هل يمكن للولايات المتحدة العبث بالاتفاق السعودي الإيراني
هدى رزق
كاتبة ومحللة سياسية
حقّقت الصين إنجازاً ملحوظاً على مستوى الديناميكيات الأمنية في منطقة الخليج الفارسي، من خلال توسّطها في إبرام الاتفاق بين إيران والسعودية، فلا شكّ أنّ الدولتين محوريتان في العالم الإسلامي، مختلفتان على الصعيد الأيديولوجي وعلى قضايا مركزية كالقضية الفلسطينية وحدود نفود كل دولة. إنما الضرورة تقتضي القيام بتفاهمات وتنازلات من كلا الطرفين.
الطرح الذي جاء به الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قائم على تحييد العقوبات ضمن خطة سياسية اقتصادية تقوم على التوجّه شرقاً، بالتركيز على العلاقة مع روسيا والصين، وأولوية الجوار، من أجل الوصول إلى مخارج اقتصادية وسياسية. أما الأفكار التي تداولتها النخبة السياسية والفكرية الإيرانية فهي أدّت إلى ضرورة التوجّه نحو الانفتاح على السعودية وإقامة علاقات ودية معها.
ترى السعودية أن طموحاتها ومشاريعها والخطط الاقتصادية الضخمة لا يمكن إنجازها في بيئة متوترة إقليمياً مع إيران وهي إحدى مصادر الطاقة الحيوية في العالم، وتسيطر على مضيق هرمز، لذلك تعتبر أن التسوية ضرورية من أجل الطموحات الاقتصادية السعودية.
أما بيجينغ فهي تعوّل على النفوذ الاقتصادي الذي تتمتّع به في المنطقة لتعزيز دورها في التأثير على الديناميكيات الأمنية الإقليمية، ومدّ جسور دبلوماسية في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية من أجل حماية مصالحها التجارية. طهران والرياض سعتا قبل الاتفاق إلى تخفيف حدّة التوترات، فالتوجّهات الداخلية لديهما تتلخّص بضرورة إقامة علاقات تفاهم بينهما.
تشعر واشنطن بالقلق حيال الانخراط المتزايد للشركات الصينية في شراكات في مجالَي الموانئ والتكنولوجيا، بما فيها مشاريع البنى التحتية للاتصالات، مثل إنشاء شبكات الجيل الخامس التي تشارك فيها شركة هواوي الصينية. وقد وجّهت تحذيرات إلى حلفائها بأن التعاون مع مثل هذه الشركات قد يعرّض آفاق التعاون الأمني المستقبلي مع الولايات المتحدة للخطر.
أما الوجود العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في المضيق فهو شجّع الصين على ضرورة الحفاظ على أمن المنطقة لحماية مصالحها التجارية، فهي المستورد الأكبر للنفط في العالم، وستصبح الصين، مع تنامي مصالحها في المنطقة، طرفاً فاعلاً أساسياً في أمن المضيق. وهذا ما أكّده الاتفاق السعودي الإيراني، إذ باتت بيجينغ تؤدّي اليوم دوراً أكبر في دعم عملية السلام بين الأفرقاء المتخاصمين في المنطقة.
وقد أسهم توقيعها اتفاقيتَي شراكة استراتيجية شاملة في العامَين 2021 و2022 بين إيران والسعودية على التوالي في تحقيقها موقعاً فريداً قادراً على التأثير بنتائج اتفاق المصالحة. ولا شكّ بأنّ الشرق الأوسط، بفضل موقعه الاستراتيجي عند تقاطع أفريقيا وآسيا وأوروبا، يؤدي دوراً أساسياً في طموحات بيجينغ العالمية، ويُعدّ محورياً في التنافس المتنامي بينها وبين الولايات المتحدة. وفيما تخوض السعودية راهناً عملية إصلاح اقتصادي سريع لتحقيق أهداف رؤية العام 2030، لا بدّ لها من تعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين وتوسيع استثماراتها ما سيزيد الأمر من جاذبية المصالحة، على الرغم من أن نجاح المصالحة سيعتمد في نهاية المطاف على مدى استعداد طهران والرياض لتقديم تنازلات.
موقف واشنطن ومحاولات العرقلة
مند مجيئه، عمل بايدن على مراجعة شاملة للعلاقة مع السعودية، أوقف شحنات الأسلحة في حرب اليمن ولم يوافق على أفكار سعودية في طريقة إنهاء حرب اليمن، وأظهر لامبالاة على قصف أرامكو، واستخدم استراتيجية الغموض في الموقف من السياسات الإيرانية. الأمر الذي أدخل العلاقات الأميركية السعودية في أزمة ثقة غير مسبوقة.
إلا أن الحاجة إلى السعودية عادت وتبلورت بعد الحرب الروسية الأوكرانية وأصبحت ملحة. زار بايدن السعودية وصافح ولي العهد الذي كان يعتبره منبوذاً، وعقد معه اجتماعات. أتى هذا التغيّر مع أزمة الطاقة وارتفاع أسعار برميل النفط إلى أرقام غير مسبوقة، الأمر الذي ضاعف من حدّة التضخّم الذي يؤثر على القيمة الشرائية للمواطن الأميركي ويحمل البنك الفيدرالي على رفع الفائدة.
واشنطن و"تل أبيب" تتوجّسان من هذا الاتفاق وتراقبان خطوات الانفتاح القائمة بين البلدين، وتأثيرها على مستقبل الشرق الأوسط. تحاول واشنطن إعادة صياغة دورها بعد تحوّل اهتماماتها الاستراتيجية إلى المحيط الهادئ، لكنّها تولي أهمية قصوى لتعزيز اندماج "إسرائيل" في الإقليم، وعملية تطبيع الرياض مع الكيان.
جاءت زيارة بلينكن إلى السعودية بعد مضيّ أسبوعين على زيارة جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، لمناقشة العديد من القضايا الإقليمية والأمنية والاقتصادية مع السعودية، ركّز على "منع إيران من امتلاك السلاح النووي". معتبراً أن إيران تشكّل الخطر الأكبر على "إسرائيل" لذلك فإنّ إقناع السعودية بالانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية يشكّل أساساً بالنسبة إلى واشنطن.
السعودية من جانبها عازمة على تخفيف حدّة التوترات الإقليمية مع إيران، إلا أن الرياض لا تزال تعتبر طهران خصماً أساسياً. وقد تؤدي مواءمة المصالح بين السعودية و"إسرائيل"، من خلال تهميش إيران وتأخير محاولات دمجها في اقتصاد المنطقة، إلى عرقلة طموحات الصين الرامية إلى إنشاء منطقة نفوذ خاصة بها في الخليج الفارسي، ما يضعف مبادرة الحزام والطريق الصينية. فيما تخشى "إسرائيل" من احتمال أن تصبح إيران قوة نووية، لأن هذا يؤثر على ميزان القوة بينهما لصالح إيران ومكانتها في المنطقة. فهناك حرب ظل دائرة بينهما منذ سنوات، وهي تأخذ أشكالًا مختلفة.
لا يمكن إغفال العامل الإسرائيلي في موضوع تطوّر العلاقة بين إيران والسعودية، التطبيع بالنسبة لـ "إسرائيل" وسيلة لمواجهة إيران، ووسيلة للاستثمار الاقتصادي، وسوق للبضائع الإسرائيلية، وهذا لا يصبّ في مصلحة دول الخليج الفارسي. كذلك لا يصبّ نزع فتيل التوتر بين السعودية وإيران في مصلحة "إسرائيل" ولا يخدم مصالح أميركا، ولا حتى تقويض حل الدولتين في فلسطين.
السعودية حسمت خياراتها، وأعادت رسم خريطة تحالفاتها الاستراتيجيّة الدوليّة، فنتائج زيارة بلينكن جاءت انعكاساً صريحاً لهذه المُتغيّرات، المملكة استقبلته بتخفيض إنتاج النفط، لرفع أسعاره، بالتّنسيق مع روسيا، وفي تَحَدٍّ صريحٍ للمطالب الأميركيّة برفع الإنتاج وتصريحات حول حرية السعودية في إطلاق مشروع طاقة نووية.
يخشى المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون من تحرير قسم من الأموال الإيرانية البالغة نحو 20 مليار دولار والمتوقّع الإفراج عنها في المرحلة الأولى مقابل تجميد تخصيب اليورانيوم في ظلّ التفاوض الذي تقوده الولايات المتحدة للحد من برنامجها النووي والتوصّل إلى اتفاق غير رسمي وغير مكتوب، والذي يسميه بعض المسؤولين الإيرانيين "وقف إطلاق النار السياسي". فقد بحثت واشنطن مع الأوروبيين و"إسرائيل" تجميد إيران أجزاءً من برنامجها النووي، مقابل تخفيف بعض العقوبات. وستدفع الحاجة كلّاً من السعودية وإيران إلى الاتفاق على إدارة حالة التنافس بينهما وتخفيض مستوى النزاع والصراع بين البلدين، إذا ما أرادت الدولتان تحويل الاتفاق إلى واقع عملي يضمن مصالح كلّ منهما. هذا الاتفاق لا يسرّ الولايات المتحدة ولا سيما أنّ الضامن له هو الصين.
فهل يمكن للسعودية التحرّر من القرار الأميركي، هي فعلت في قراراتها في أوبك وفي تمايزها بالموضوع الأوكراني، فلا شك بأنها ستلجأ إلى رعاية مصالحها في موضوعات حسّاسة سياسية واقتصادية ومحاولة العودة في الشأن الفلسطيني إلى مبادرتها العربية وحل الدولتين قبل الحديث عن أيّ مجال للتطبيع.