لتخليد رسالة عاشوراء
مسرح التعزية.. تجسيد لواقعة الطف الأليمة
المسرح أحد الفنون الجميلة التي تلامس روح المشاهد، وإذا كان الأداء جيّدا فانه يؤثر في أعماق النفس، وللعرض المسرحي أنواع مختلفة، منها العرض على خشبة المسرح، والمسرح الدرامي ومسرح الشارع، والمسرح التلفزيوني، ومسرح التعزية الذي نشهده عادة في شهر محرم الحرام بما أنه يتطرق إلى واقعة الطف الأليمة واستشهاد الإمام الحسين (ع) وأصحابه الأبرار، فيصوّر المشاهد المـُـبكية التي يعتصر لها القلب عند مشاهدتها وما جرى على أهل البيت عليهم السلام. في الأيام الأولى من شهر محرم الحرام لهذا العام شهدنا عرض برامج مختلفة في إيران والعالم الإسلامي، ومنها برنامج "صوت ملائكة العرش وتكاليف أهل الأرض" (نواي عرشيان ومشق فرشيان)، التي أقيمت في ساحة "مسرح المدينة" بطهران، واستضافت عروضا لمسرح التعزية. كانت هذه البرامج حدثاً مؤثرا أقيم في محرم هذا العام وفي العقد الأول من الشهر ليكون حدثاً يبقي الطقوس والفنون التقليدية على قيد الحياة في ظل تعاليم واقعة الطف الاليمة، وقد تم تقديم هذه البرنامج من 19 إلى 28 يوليو الموافق اليوم الأول من محرم الحرام إلى اليوم العاشر منه.
مسرح "التعزية"... أحد طقوس عاشوراء
كل عام، يحيي المسلمون الشيعة ذكرى عاشوراء، في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام بحسب التقويم الهجري، وتتزامن مع واقعة مقتل الامام الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم السلام، على يد جيش يزيد بن معاوية في كربلاء في السنة الواحدة والستين هجرية. ترتبط الأيام العشرة الأولى من شهر محرم بالحزن والعزاء، فيمارس خلالها الشيعة شعائر دينية مختلفة.
كثيرة هي الشعائر التي تتمّ تأديتها في هذه الفترة، لعلّ أبرز ما قد يخطر على بالنا هو زيارة ضريح الإمام الحسين (ع) وإضاءة الشموع وقراءة مقتل الإمام حسين (ع)، وإقامة المجالس الحسينية واللطميات.
ولعلّ الجميع يربط دوماً عاشوراء باللطم والدم والمجالس الحسينية، إلا أن الشعائر لا تقتصر على ذلك، فتضمّ أيضاً مسرح التعزية، الذي يقارنه البعض بالتراجيديا اليونانية، أو النصوص الدينية البابلية، أو حتى مسرحيات الأسرار الدينية أو الأخلاقية، التي كانت تعرف في أوروبا خلال القرون الوسطى.
وتتسم هذه الممارسات بأهمية كبيرة، لأنها تذكّر باستشهاد الإمام الحسين (ع) الذي يعتبر رمز النضال ضد الظلم. كما أنّها تحوّلت إلى جزء من التاريخ الديني والاجتماعي. وتقام في العديد من الدول العربية والإسلامية، من بينها العراق ولبنان ومصر والبحرين وإيران وباكستان والهند وغيرها.
مسرح التعزية في ايران
التعزية هي مراسم دينية شعبية على شكل مسرحية. وجدت جذورها في إيران، إلا أنها تُنظّم أيضاً في لبنان والعراق. ويرّجح أنه في السنوات التي تلت استشهاد الإمام الحسين (ع)، أي في نهاية القرن السابع، بدأ إحياء مراسم استشهاده، لكن هذه الممارسة تكثّفت مع تأسيس الدولة الصفوية (1501-1722) في ايران، لتبلغ ذروتها في بداية القرن التاسع عشر مع الدولة القاجارية.
ومنذ الصفويين، باتت مأساة كربلاء تُلعب في عشر تعزيات تمتدّ على مدار عشرة أيام خلال شهر محرم. ولا شك أن اليومين الأخيرين يتّسمان بالأهمية الأكبر، والتعزيات الأخرى تساهم في تأجيج المشاعر وصولاً إلى لأحداث الدموية. وتتوج هذه التعزيات في اليوم العاشر، الذي استشهد فيه الإمام الحسين (ع) واهل بيته واصحابه.
وتكون نصوص التعزيات غالباً على شكل حواري ومتداخل مستنبط من واقعة الطف، أي معركة كربلاء، ولا تبتعد عن حقيقتها، وتكون أحياناً على شكل نثر أو شعر بأوزان عروضية مبسطة.
ولا يؤدي الأدوار عادة ممثلون محترفون، بل ناس عاديون. حتى أن التعزية تعتمد على مر السنين العديد من الملابس التي تساعد المشاهد على فهم أكبر لما يجري: فـ "الأشرار"، أي أتباع يزيد يرتدون الأحمر، في حين أن أفراد عائلة مناصري الإمام الحسين (ع)، يتشّحون باللون الأخضر.
وفي إيران ودول أخرى، كُتبت العديد من المسرحيات المستلهمة من ملحمةكربلاء المقدسة، حول حادثة معينة منها، أو حول قصة أحد أعضاء عائلة النبي (ص) والإمام علي (ع) أو أنصارهما.
تحمل التعزية القيم الفنية والنفسية والسياسية على حد سواء، بحسب ما كتبه صفير. وعلى الرغم من أن مسرح "التعزية" تطوّر في إيران فقد حُظر عام 1935 حتى الستينيات، فانتقلت المسرحيات إلى القرى والمناطق النائية حيث كانت تُعرض سراً.
دموع متدفقة في عيون المعزين
في اليومين الثامن والتاسع من شهر محرم عند إقامة هذه البرنامج، الذي لاقى استحسان الجمهور، أظهرت العيون الباكية والدموع المتدفقة. استمع الجمهور الخاص بهذه البرنامج في الليلة الثامنة من الحدث مرة أخرى إلى موسيقى عاشورائية وشهدوا أداء فرقة "ضفة العاشورائيين" في عزف الصنج والدمام.
قرأ التعزية أحمد عزيزي بمجلس التعزية في الليلة الثامنة، وشهد هذا المجلس استشهاد علي أكبر (ع)، مما أثار البكاء في عيون الجميع، وفي النهاية، بدأ محمد رضا معجوني، الراوي القوي، في سرد قصة علي الأكبر (ع).
في اليوم التاسع من البرنامج مجموعة "ضفة العاشورائيين" إستضافت الجمهور بـ "جاووش خواني" و "شروه خواني"، وهو طقس ديني بوشهري، وبعد ذلك أدى أحمد عزيزي ومجموعته مشهد استشهاد أبو الفضل العباس (ع)، وكان الحضور يشاهد هذه العروض بقلوب حزينة.
كما قرأ حسين ظاهري وسط ترحيب الناس خطبة السيدة زينب (ع)، وأغرق الجميع في رهبة أحداث يوم عاشوراء.
وفي الليلة العاشرة من البرنامج حضر وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي محمد مهدي إسماعيلي إلى مسرح المدينة وشاهد مسرح التعزية، وقال: "العمل العملي لدعم تقاليدنا الفنية الأصيلة هو الترويج لهذه الطقوس وأفضل وقت هو محرم وصفر".
مسرح التعزية في لبنان
أما في لبنان، فظهر هذا النوع من المسرح في مطلع القرن العشرين، عندما وصل إلى مدينة النبطية الجنوبية عدد من التجار الإيرانيين، يقومون بتأدية مراسم ذكرى عاشوراء على طريقتهم الخاصة، أي بتمثيلية باللغة الفارسية تروي واقعة كربلاء.
وكان يُسمح بهذه التظاهرة للجالية الإيرانية في النبطية وباللغة الفارسية إلى أن حضر عام 1917 الطبيب إبراهيم ميرزا الإيراني، واستقر في عاصمة جبل عامل وترأس الشعائر الشعبية لذكرى عاشوراء. وإبان انسحاب الحكم العثماني من لبنان، وضع أول حوار بالعربية لتمثيلية عاشوراء.
وفي اليوم العاشر من محرّم عام 1921، قامت مجموعة من الشباب اللبناني بتمثيل واقعة الطف للمرة الأولى في النبطية، واستمرت المسرحية تقام على مسرح خشبي شعبي في ساحة البيدر في النبطية حتى عام 1971، تحت إشراف النادي الحسيني في المدينة. بعدها، أصبحت تقام على مسرح شعبي كبير وترافقها مجالس التعزية.
وفي السنوات الأخيرة، شهد المسرح العاشورائي تحولات نوعية، على صعيد مقاربته ليكون مثالاً للأجيال الجديدة. عام 2015، أعدّت مدينة النبطية مسرحية "قصة جان"، خادم الحسين، للكشف عن طريقة تعاطيه مع القضايا اليومية. وبحسب ما قاله إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، فإن المسرحية "مخصصة للأطفال، وتعدّ التجربة الأولى للمسرح العاشورائي، لأننا نسعى لأن تكون ذكرى عاشوراء فرصة لزرع وتكريس مفاهيم تربوية وحياتية وأخلاقية تتوارثها الأجيال في حياتها اليومية".
مسرح التعزية في العراق
إن البذور الأولى لمسرح التعزية في العراق لاشك تعود إلى الطقس الديني، والشيعي تحديداً، ولعل مسرحية الفنان كريم رشيد (الحر الرياحي) التي قدمت من على خشبة المسرح الوطني بكادر من طلبة كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل أوائل عقد التسعينيات الماضي تمثل أبرز عرض مسرحي متكامل يتناول بصورة مباشرة بعض جزئيات واقعة عاشوراء.
وتوقّف مسرح التعزية تدريجياً في بداية سبعينيات القرن الماضي، ليختفي كلياً عام 1979 عندما تسلّم صدام حسين الحكم رسمياً، فشمل الحظر كل المراسيم من قراءة الأناشيد الدينية والمشاركة في مجالس التعزية واللطميات، لتعود هذه الشعائر في السنوات الأخيرة.
وكما يقول "عبد الخالق كيطان": "بالطبع فقد صارت الظروف الحالية للعراق مناسبة كثيراً للعودة إلى الجذور التاريخية لفن التراجيديا في الشرق الأوسط، ومن ضمن تلك الجذور واقعة كربلاء بكثافة حضورها المأساوي وقدرتها على محاكاة العصور على اعتبار أنها تتناول الثنائية الأزلية ذاتها: الخير والشر، في سياق روائي مأساوي ومثير".
وأما في هذه السنة شهدنا لقطات مؤثرة جداً من إقامة مسرح التعزية في العراق، حيث أن حين أداء العرض وعندما كان ممثل شخصية الإمام الحسين (ع) ينادي "هل من ناصر ينصرني؟"، فذهب الشباب والناشئون بحرارة إليه وهم يريدون نصرة الإمام الحسين(ع) حيث أدى مشهد مبكي جداً، وكذلك قامت فتاة صغيرة وهي تبكي جداً تلتمس لممثل شخصية شمر أن يترك استشهاد الإمام الحسين(ع)، وهكذا تبقى ملحمة الإمام الحسين(ع) خالدة إلى يوم القيامة في قلوب جميع محبيه.