شكوك في مساعي بايدن لتوظيف الهند ضد الصين وروسيا
جعفر الجعفري
كاتب ومحلل سياسي
ركّزت مراسم الاستقبال التاريخي لرئيس وزراء الهند ناريندرا مودي في البيت الأبيض على الأبعاد الشكلية الاحتفالية: السجادة الحمراء بحضور نحو 7 آلاف من المدعوين، وإلقاء الزائر خطاباً أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس، وذلك طمعاً من الرئيس جو بايدن في القفز عن مآزقه المتواصلة، وآخرها إدانة نجله هنتر بتجاوزات ضريبية، وربما أهمها سعيه للخروج من مأزق أوكرانيا بأقل الخسائر، وتوزيع مردود الهزيمة على عدة أطراف دولية.
الرئيس الأميركي أسرف في مديحه لضيفه الزائر وتكريمه، مؤكداً أن علاقات البلدين من بين "الأكثر أهمية وتأثيراً" في العلاقات الدولية النموذجية، وأنها "أقوى وأوثق وأكثر فعالية من أي وقت في التاريخ".
وشرع البيت الأبيض بالتمهيد لغياب مسألة "حقوق الإنسان" بتصريح أدلى به مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قبيل بدء الزيارة بالقول إنّ الرئيس الأميركي جو بايدن لن يعطي دروساً لرئيس وزراء الهند ناريندرا مودي في حقوق الإنسان، واستطرد بأنَّ سياسة بلاده "تقوم على أساس توضيح وجهات نظرنا بطريقة لا نسعى فيها إلى إعطاء دروس" (21 حزيران/يونيو 2023).
وانضمّ الرئيس السابق باراك أوباما إلى فريق التبرير لتجاوز "حقوق الإنسان"، ممثلاً بزيارة رئيس وزراء الهند، قائلاً في مقابلة مع شبكة "سي أن أن" الأميركية: "لقاء (الرؤساء) بالدكتاتوريين أو بقادة معادين للديمقراطية هو أحد تعقيدات الرئاسة الأميركية" (مقابلة مع شبكة "سي أن أن"، 22 حزيران/يونيو 2023). وتنبأ أوباما قبل ذلك ببضعة أيام بأنّ الهند "قابلة للتفكك"، في سياق إشارته إلى حقوق الأقليات الدينية المهضومة، وتحديداً "المسلمين والمسيحيين وأقليات أخرى"، بحسب تغطية شبكة "بي بي سي" من واشنطن. وربما الملاحظة الأهم بهذا الشأن في الساحة الأميركية هي "إغفال" المؤسسات البحثية والنخب السياسية الأميركية التطرق أو كيل المديح لرئيس وزراء الهند، على غير تقاليدها الجمعية، ما يشير إلى أزمة عميقة داخل المؤسسة الحاكمة بشأن تقديم البيت الأبيض "بعض" التنازلات الشكلية لضيفه الزائر، مثل إبقاء باب هجرة الأدمغة العلمية إلى الولايات المتحدة مفتوحاً.
أما طبيعة تلك "التنازلات" المشار إليها، فيمكن الاستدلال عليها في البيان الختامي المشترك الذي أسهب في التركيز على منافع التقنية الحديثة وتعزيز التجارة بين البلدين، إضافة إلى اعتبار النخب السياسية والفكرية الأميركية أن "تجديد التزام الولايات المتحدة لنيل الهند مقعداً دائماً في مجلس الأمن للأمم المتحدة" جائزة كبيرة لرئيس الوزراء الهندي.
واستطردت النخب الأميركية بأن مراسم الاستقبال الاستثنائية في البيت الأبيض والكونغرس لم تسفر عن تحقيق طموح الرئيس الأميركي بكسب اصطفاف الهند ضد روسيا، وفق متطلبات الاستراتيجية الكونية لواشنطن، بل كان تأييد رئيس الوزراء لأوكرانيا "فاتراً في أفضل الأحوال".
أجندة البيت الأبيض رمت إلى تحقيق اختراق ملموس في علاقات البلدين، بالتعويل على تبنّي الهند سياسة تعكس حجم نفوذها للوقوف أمام الصين في منطقة المحيط الهادئ – الهندي، كما تشير السردية الأميركية. في التعاون العسكري بين البلدين وتعزيز أطر المشاركة بينهما طمعٌ في ابتعاد سياسة نيودلهي الطويلة عن الاعتماد على المعدات العسكرية الروسية. وقد جاء البيان المشترك ببند يشير إلى موافقة الهند على استخدام سلاح البحرية الأميركية موانئها لأعمال الصيانة، وإشراكها في المناورات العسكرية المشتركة، وانضمامها إلى تشكيلة الأمن الرباعية التي تضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، الأمر الذي يفتح الموانئ الهندية أمام سفن بحرية تلك الدول.
في بُعد التعاون العسكري، وقّع البلدان عقوداً تجارية كبيرة شملت إنتاج محركات طائرات مقاتلة تصنعها شركة "جنرال إلكتريك" بالتعاون مع شركة "هندوستان" المملوكة للدولة، وشراء مسيّرات أميركية متطورة من طراز "MQ-9B". وغابت مسألة السلاح النووي عن الأجندة. تمتلك الهند صواريخ بالستية تحمل رؤوساً نووية وقطعاً بحرية مزوّدة بالنووي أيضاً. وقد امتلكت قنبلتها النووية بتصنيع محليّ أبهر العالم، وكانت الأولى خارج نطاق الدول الخمس الكبرى؛ الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. واقترب البلدان من إبرام "صفقة نووية كبيرة" عام 2005، لكنها تعثرت نتيجة تمرير قانون في الهند "أعاق شراء" المفاعلات النووية من الولايات المتحدة.
في تعقيدات التبادل التجاري، تدرك واشنطن حاجة نيودلهي إلى شراء النفط الروسي بسعر مخفّض، وبعملتها المحلية الروبية، وانعكاساتها على تحسين الأداء الاقتصادي، وتغضّ الطرف مرحلياً لعدم استفزاز الهند بفرض عقوبات عليها لخرقها الحظر الأميركي.
كما تعوّل واشنطن على استمالة الهند للانخراط في استراتيجيتها الكونية المتصادمة مع الصين وروسيا، بسياسة الإغراء، كما جاء في كلمة الرئيس بايدن الترحيبية، قائلاً: "التحديات والفرص التي تواجه العالم في هذا القرن تتطلب أن تعمل وتقود الهند والولايات المتحدة معاً".
في المحصلة العامة للزيارة، أبقت الولايات المتحدة على سياستها لهجرة العقول والكفاءات العلمية إليها، وربط العجلة الاقتصادية باحتياجات السوق الأميركية، وخصوصاً قطاع الخدمات التقنية، من "مايكروسوفت" وغيرها. أما الهند، التي تنعم بتخريج آلاف الكفاءات العلمية والمهندسين والأطباء سنوياً، فلم تستطع إنشاء شركة خدمات سيبرانية، على شاكلة "مايكروسوفت" أو "غوغل"، وفشلت تباعاً في توفير فرص عمل مناسبة لتلك الكفاءات، ما يحرمها من استقلالية القرار على المديين المتوسط والبعيد. في المقابل، استطاعت الصين إنتاج خدماتها الإلكترونية وشبكة إنترنت خاصة بها تضاهي نظيراتها الأميركية، إن لم تتفوّق عليها، وأبرزها "علي بابا" و"تنسينت" و"هواوي"
و"بايدو".