فن المقاومة
«أوراق السجن»... قصّة نجاة (1)
للحديث عن "أوراق السجن" في مساحة محدودة ما يحمل على التكثيف، وأيّ تكثيف أكثر جرأة من تجميد الزمن في لحظات تكتب السجن وترسمه؟ هذا ما فعله باسل غطّاس بالكتابة، وما فعله وليد دقّة بالرسم. ونحن، في العوالم الغريبة للإنسانيّات والعلوم الاجتماعيّة، نسعى دوماً إلى تحويل التجريد الكلاميّ إلى صور، وتحويل التجريد الصوريّ إلى كلام؛ في محاولة بائسة لترجمة ’النصّ‘ للآخرين بادّعاء مفاده أنّنا نتقن اللغتين.
اليوم، لدينا وثيقتان في وصف السجن، تدوِّنان تاريخه السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ؛ واحدة بالرسم أنجزها وليد دقّة، وأخرى بالكلام أنجزها باسل غطّاس، ثمّ تقاطعت مصائر صانعَي الوثيقتين في الأسر.
قبل عامين من تفكير باسل في إسعاف الأسرى بهواتف نقّالة، بين العامين 2014 و2016، اعتقد وليد أنّ تصوير حياة الأسرى بالرسم أسهل من الكتابة لتهريبها/ تحريرها إلى خارج السجن. لذا، تقدّم هذه المقالة وصفاً موجزاً لهاتين الوثيقتين، وبعض مفاتيح القراءة من حيث الماهيّة، تقاطع المصائر، القدرة على تحويل الروتين إلى بشارة، تحويل الملل إلى فنّ، استعادة مفهوم الفداء ليصبح السؤال: مَنْ يخلّص المخلّص؟
في الوثيقة الأولى، رسم الأسير في السجون الصهيونيّة منذ عام 1986، وليد دقّة، سلسلة كاريكاتير مكوّنة من 8 صفحات، تحاكي مقاطع كاميرا المراقبة في "سجن هداريم"، التي حصلنا على تصوير هاتفيّ لها رديء الدقّة بعد أربع سنوات على رسمها.
تصوّر الرسومات حياة الأسرى اليوميّة في مقاطع مستطيلة (Panels)، بمعدّل 6 مستطيلات في الصفحة الواحدة، بحيث يعكس كلّ منها جانباً من حياة الأسرى، ويبلغ عددها الكلّيّ 22 مشهداً؛ أي ضعف فصول الكتاب، و5 مقاطع غير مرقّمة، ومقطعاً فارغاً. تصف الرسومات ما تخيّله وليد من مقاطع لشاشة كاميرا المراقبة لغرف أو "إكسات" قسم (3)، الخاصّ بالأسرى الفلسطينيّين السياسيّين، وعددها 40 غرفة.
كلّ مقطع منها يمثّل فاعليّة من الروتين اليوميّ للأسرى في تلك "الإكسات"، التي كان يدرك وليد أنّ كاميرات المراقبة الخاصّة بإدارة السجن تسجّلها على مدار الساعة. لكنّه لم يكمل هذه السلسلة بسبب نقله من "سجن هَداريم" في أمّ خالد المحتلّة، إلى "سجن رامون» في صحراء النقب المحتلّة، ومن ثَمّ إلى "سجن نفحة" المجاور.
توقّف الزمن عند المقطع الفارغ في أسفل الصفحة رقم (8)؛ فلم يتمكّن وليد من استكمال رسم الفعاليّات اليوميّة للأسرى في بقيّة "الإكسات"، إذ كان قد أُبْلِغَ بالنقل بعد الانتهاء من المقطع 22. حينذاك، أرسل وليد الرسومات الفعليّة في بريد الأسرى - أي بالتهريب - من "سجن هداريم" إلى "سجن إيشل" في بئر السبع المحتلّة، ومنه إلى "سجن رامون"، حيث تسلّمها إخوته الأسرى، وأخرجوا منها نسخة عبر تطبيق "واتساب"، هي النسخة الوحيدة التي لدينا الآن.
حين وصل وليد إلى "سجن رامون"، رفض هناك استقباله مَنْ رفض استقباله، ولمَنْ رفض استقباله عباءة من حرير. عندها، سلّم رفاق وليد الأسرى الرسومات له ليخرجها معه إلى "سجن نفحة"، لكنّ تفتيش حقيبته، بتوصية من «جماعة الكابو» على ما يبدو، أدّى إلى مصادرة الرسومات التي يُعْتقَد أنّها أُتْلِفَتْ بعد الاطّلاع على فحواها.
أمّا الوثيقة الثانية، فكانت مذكّرات باسل غطّاس "أوراق السجن"، التي نشرها "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" بعنوان: "دفاتر السجن.. من أروقة الكنيست إلى سجون الاحتلال" (2022)، والتي كتبها في فترة أسره الممتدّة من 2 تمّوز (يوليو) 2017 إلى 27 أيّار (مايو) 2019، في خمسة سجون وسبعة أقسام، وعلى "كَتّابة" أهداه إيّاها وليد دقّة.
یتبع...