التصعيد على الجبهة الفلسطينية والصراع على معادلات المواجهة
وسام ابو شمالة
كاتب ومحلل سياسي
شهد الأسبوع الحالي تصاعداً للموقف الميداني على الجبهة الفلسطينية في مختلف الساحات، بدأ باستشهاد الأسير المجاهد خضر عدنان بعد خوضه معركة الأمعاء الخاوية التي استمرت لمدة 87 يوماً رفضاً لاستمرار أسره، أعقبته عمليتا إطلاق نار في نابلس أصابت مستوطناً، وعملية إطلاق نار قرب مستوطنة "أفني حيفتس" القريبة إلى مدينة طولكرم المحتلة، أوقعت 3 جرحى في صفوف المستوطنين، كما شهدت سجون العدو توتراً بين الأسرى وما يسمى قوات مصلحة السجون الإسرائيلية.
تقديرات موقف العدو استبعدت رداً عسكرياً قوياً انطلاقاً من قطاع غزة، وتوقعت أن يقتصر الرد على إطلاق عدد متفرق ومحدود من الصواريخ تجاه ما يسمى مستوطنات غلاف غزة. وقدر الاحتلال أيضاً أن حركة الجهاد الإسلامي ستتحمل وحدها مسؤولية إطلاق الصواريخ، انتقاماً لاستشهاد أحد رموزها في الأسر، واعتقد أن الرد الفلسطيني لن يكون سريعاً، وربما يقتصر على عمليات إطلاق نار "عشوائية" على أهداف ثابتة للعدو في الضفة الغربية المحتلة.
اعتمد العدو في تقديراته، التي اتضح لاحقاً أنها خاطئة، على أن مستوى الاهتمام الفلسطيني الشعبي بقضية إضراب الأسير الشهيد خضر عدنان تراجعت مقارنة بالتفاعل مع حالات مشابهة للإضراب خاضها عدنان في تجارب أسر سابقة. وقدّر أيضاً أن توقيت الإضراب لم يكن لمصلحة الشيخ خضر، وراهن على عمليات الاغتيال المعنوي التي مارستها أجهزته عليه بالتعاون مع جهات مشبوهة في الساحة الفلسطينية، وظنّ أن الحركة الأسيرة لا تدعم الإضرابات الفردية، الأمر الذي دفعه إلى توقع ردود فعل محدودة في حال أدى الإضراب إلى استشهاده. إضافةً إلى التقديرات الخاطئة للعدو تجاه قضية الأسير خضر عدنان وارتداداتها على الجبهة الفلسطينية، يبدو أنه سعى من خلال القضاء على خضر عدنان لخطف صورة نصر، ولو محدودة، بهدف ترميم منظومة الردع.
تزعم أوساط العدو أن الأسير الشهيد عدنان حاول أن يسجل سابقة في سياسة الإضرابات عن الطعام، وعدم اقتصارها على حالات الأسر الإداري، وهو الأسر من دون توجيه تهم أو قضايا تتعلق بمقاومة الاحتلال.
ويدّعي الاحتلال أن عدنان معتقل على ذمة قضايا تحريض على الاحتلال، وكان ينتظر محاكمته، الأمر الذي لم يسلم به حتى لا تتكرر حالات مشابهة في المستقبل، فقرر القضاء على الشهيد خضر عدنان، حتى لو أدى إلى ردود فعل فلسطينية اعتقد أنها ستكون محسوبة وتحت السيطرة، ولن تنضم إليها قوى المقاومة كافة، ولن تندفع إليها حركة الجهاد بقوة، على اعتبار أن الرجل، رغم رمزيته العالية التي ترسخت لدى الجمهور الفلسطيني، لا يعد قائداً سياسياً أو عسكرياً في حركة الجهاد الاسلامي، كما اعتقد العدو.
جاء الرد الفلسطيني مخالفاً لتقديرات الجهات الأمنية الإسرائيلية، ولم يدرك العدو أن قضية الأسرى تتمتع بحساسية عالية لدى الشعب الفلسطيني، وأن المقاومة الفلسطينية تدرك أن الصمت على اغتيال أسير مضرب عن الطعام سيسمح للعدو للاستفراد بالحركة الأسيرة، وسينزع كل المكتسبات التي حققها الأسرى من بين أنياب السجان، عبر سلسلة من معارك الأمعاء الخاوية، وسيُظهر المقاومة أنها عاجزة ومرتدعة على نحو سيؤدي إلى القضم من شرعيتها وتراجع رصيدها الشعبي الذي تعزز بشكل لافت بعد معركة رمضان، وسيرى الشعب الفلسطيني والحركة الأسيرة أن المقاومة تتخلى عن أحد الثوابت الوطنية، وهو قضية الأسرى. فلم يدرك العدو الرمزية الكبيرة للشهيد خضر عدنان لدى الرأي العام الفلسطيني، ولم يعِ قوة تأثير القضايا الوطنية في صنع قرارات قيادة المقاومة، ولو بثمن اندلاع مواجهة عسكرية، كما أنه فشل في فهم العوامل التي أدت إلى معركة "وحدة الساحات" في آب/أغسطس 2022، التي اندلعت بقرار من حركة الجهاد الإسلامي بسبب اعتقال أحد كوادرها، فيما الرد على اغتيال أسير مضرب عن الطعام كان بإجماع قيادة الغرفة المشتركة التي أدارت النيران بحكمة واقتدار. وقد أجبرت العدو على أن ينهي جولة التصعيد، ولو على حساب قضم أكبر لقوة ردعه، على نحو ترك أركان حكومة بنيامين نتنياهو وأوساط العدو كافة بعد انتهاء جولة التصعيد أكثر شكّاً وأقل ثقة بقوة الردع الاسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى ظهور خلافات علنية بين أقطاب حكومة العدو، وهدد بن غفير بعدم التصويت لمصلحة حكومته في كنيست العدو.
ولم يقتصر الانطباع بالضرر الأمني على مستوى الوعي والردع على أحزاب الصهيونية الدينية، بل عبّر وزراء وأقطاب في حزب الليكود عن القلق العميق من تأكل إستراتيجية الردع.
قرار غرفة العمليات المشتركة للمقاومة بإطلاق نحو 24 صاروخاً في رشقة واحدة، وإطلاق أكثر من 100 صاروخ استهدف عدد منها مدينة عسقلان المحتلة، فاجأ العدو الذي أخفق مرة أخرى في قراءة نيات قيادة المقاومة بعدما سجل فشلاً مدوياً في توقع رد المقاومة إبان معركة "سيف القدس". قرار الغرفة المشتركة التي تضمّ كلّ قوى المقاومة اتخذ بالإجماع، ودونما تردد، وكان سريعاً، وفي وضح النهار، وبكثافة إطلاق مرتفعة نسبياً، على نحو عزز تأكل منظومة الردع لدى العدو، بعدما سعى لمعالجته بعد اغتيال الشيخ خضر عدنان.
يخشى العدو أن تتحوَّل مواجهة محدودة على الجبهة الجنوبية إلى مواجهة واسعة. ورغم أنه يسعى لترميم قوة ردعه التي تأكّلت بشكل أكبر في الأشهر الأخيرة بسبب معادلة الربط بين الساحات التي تسعى المقاومة لتثبيتها وعدم التفريط فيها مهما كلفها من ثمن، فإنَّه يخشى بشكل أكبر اندلاع مواجهة متعددة الجبهات، على نحو دفعه إلى العودة إلى سياسة الاغتيالات في الضفة الغربية المحتلة.
إنّ العدو سيكثّف عدوانه على الخلايا المسلحة في الضفة الغربية، وسيسعى لإحباط العمليات الفدائية قبل تنفيذها، وسيواصل جهوده في إجهاض معادلة الربط بين الساحات ووحدة الجبهات التي تسير لمصلحة المقاومة وتعرقل مسارات العدو وسياساته التقليدية في عزل الجبهات والساحات.
لكنّ المقاومة ستسعى لتثبيت وحدة الساحات والجبهات وتطويرها، وستسعى أيضاً لتعزيز غرف العمليات المشتركة ورفع مستوى التنسيق في إدارة المواجهة والصراع مع العدو في المرحلة المقبلة، لاسيما في ضوء القراءة الواعية لنيات العدو وتوجهاته، وفي ضوء المناسبات الوطنية القادمة، ولا سيما الذكرى الـ75 للنكبة الفلسطينية ومعركة "سيف القدس"، إلى جانب مناسبات يحييها العدو، كنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة، وما يسمى مسيرة الأعلام الصهيونية التي تخترق شوارع البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة.