً كلّما روت بالماء وبدموع العينين زيتونات قبورهم، وداعبتها بانكسار يتعالى على زفراتها اللاّهثة المفطورة على ألم عملاق.
أمّا اليوم فهي لم تخجل من أن تنتحب، وأن تبذل دموعها سخيّة مدرارة وهي تعانق زيتونات بستانها، وتتشبّث بجذع أكبرها لعلّها تعصمها من أيدي جنود الصّهاينة الذين داهموا القريّة من طلوع الشّمس، وعاثوا تقتيلاً في أشجارها قبل أن يجرّفوا أرضها، ويلقوا بأهلها جميعاً خارجها حفاة مذعورين بحجّة تملّك أراضيهم من أجل بناء الجدار العازل. لكنّها على الرّغم من جبروت رفضها الأبيّ للرّحيل وجدت نفسها شعثاء غبراء دون غطاء رأسها الأبيض ودون بيتها أو بستانها أو زيتوناتها الوفيرة بل دون قريتها كاملة، ففي ساعات قليلة كانت معظم أراضي القرية مصادرة، وكانت الأراضي الزّراعية جرداء مغتصبة مجرّفة من أشجارها ومن فرحها، فغدت القرية دون سكّانها بعد أن شطر مخطّط الجدار الفاصل القرية إلى نصفين؛ نصف صغير يسجن خلفه حشداً عظيماً من أهلها، والآخر يعزل أمامه مقبرة القرية الباقي الوحيد منها بعد أن غدت كلّها خلا المقبرة خلف الجدار العازل ذي الأسلاك الشّائكة والكلاب والبنادق والجنود الصّهاينة.
وحدها الحاجة رشديّة من بقيت في القرية المختزلة في المقبرة بعد هذا التّقسيم الجائر السريع الذي نهشها، إذ ظلّت متشبّثة بأرضها، ورفضت الرّحيل لتكون شهيدة جديدة تزفّ إلى المقبرة وإن كانت لا تزال على قيد الحياة!
أمضت أيّاماً قصيرة في مثواها الجديد موزّعة بين أبنائها الأرواح الثّاوين في القبور، وبين شجراتها الزّيتونات المرسلات قتلى على أرض المقبرة بعد أن رحّلتهم إلى جانبها، وفي جنباتها ذلك الحقد المرجل على ذلك الجدار الغاشم الذي بات ينمو بتوحّش أمام عينيها ليحرمها من قريتها وأهلها وتاريخها المديد.
المقبرة هي آخر من تبقّى لها من عالمها المتواري قهراً خلف الجدار، وهي هنا وحيدة لا تملك سوى شجاعتها وإصرارها على البقاء، وفأسها آخر من رافقها في دربها نحو زيتوناتها، تحدّق في فأسها العتيد المخلوع جانباً، تتفرّس مقبضه الخشبيّ الموشّى بمزق جلد يديها، تتأبّطه، وتحكم ربط غطاء رأسها، وتحزّمه بأطراف ثوبها، وتخطو أوّل خطواتها نحو الجدار، خطواتها ثابتة وسريعة تقصد أن تنهال بفأسها على الجدار تحطيماً وتهميشاً، تقترب أكثر من جنود العدوّ الذين يهرعون هروباً نحو البعيد من وجه امرأة عجوز تحمل فأسها وغضبها وانتقامها المستعر، وخلفها أجساد تجرّ أكفانها، وتحمل فؤوساً مهدّدة بها وهي تكاد تنقضّ على الجدار، وفي الأفق تلوح المقبرة بقبور مفتوحة قد غادرها الشّهداء إكراماً لدموع الحاجة رشديّة بغية مساعدتها في تحطيم الجدار العازل.