الجفاف يجبر آلاف العراقيين على الهجرة ويتركهم بلا عمل
“أرضك عرضك»، هذه هي الوصية الشهيرة للأجداد التي كنّا نسمعها بعد كل جلسة وعظ وتوجيه. فمن منّا لا ينحدر من تلك المناطق التي اشتهرت بسوادها، لكثافة غابات النخيل، والتي عُرف العراق بسببها «بأرض السواد”.
لم يكن النخيل هو فقط ما تشتهر به أرض الرافدين بل لك أن تزرع ما شئت فكلّ ما يقع على الأرض ينبت.حتى إنّني أتذكّر كلام أحد الصحافيين العراقيين والذي كان يعمل في الكويت لسنوات عديدة، بأنّ كبار السن فيها حين يمدحون الحياة وبأن الخير فيها وفير يقولون «الدنيا بصرة”!والبصرة الواقعة في أقصى الجنوب العراقي واحدة من أشهر المحافظات في الزراعة.
تغيّر الحال الآن بعد موجة الجفاف التي ضربت العراق منذ أكثر من ثلاث سنوات وانحباس السماء عن مطرها بسبب التغيّرات المناخية حيث يعد العراق خامس بلد في قائمة البلدان العشرة الأكثر تأثّراً.
عطش الأرض أصاب عشرات الآلاف من سكان البلد وهي نسبة العاملين بالزراعة فيه. تغيّر وضعهم رأساً على عقب فهم لا يملكون مهناً أخرى يستطيعون العمل بها غير الزراعة وتربية الحيوانات.
في الجنوب من بغداد على بعد 160 كيلومتراً تقع قرية «الكعبوري» التي نزح كل سكانها بعد أن جفّت روافدها التي يعتمد عليها أهالي القرية في الزراعة وسقي مواشيهم.. توزّعوا في عدة مدن بحثاً عن فرص عمل جديدة.
النزوح من القرى بسبب الجفاف
يقول أحمد سوادي رئيس الجمعيات الفلاحية في العراق:» إنّ هذه القرية ليست الوحيدة بل هناك عشرات القرى الممتدة في وسط وجنوب العراق التي نزح أهلها عنها وهي المناطق الأكثر تضرّراً من الجفاف وشحّ المياه. هذه القرى تعتمد على مياه الأنهر فقط ولا تستفيد من حفر الآبار لأنها تكون مالحة وغير صالحة لا للشرب ولا للسقي في أغلب الأحيان وهذه من خصائص الأراضي الرسوبية».
وبما يخصّ النزوح إلى المدينة يؤكد سوادي بأنّ :» الفلاحين همّهم الأول هو إيجاد متطلّبات الحياة الأساسية بالدرجة الأولى كسكن لائق وتوفّر مياه الشرب والخدمات. أمّا بالنسبة لفرص العمل فغالباً لا يجدون أعمالاً تحفظ لهم كرامتهم وتكفيهم قوت يومهم بسبب شحّ الفرص وانتشار البطالة.
تتفاقم ظاهرة نزوح الفلاحين مع غياب الحلول الناجعة. الدكتور زين العابدين الشبلي المختص بالجغرافيا السكانية أكد:” بأنّ العام 2022 شهد نزوح 35 ألف نسمة من الريف إلى مناطق متفرّقة في البلاد.
ومنذ أن بدأت أزمة الجفاف خسر ما يقارب من 150 ألف شخص عملهم في القطاع الزراعي. فالعراق يحتوي على أكثر من 23 مليون دونم صالح للزراعة لكن ما زُرع في الموسم الماضي يمثّل 0.6% فقط من هذه المساحة.»
هذا النزوح زاد من عدد المساكن العشوائية التي تفتقر إلى أبسط الخدمات، فالتقديرات تشير إلى وجود 4 آلاف منطقة عشوائية بعموم العراق. أغلب هذه العشوائيات ابتلعت الأراضي الزراعية التي خرجت عن الخدمة، فقد بادر أصحابها إلى تقطيعها وبيعها خصوصاً تلك القريبة من مراكز المدن والشوارع الرئيسية وكان خياراً لا بدّ منه للمزارعين الهاربين من العطش.
هذه المعطيات غيّرت الخريطة الزراعية التي كانت تمتد إلى نحو 50 كيلومتراً على جانبي دجلة والفرات تتغذّى من خلال نُهيرات فرعية، لكن بعد نزول المياه إلى مستويات كبيرة لم تعد المياه تصل إلى هذه المناطق وانحبست في الأراضي القريبة.
يقول المزارع عامر السيلاوي:» إنه ما زال يقاوم الظروف القاسية التي يعيشها تمسّكاً بالأرض التي ورثها من أبيه. وإن أرضه في محافظة النجف بقيت الوحيدة في منطقته التي تقف بوجه عمليات التجريف التي قَبِل بها جيرانه بسبب استحالة زراعتها لانعدام المياه وقلّة الدعم الحكومي».
ويؤكد السيلاوي بأن :» العديد من الأمراض بدأت تصيب الناس لأنّ مستويات المياه المنخفضة رفعت من تراكيز الأملاح والرواسب المتأتية من مياه الصرف الصحي التي تصبّ في الأنهار من دون معالجة. فهناك عشرات الحالات في منطقته ممن أصيبوا بالبهاق والحساسية وبعض حالات الجرب.
لا حلول
ولغاية الآن لم تقدّم الحكومة العراقية حلولاً تضع حداً لهذه المشاكل بل راحت تحذر من صيف قائظ يفاقم من الأزمة. ففي الـ29 من نيسان/أبريل 2023 صرّح وزير الموارد المائية عون ذياب بأنّ «الخزين المائي في العراق لن يكفي لهذا العام، والزراعة في الصيف الحالي مجازفة قد تؤثّر حتى الموسم الشتوي المقبل”.
في المقابل تسعى حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إيجاد بديل عن الزراعة بالطرق التقليدية عبر التشجيع على استغلال المياه الجوفية في البوادي وأطراف المدن الصحراوية واستعمال طرق الري الحديثة بالمرشّات المحورية.
هذه الطرق وإنّ كانت هروباً من مشاكل قلة المياه إلا أنها لم تحل مشكلة الفلاحين لكون الآبار في هذه المناطق بعيدة عن سطح الأرض وبالتالي فإن كلف حفرها عالية جداً، إضافةً إلى أن الأرض تحتاج إلى منظومات طاقة شمسية تشغل المرشات المحورية وتدفع المياه. ولم يحصل الفلاح على أي مساعدات مادية من الحكومة للعمل بهذه الطريقة.
وللخروج بأقلّ الخسائر يقول المستشار في شؤون المياه في مجلس النواب السابق عادل المختار: «إنّ الخطة الزراعية يجب أنْ لا تتعدّى 10 مليارات متر مكعب من المياه لكون الخزين المائي منخفضاً لدرجة لم يصل إليها البلد منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وإنّ الأمطار التي سقطت على البلاد في بداية 2023 كانت بحدود 6 مليارات متر مكعب استفدنا منها في ري الأراضي المزروعة في الوسط والجنوب وخزّنَّا بعضها في السدود في المناطق من سامراء وصولاً إلى شمال العراق لكون هذه المناطق تحوي سدوداً وبحيرات مائية”.
ويضيف المختار: «أمّا الفلاحون فعلى الحكومة إيجاد حلول أخرى لهم تتمثّل بدعم التربية الحيوانية مثلاً أو تسهيل إعطائهم قروضاً من دون فوائد وتبسيط إجراءات منحهم أراضي البادية لاستغلال المياه الجوفية عبر حفر الآبار الإرتوازية.
وقد أجرى العراق حوارات مكثّفة مع دول تتشاطأ معه في الأنهار أو مع دول المنبع، أبرزها تركيا لكون دجلة والفرات ينبعان منها من أجل زيادة الإطلاقات المائية وتقاسم الضرر لأنّ مصيراً مجهولاً يواجه البلد برمّته.