الآباء جبالٌ ثابتة... والأبناء شهداءٌ راسخون في أرض البطولة
محمد حسين آميدى
هناك آباء من الشيعة اللبنانيين، مثل نبي الله إبراهيم (ع)، قدموا أولادهم على مذبح الشهادة في سبيل الله، نروي في هذا التقرير حكايا أولئك الذين قدّموا فلذات الأكباد، عن الذين ربّوا أبناءهم على حبّ البذل والعطاء إلى حدّ بذل النفس، عمّن أضحت صدورهم وصدور أبنائهم دروعاً للإسلام، تذود عن الأرض والعرض وعمّن ورثوا عن آبائهم حبّ الشهادة بدل المال والجاه والسلطان، عن هؤلاء سأحدّثكم، والحديث يطول..
على ضفافهم أقف، بل أخوض غمار بحارهم لأعرف كيف لم يغادروا الحياة بمجرّد غيابهم. أبحث ثانية عمّن يضيء لنا عوالمنا بأخبارهم وأذكارهم؛ فيضعني البحث أمام جبال ثابتة، قل: رجال راسخون في أرض البطولة. هم الشهداء، وهؤلاء آباؤهم.
خلال 40 عامًا من عمر حزب الله في لبنان، شارك العديد من الآباء إلى جانب أبنائهم في المعركة ضد الصهيونية والإرهاب، ورث هؤلاء الآباء الاستشهاد من مدرسة كربلاء وهم لا يخافون من التضحية بإسماعيلهم على مذبح الشهادة.
أبناء القادة... شهداء
الشهيد "السيد عباس الموسوي" الأمين العام السابق لحزب الله وأحد مؤسسي المقاومة الإسلامية في لبنان، استُهدف مع زوجته وطفله الصغير بصواريخ مروحية إسرائيلية في شباط 1992 م بينما كان إبنه البكر والمراهق "ياسر" يرتدي زي القتال مع شبان آخرين في الجبهة.
والسيد هادي نجل أمين عام حزب الله السيد "حسن نصرالله"(حفظه الله) هو أيضاً أحد أولئك الأبناء الشهداء الذي استشهد في ایلول عام 1997م قبل تحرير جنوب لبنان، في مواجهة العدو الصهيوني، وأُسر جثمانه في أيدي العدو، ولم يقبل والده سيد المقاومة باسترجاع جثمان إبنه وحده بل اشترط عودته في عملية تبادل تشمل بقية الشهداء والأسرى.
الشهید الحاج "عماد فائز مغنية" قائد حزب الله العظیم الذي سرق النوم من عيون العدو الصهيوني لسنواتٍ عديدة، ذلك القائد الجهاديّ الذي كانت ترتعد فرائص الأعداء من مجرّد ذكر إسمه. استشهد "الحاج رضوان" كما يعرفه أبناء المقاومة في عملية معقدة في "كفرسوسة" في دمشق عام 2008م، استشهاد الأب لم يمنع ابنه من مواصلة مسيرته فاتحاً طريق الجهاد كما وعد أمام الملأ يوم التشييع المهيب لوالده في الضاحية الجنوبية، وكما كان يتمنّى، تحقّقت الأمنية، وتلقّى العالم بحزنٍ وفخر نبأ استشهاد "جهاد عماد مغنية" (جواد عطوي) في القنيطرة السورية عام 2015م ومن كان برفقته من المجاهدين من بينهم العميد في الحرس الثوري الإسلامي" محمد علي الله دادي"، فعطاء الدم لا يتوقّف عند هذه العائلة التي قدّمت شهيدين من قبل (فؤاد وجهاد)، لتستمرّ مسيرة الشهادة مع الأحفاد أيضاً.
أبناء سبقوا الآباء
الحاج "سامي مسلماني" الملقب بـ "أبو حسن" الذي شارك في قتال العدو الصهيوني وتحرير لبنان من دنس هذه الاحتلال، شارك أيضاً مع أبنائه الثلاثة في حرب تموز التي استمرت 33 يومًا في صيف م 2006.
أن يعود الحاج "سامي مسلماني" من هذه الحرب وهو يحمل ولديه شهيدين، والثالث جريحاً ليس بالأمر المستغرب. فبعد أكثر من ثلاثين عاماً من الجهاد على جبهات مختلفة، عرف سر عدم استشهاده في الالتحام المباشر مع العدو طوال سنوات عديدة، خصوصاً بعد إصابته إصابة خطيرة في إحدى أشهر المواجهات في تاريخ العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 1982م، في مثلث خلدة. فها هو يقدم على مذبح الشهادة ما هو أغلى من روحه ونفسه.. ولديه. فهو في الأيام الاخیرة من حرب تموز، أصيب بجروح أثناء تصديه لهجوم العدو الصهيوني، واستشهد ولديه "حسن" و "علي" بالعملیة في التاسع من آب (أغسطس) 2006، واستشهد بعد 7 سنوات في الثامن من شهر تموز 2013 م الإبن الثالث للحاج سامي، وهو الشهيد "إبراهيم" في سوريا في مواجهة مع الإرهابيين التكفيريين.
لم ينسَ الحاج ّ المجاهد سامي كلمات الإمام الخميني (قدس) لمؤسسي حركة المقاومة الإسلامية إبان الاجتياح: "مرحلتكم مرحلة كربلائية". وهو يرى، أنّ الشهداء السابقين كلّهم كانوا أنواراً اهتدى بها المجاهدون عبر التاريخ. ويستند في إجابته إلى قول الإمام الخمينيّ (قدس): "كلّ ما لدينا هو من عاشوراء"، فيتساءل، ويعلن باختصارٍ شديد: "إنّ الله منَّ علينا بمحمّد وآله، لذلك يجب أن نكون كربلائيّين، قولاً وممارسة".
وللشهيد "علي رضا اللقيس" قصّةٌ أخرى، فهو قد سبق أباه إلى نيل الشهادة وعلّق وسام الشرف على صدر أبيه في السابع من آب عام 2006م، تاركاً له وصيّة تمنّى له فيها الشهادة، لأنّها "من أعظم الدرجات عند الله" وخاطبه قائلاً: "أشكرك على توجيهي نحو خطّ الجهاد الذي قال عنه الإمام عليّ (ع): "بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه"..". لكنّ القائد حسّان اللقيس أبى أن يخلّ بوصيّة ابنه، فالتحق بركب الشهداء عام 2013م حيث اغتاله غدراً العدوّ الإسرائيلي في محلَّة السان تيريز، ليرتقي شهيداً قائداً بطلاً.
الشهيد اللقيس لم يكن وحده من سبق والده إلى الشهادة، فالشهيد "حسين علي ذيب" (هادي) ارتقى في السابع عشر من شهر نيسان عام 1999م في منطقة الغازية، شهيداً يُرفع به الرأس وتنحني له الجباه، قبل أن يلتحق والده القائد "علي حسن ذيب" المعروف بـ"أبو حسن سلامة" بركب الشهداء القادة في مدينة صيدا بعد ثلاثة أشهر من السنة نفسها (17 تموز 1999م)، ليُحفر التاريخان في سجل المقاومة والشهادة، وتلتقي الروحان في جنان باريهما بعد فراق لم يدم طويلاً.
وفي قائمة العشق الحسينيّ سجّل الشهيد "علي رضا ياسين" (نور) إسمه بأحرفٍ من ذهب، حين ارتقى شهيداً في عين إبل في الثاني والعشرين من شهر أيار عام 1993م، ليلتحق به والده الشهيد "رضا ياسين" (أبو علي رضا) بعد سنتين، ويفوز بلقبَي الشهيد ووالد الشهيد معاً.
أولاد العلماء اللبنانيين قرابين على مذبح الشهادة
بين علماء الدين اللبنانيين شيعةً وسنة، آباء وقعوا إيمانهم العملي بالإسلام وطريق المقاومة بدماء أبنائهم.
الشيخ "أيمن شمص"، أحد علماء الدين الشيعة اللبنانيين، عند سماعه نبأ استشهاد نجله ياسر، سأل الله أن يتقبل أضحيته.
الشیخ خضر الکبش...أولادنا فداءً للإمام الحسين (ع)
وفي مقابلة مع صحيفة الوفاق، صرح الشيخ "خضر الكبش"، أحد علماء السنة في جنوب لبنان، أنه لا يعرف القتال ضد التكفيريين فرقاً بين الشيعة والسنة، وقال: "استشهد ابني محمد في 2 أبريل / نيسان عام 2016 م مع مجاهدي حزب الله في مواجهة المجموعات الإرهابية والتكفيرية".
وأشار الشيخ الكبش:" تعلمنا الثبات على طريق الحق والوقوف ضد الظلم والتضحية بالأرواح وبأحبائنا فداءً للإمام الحسين(ع).
وكذلك أرسل الشيخ "قاسم عبيد" وهو عالم دين شيعي لبناني إبنه إلى مذبح الشهادة في مواجهة مع الإرهابيين التكفيريين.
الشيخ «قاسم عبيد»... قدمت إبني الشهيد هديةً للإمام الرضا (ع)
يقول الشيخ عبيد والد الشهيد علي الرضا في حوارٍ خاص لصحيفة الوفاق:" تربطني علاقة خاصة بالإمام علي بن موسي الرضا (ع)، ولذلك أطلقت على طفلي الأول اسم "علي الرضا" بسبب محبتي وعشقي للإمام الثامن (ع)".
يتذكر الشيخ عبيد خاطرة عن الشهيد: "عندما كان علي رضا في العشرين من عمره تشرفنا بزيارة مدينة مشهد المقدسة، وعندما دخلنا إلى حرم الإمام الرضا (ع) أخذته إلى الضريح أمامي وقلت: يا إمام الرضا (ع)، هذا إبني هدية ونعمة ونور منك، اقبلها لنفسك".
ووفقاً لوالد الشهيد، فقد ولد الشهيد "علي رضا عبيد" في 6 أيلول 1993م بعد عامين من استشهاد عمه الشهيد خضر في قرية قرحا الحدودية شمال لبنان. عندما كان في سن المراهقة، كان يسافر بمفرده من قريته عابراً مسافة طويلة جداً ليصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت للمشاركة في مناورات وتدريبات واستعراض يوم القدس العالمي"، كان يهتم بألعاب الكاراتيه والسباحة والتي تخصص بها وأصبح من المدربين لها".
يصف الشيخ عبيد الشهيد بأنه كان متواضعاً يرتدي لباساً بسيطاً مرتباً ونظيفاً، كان يناديني بالشيخ وأحياناَ ب" أبي"، بعد تخرجه من الثانوية التحق بصفوف المقاومة وشارك في العمليات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية التكفيرية في مناطق "القصير" و "حلب" في سورية، مشاركته الأخيرة كانت في معركة عرسال لتطهير الحدود الشرقية للبنان وسوريا والتي ارتقى فيها شهيداً في صيف عام 2017م.
الشهيد "علي الرضا عبيد"... لو استشهد الجميع يجب أن ننتصر
يذكر الشيخ عبيد آخر حديث له مع ولده :" تحدثت معه خلال المعركة مع التكفيريين، وقبل الاستشهاد بيومٍ واحد.
سألته عما يحدث، وأخبرته لماذا أنت حزين بسبب الأخبار العادية، فكل العيون في لبنان تراقبكم لترى ماذا ستفعلون، فقال لي إنه لا عودة هنا، حتى لو استشهد الجميع، يجب أن ننتصر. تمنيت له التوفيق وقلت إنه يجب أن تتحلى بالشجاعة الحيدرية".
ووفقاً لتصريحات الشيخ عبيد لصحيفة الوفاق، فإنّ تخصص الشهيد علي رضا كان الدفاع الجوي والصاروخي. وكان يقول دائمًا:" لا يمكنني دائمًا البقاء في الصفوف الخلفية ورؤية أصدقائي يتقدمون".
ووفقاً لأصدقائه، وفي يوم استشهاده كان ينقل مع أصدقائه المجاهدين شحنة من الأسلحة بالسيارة إلى الخطوط الأمامية، مع اتباعهم لجميع قواعد وشروط السلامة الأمنية، ولكن العدو الذي تلقى ضربةً قاسيةً وقاصمة من قوات حزب الله ومدفعيته التي دمرت في هذا الهجوم مقاره ومعسكراته، وسياراته وأجهزته المختلفة وكان على وشك الهزيمة، رغب بالانتقام لهزيمته المدوية، فقصف في الساعة العاشرة الشهيد ورفيقه بصواريخ متطورة من الغرب ما أدى إلى استشهادهما". وقال والد الشهيد إنّ الشهيد كان يذكر الجميع دائمًا أنه يقف إلى جانب الإمام علي (ع) والإمام الحسين (ع)، المتدينون والمؤمنون، وعلينا أولاً أن نعتني بأنفسنا، وثانيًا يجب أن نقاتل هؤلاء التكفيريين بقوة خارج مدننا وأرضنا وندمرهم، لأنهم إذا دخلوا لبنان مرةً أخرى سيشعلون النار في كل مكان ويقتلون الناس من كل الأديان والمذاهب".
الشهيد أورث بيتنا عزاً وفخراً وكنزاً من الشموخ
يواصل الشيخ عبيد حديثه عن شعوره بالشرف والعزة باستشهاد إبنه، قائلاً:" ورد في كثير من الروايات الإسلامية وآيات القرآن، إنّ أول قطرة من دم الشهيد تسقط على الأرض تمسح كل ذنوبه وتوصله لمرتبة الشفاعة، صحيح أن قلبي وعائلتي يشتاقون إليه كثيرًا ، لكن مكانته الرفيعة تجعلني أشعر بالفخر والعزة".
ويشير الشيخ عبيد إلى:" أن الشهيد كان منذ صغره عاشقًا ومحبًا ومشدودًا لخط المقاومة الاسلامية، وهو الخط الذي انتهجه عمه الشهيد خضر عبيد قبل أكثر من 20 عامًا.. وأورث البيت عزًا وفخرًا وكنزًا من الشموخ"".
وختم أستاذ الحوزة الشيخ عبيد بالقول:" إنّ الاستشهاد حلمٌ لكل مؤمن وحياة الشهيد ومكانته في الآخرة تختلف كثيراً عن حياة الموتى الآخرين، لذلک نحن مثل نبینا ابراهیم (ع) وسيد الشهداء (ع) لا نخاف أن نأخذ أبناءنا الی مذبح الشهادة في سبيل الله" .
ختاماً نستمدّ من آباء هؤلاء الشهداء القوّة والصلابة والعزم، ونزداد قناعةً أنّ خيار الموافقة على إرسال أبنائهم إلى الخطوط الأماميّة لم يكن صدفة أو قراراً عشوائيّاً، إنّما هو نتاج قناعة راسخة وتربية ثابتة على مبادىء التضحية والإيثار في سبيل نصرة الحقّ ومقاومة العدوّ؛ فالأهل كانوا البوصلة لأبنائهم في درب الشهادة، فلا حسرة على الفقد، بل شوق كبير للقاء قريب مع الشهداء في جنّات الخلد إن شاء الله.