الملصق السياسي والقضيّة الفلسطينيّة (1)
يعتبر الملصق من أكثر الأجناس الفنّيّة فاعليّة وتأثيراً في الناس، وتكمن أهمّيّته في طبيعة عناصره من حيث البساطة في الأشكال والرموز المستخدمة، والإثارة البصريّة اللونيّة والشكليّة الّتي تدفع أقلّ عدد ممكن من العناصر التشكيليّة والرموز التعبيريّة والألوان، وهذا يعني قدرة هذا الجنس الغنيّ على إيصال محتواه إلى الملتقّي مباشرة، دون وسيط "أدبيّ"، وتحليل العمل واستشفاف محتواه وإيصاله إلى الناس عبر الناقد.
هذه الخصوصيّة الّتي يتمتّع بها الملصق تعني شيئاً هامّاً بالنسبة لنا، وهو أنّ الملصق لا يحتمل التأويل في المعنى، مثل "لوحة جبل المحامل" أو النحت الحجريّ «نحت الحجرة»، أو الحفر بتقنيّاته المتنوّعة، بل يفترض فيه أن يصل بمحتواه إلى الناس بمنتهى البساطة والتلقائيّة والسرعة، ومن هنا تأتي أهمّيّة الملصق الناجح جماهيريّاً، في الوضوح في الشكل والفكر، والبساطة في العناصر والرموز، والقوّة في التعبير. ولا تقف فاعليّة الملصق عند حدود الدور السياسيّ؛ فالملصق، ونعني بالتحديد الملصق السياسي "التجاريّ"، يلعب أكثر من دور، فهو أيضاً وسيلة تثقيف جماليّة، ولا يمكن أن تتحقّق هذه الأدوار السياسيّة والاجتماعيّة والجماليّة، بمعزل عن حضور الملصق عبر الطباعة وتعدّد النسخ في الشوارع بين الناس. فإذا كانت أهمّيّة الملصق تكمن في خصوصيّته التعبيريّة، فإنّ فاعليّته تكمن بلا شكّ في انتشاره الواسع، طباعته وتوزيعه ولصقه على الجدران ليكون على تماسّ مباشر بالناس.
تفترض مسألة الطباعة من الفنّان الوعي بالإمكانيّات التقنيّة الطباعيّة، فتطوّر الطباعة يلعب دوراً بارزاً في تطوّر الملصق، وإيصاله إلى الناس بمضامينه وجماليّاته؛ فالطباعة الرديئة تحدّ من فاعليّة الملصق الجماليّة وخصوصيّة الإثارة البصريّة والشكليّة واللونيّة، الإثارة الّتي تشكّل عاملاً هامّاً من عوامل جلب اهتمام المتلقّي ودفعه إلى تأمّل الملصق. هكذا تسيء الطباعة الرديئة إلى الملصق وتشوّه الذوق الجماليّ العامّ، فكثيراً ما تستخدم المطبعة ألواناً غير الألوان الّتي استخدمها الفنّان في ملصقه.
دور الملصق النضالي
لعب الملصق دوراً نضاليّاً في حياة الشعوب، فكان وما زال من أكثر الوسائل البصريّة إثارة وتحريضاً، فساهم في التعبير عن قضايا الشعوب المناضلة، وفي الكشف عن الممارسات النازيّة والصهيونيّة والإمبرياليّة الأمريكيّة، وتطوّر في كثير من بلدان العالم – فيتنام، كوبا، بولونيا- مستمدّاً أصالته من جماليّات تلك البلدان، همومها، مشاكلها، قضاياها. كما انفتح عبر الرؤية الإنسانيّة التقدّميّة على مشكلات الشعوب المناضلة، فاستخدمه الفنّانون الطليعيّون في مختلف أنحاء العالم للتعبير عن الثورة الفيتناميّة ثمّ الثورة الفلسطينيّة، وأصبح سلاحاً من الأسلحة الثقافيّة الهامّة في التعبير عن قضايا الشعوب المكافحة، وفي مواجهة القوى الإمبرياليّة وتعريتها وإدانتها.
وعلى صعيد قضيّتنا القوميّة، أعطى الملصق المحلّيّ والعربيّ والعالميّ أهمّيّة خاصّة للقضيّة الفلسطينيّة؛ فظهرت مئات الملصقات الّتي تعالج بالتعبير الفنّيّ مختلف الموضوعات الفلسطينيّة، من أيّام النكبة إلى زمن الثورة، وأقيمت المعارض الفرديّة والجماعيّة العربيّة والعالميّة الخاصّة بالقضيّة الفلسطينيّة. معظم المعارض أقيمت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينيّة المسلحّة في العام 1967، فقد كان ملصق القضيّة قبل الثورة محدوداً، ولم يبرز على نطاق واسع وشكل متميّز متطوّر إلّا بعد الثورة، وبعد التطوّر في القضيّة والتقدّم الّذي حقّقته الثورة على مختلف الصعد الإعلاميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة.
هكذا نجد أنّ ملصق القضيّة الفلسطينيّة قد ظهر مع الثورة وتطوّر مواكباً تطوّرها، وقد ساهمت المؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة والعربيّة مساهمة فعّالة في تطوّر الملصق المعارض، وأعطت الملصق أهمّيّة خاصّة وعملت على طباعة عشرات الملصقات وتوزيعها في مختلف أنحاء العالم، ومع تطوّر الملصق والوعي بأهمّيّته وضرورته، تحوّل بعض فنّانينا من المصوّرين إلى صناعة الملصق، وطُبِعَت بعض اللوحات كملصقات واسْتُخْدِمَ مختلف التقنيّات لخدمة الملصق، فلم تعد تقنيّة الملصق رسماً ولوناً، فثمّة تجارب أفادت من التصوير الضوئيّ وأخرى من الكاريكاتير، وأخرى جمعت بين الصور الضوئيّة والرسم والتلوين بإخراج جديد.
يتبع...