«إسرائيل» التي تنقلب على نفسها
شرحبيل غريب
كاتب ومحلل سياسي
بزخم كبير، عادت التظاهرات إلى شوارع "إسرائيل" مرة أخرى، رفضاً للتعديلات القضائية، واحتجاجاً على خطة حكومة بنيامين نتنياهو لتقويض صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا للأسبوع الـ27. وقد طالت التظاهرات للمرة الأولى مطار بن غوريون، ووصلت إلى حد إغلاق شوارع رئيسية كبيرة في "تل أبيب".
عودة الاحتجاجات داخل "إسرائيل" بهذا الزخم جاءت بعد تصديق الكنيست الإسرائيلي في القراءة الأولى على الحد من صلاحيات القضاء تجاه قرارات حكومة نتنياهو، وسط مطالبات داخلية كبيرة بتأجيلها وانتقادات دولية وأميركية باتت تزيد الأزمة داخل "إسرائيل" وتهدد بخسارة مؤكدة لدعم الإدارة الأميركية المعتاد، بعدما باتت غير راضية عن سلوك حكومة نتنياهو، ما يشير إلى أن دعوة البيت الأبيض لنتنياهو باتت الآن بعد هذه التطورات أبعد من ذي قبل.
زخم المعارضة الإسرائيلية يعود من جديد، والمعارضة تزداد تشدداً وشراسة في مواقفها ضد نتنياهو وحكومته، في وقت باتت خطة التعديلات القضائية ماضية في خطاها لإلغاء ما يسمى إسرائيلياً "حجة المعقولية"، وهو ما يعكس رضوخ نتنياهو لأعضاء حكومته اليمينية المتطرفة ومخططاتها وأهوائها في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة من جهة، وتنفيذ مخططاتها ضد الفلسطينيين بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة وسن التشريعات التي تشجع على العنصرية ضدهم من جهة أخرى.
راية الديمقراطية الإسرائيلية الكاذبة باتت عبئاً يثقل كاهل "إسرائيل" ضد حكومة يمينية متطرفة تمثل عنواناً لهذه التظاهرات. أما الشارع الإسرائيلي الغارق في وهم الديمقراطية، فقد بات غارقاً في أزمات متعددة عنوانها الانقسام سيد المشهد، ولا سيما الأزمة الاقتصادية، وهي الأبرز، إذ إن الأرقام والإحصائيات الصادرة عن وكالات دولية ومراكز أبحاث متخصصة تشير جميعها إلى ذلك. ووفقاً لموقع "ذا ماركر"، فإن خسائر "إسرائيل" الاقتصادية منذ الإعلان عن خطة التعديلات القضائية مطلع العام الحالي بلغت قرابة 40 مليار دولار. وثمة أسئلة تطرح نفسها تجاه المشهد الإسرائيلي وعودة التظاهرات في وجه حكومة نتنياهو، أولها: لماذا كل هذه التظاهرات والاعتراض على ما يسمى قانون الإصلاح القضائي؟ ماذا بعد تمرير القانون في القراءة الأولى؟ وما الخيارات في "إسرائيل" إزاء ما وصلت إليه التطورات الداخلية؟
ما يعرف بـ"حجّة المعقولية" يمنح المحكمة العليا الإسرائيلية صلاحية فرض رقابة قانونية على الإجراءات والقرارات التي تتخذها حكومة نتنياهو ومؤسساتها، وإلغاؤها يعني تحرر الحكومة من رقابة المحكمة العليا، ما يمنحها حرية مطلقة في اتخاذ القرارات التي تروق لها على صعد مختلفة سياسياً وقانونياً، وحتى في السياسة الخارجية. أما داخلياً، فالتشريع سيُعطَل إلى درجة كبيرة، نظراً إلى حال التأثير في الجهاز القضائي في "إسرائيل"، وهو ما يمهد لمزيد من تفشي الفساد داخل أركان "دولة" الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يعني أن "إسرائيل" التي ادعت الديمقراطية الزائفة لأكثر من 7 عقود وصلت اليوم إلى ذروة الديكتاتورية.
ما يجري في "إسرائيل" يعطي مؤشرات قوية لأزمة حقيقية ستؤدي إلى حرب أهلية مقبلة لا محالة في ظل حال الاحتقان والاحتراب الداخلي المتصاعد أمام إصرار نتنياهو على تمرير التعديلات القضائية. هذا الاستشراف ينسجم مع تصريحات السفير الأميركي في "إسرائيل" مؤخراً بأنّ الأوضاع الداخلية في "إسرائيل" وصلت إلى مرحلة الفوضى الحقيقية.
عند التوقف أمام الأزمة في "إسرائيل"، من الضروري النظر إليها نظرة شمولية واسعة. هذه الأزمة ليست أزمة قضاء وإصلاحات فحسب، بل هي أزمة بنيوية أيضاً تضرب مكوناً أساسياً في "إسرائيل"، المتمثل في صراع بين شريحة العلمانيين الذين عاشوا فيها على نهج علماني من دون أي قيود يهودية دينية وتيارات دينية متشددة تسيطر على الحكم فيها، وإدراك المعارضة أن العقود السبعة التي عاشوها تحت عناوين الديمقراطية باتت سياسات الحكومة تهددها بخطر حقيقي نحو تحويل "إسرائيل" إلى دولة يهودية دينية، وهذا يعد تناقضاً لأحد أهم الأسس التي نشأت عليها "دولة" الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 كـ"دولة" ادّعت الديمقراطية.
وبات نتنياهو، إزاء تعمق الأزمة الداخلية، يعيش في حالة رعب حقيقي جراء إعلان عدد من الطيارين الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي الذي يعتبر القوة الضاربة المركزية في "إسرائيل" تأييدهم العلني والواضح للتوقف عن الخدمة العسكرية، كرد على مضي الحكومة الإسرائيلية في ما يسمى بمشروع الإصلاحات القضائية.
وفي حال تنفيذ هذا التهديد، فهذا يعني أن "إسرائيل" ستعاني شللاً حقيقياً في وقت تعتمد بشكل أساسي على خدمة طياري الاحتياط، لا على طياري الخدمة النظامية، في ظل تحديات كبيرة تواجهها على جبهتي لبنان وفلسطين في آن واحد، وحال الرعب الذي يعيشه نتنياهو ينطلق من الخوف من تحميله مسؤولية فشل جديد أو هزيمة جديدة متوقعة لـ"إسرائيل" في حال تفجرت مواجهة عسكرية على أي من الجبهات الساخنة.
كما يعيش نتنياهو أزمة داخلية ورعباً في آن واحد جراء إعلان طيارين سلاح الجو وقطاعات أخرى عزمهم على وقف الخدمة العسكرية، ويعيش أيضاً أزمة خيارات لا يستطيع إنكارها أو إخفاؤها، وربما تمريره خطة ما يسمى الإصلاح القضائي يعفيه من قضايا الفساد والملاحقة والسجن.
فالمشهد في "إسرائيل" وصل إلى نقطة اللاعودة، وتوصيف واقع الحال حول الانقسامات العميقة والشرخ السياسي والمجتمعي داخل "إسرائيل" لا يختلف عليه اثنان، والأصوات التي تتحدث عن عمق الخلاف والانقسام داخل "إسرائيل" باتت في تزايد، وخرجت عن المحيط الداخلي في "إسرائيل"، وهذا يعكس استفحال الأزمة الداخلية الإسرائيلية، بما يؤشر إلى أن مشهد التفكك آتٍ لا محالة وسط بيئة المتناقضات والتحديات التي تعصف فيها، سواء داخلياً أو حتى اضطراب العلاقات خارجياً. ومن المهم هنا التوقف عند التصريحات الإسرائيلية التي جاءت على لسان أمير بوخبوط لموقع "واللا" الإسرائيلي، التي تنسجم أيضاً مع حقيقة واقع "إسرائيل" هذه المرحلة، والتي قال فيها إن واقع "إسرائيل" أصبح أقرب من أي وقت مضى من تصريحات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عام 2000 عندما قال إن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".