الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • دولیات
  • الثقاقه و المجتمع
  • مقالات و المقابلات
  • الریاضه و السیاحه
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف ومائتان وخمسة وعشرون - ٠٢ مايو ٢٠٢٣
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف ومائتان وخمسة وعشرون - ٠٢ مايو ٢٠٢٣ - الصفحة ٦

من أهم وأصعب القضايا التي تؤثر بشكل كبير على الناس

التشكيل الناعم للقدوة على مستوى السلوك والأفكار

 

القدوة الناعمة المقصود بها القدوة التي تتسلل إلينا تدريجيا ومن دون أي ضجيج من خلال وسائل الإعلام التي لا تتوقف عن البث طوال ساعات اليوم وطوال أيام السنة.
هذه القضية من أهم وأصعب القضايا التي تؤثر بشكل كبير على القدوة التي تقدم إلينا، أولا لأنَّها لا تتوجه إلى مرحلة عمرية محددة بل إلى كل مراحل عمر الإنسان، وثانيا لأنَّها لا تقدم القدوة غالبا بشكل مباشر، بل تتشكل عناصر هذه القدوة من خلال التكرار والإيحاءات والصور التي تتحول بمرور الوقت إلى قدوة، ومصدر هذه الخطورة هو في ما يمكن أن نسميه التسلل الهادئ والناعم للأفكار وللنماذج التي تتحول بمرور الوقت ومن خلال التكرار إلى قيم جديدة نقتدي بها.
فتغير من طريقة تفكيرنا بل من طريقة تصرفنا في الحياة، بحيث لا ننتبه في معظم الأحيان إلى أنَّ مواقفنا تجاه هذه القضية أو تلك قد تغيرت أو أنَّ إعجابنا بهذه الفكرة قد تبدل إلى فكرة أخرى جديدة لم نكن نقبل بها سابقا، فهذه الوسائل تقدم نماذج تصبح قدوة تكون غالبا قدوة سلبية، لأنَّ هذه الوسائل تفرض علينا طوال ساعات اليوم، لذا علينا أن نحد من تأثير هذه الوسائل وأن نختار ما نرى، لا أن نكتفي بتلقي كل ما يعرض علينا من دون توقف.
ثمة أمثلة كثيرة تفسر لنا هذا التشكل الناعم للقدوة على مستوى السلوك والأفكار، فالصور التي لا تتوقف معظم الفضائيات ومواقع الإنترنت عن تقديمها عن الشباب «من الذكور والإناث» الذين يعيش أحدهم منفردا بعيدا من أهله، ومن دون أي رقابة اجتماعية، وينتقل من هذا العمل إلى ذاك، ومن هذه العلاقة إلى تلك، ولا يكترث للروابط الأسرية، ولا العادات أو التقاليد، سوف يشكل هذا النموذج أو الفكرة قدوة لشباب وشابات العالم الآخرين، خصوصا في المجتمعات الإسلامية، حيث يشاهدون هذا النمط من الحياة ويقارنون بينه وبين حياتهم من ناحية الضوابط الأخلاقية والدينية والسلوكية المختلفة، بحيث يتوق الشاب أو الفتاة إلى تقليد ذلك النموذج ويطمح إلى الاقتداء بما يراه وهذا الأمر هو أحد أهم أسباب تلك الرغبة الجامحة لدى الكثير من الشباب في البلدان الإسلامية لمغادرة بلدانهم إلى الغرب؛ ظنا منهم بأنَّ ما يرونه في السينما وفي الفضائيات هو حقيقة سهلة يمكن الحصول عليها بمجرد أن تطأ أقدامهم تلك البلاد، وهكذا يتحول الغرب إلى قدوة.
يعبر الشباب عن التعلق بها من خلال الرغبة في الهجرة التي تزداد نسبة ارتفاعها يوما بعد آخر.
إنَّ الاستهلاك هو نموذج آخر للقدوة الناعمة وهو الذي يتحول إلى طريقة في التفكير وإلى سلوك يقود تصرفاتنا، والاستهلاك هو الرغبة في الشراء وفي اقتناء الأشياء المختلفة حتى لو لم نكن بحاجة إليها، ونقيض الاستهلاك بهذا المعنى هو أن نشتري ما نحتاج، أي أنَّ المقارنة بين الرغبة وبين الحاجة هي أنَّ الرغبة عادة لا حدود لها، أما الحاجة فمحدودة، والاستهلاك يحرض الرغبة التي لا حدود لها بحيث يندفع الإنسان إلى الاقتناء والى الشراء حتى لو لم يكن بحاجة إلى ما سيشتريه.
هكذا تنشأ عادات وقيم جديدة تصبح بمرور الوقت والتكرار بمثابة قدوة في التعامل مع الذات ومع الآخرين، ومن هنا تنشأ قيم التباهي، وقيم التملك بحيث تصبح القدوة هنا هي النموذج الذي ينسجم مع تلك القيم، وهذا بدوره يفترض المزيد من الشراء ومن الاستهلاك طالما أنَّ الأسواق تضخ من دون السلع التي يرتبط الحصول عليها بالمكانة الاجتماعية، فعندما يتحول الاستهلاك إلى سلوك أو عادة وإلى وسيلة للترقي الاجتماعي يصبح قدوة ناعمة تمارس نفوذها من دون أي صخب أو ضجيج، وربما يصعب أن نفصل بشكل واضح بين القدوة التي نريد أن يقتدي بها الإنسان في أي مرحلة من مراحل العمر وبين المثال الأعلى الذي يتخذه قدوة له ويحاول أن يفعل مثله ويقتدي به ويسير على هدي سلوكه وأفكاره، والمثال الأعلى هو غالبا شخص محدد، ولكنه قد يكون كما أشرنا فكرة في الوقت نفسه.
بمعنى أنَّ المثال الأعلى الذي يفترض الاقتداء به قد يكون نمط حياة أو نموذج للعيش أو طريقة في السلوك أو في الاستهلاك أو حتى طريقة في التفكير وفي التعامل مع الآخرين.
أهمية القدوة
إذا كانت الأديان السماوية قد أعطت أهمية كبيرة وواضحة للقدوة وبالأخص القدوة الحسنة؛ لما تمثله هذه القدوة على مستوى تقريب الأفراد من الغاية أو الهدف وهو القرب من الله تعالى، فإنَّ للقدوة أهمية واضحة على مستوى الحركة الاجتماعية والتربوية؛ لأنَّ الوصول إلى مرحلة من مراحل التكامل البشري حيث ينتفي الشر ويسود العدل والوئام، وبالتالي بناء مجتمع سليم يقوم على أساس المبادئ والقيم والأفكار التي من شأنها السمو إلى أعلى المستويات، كل ذلك يقتضي وجود قدوة يتبعها الأفراد وتشكل نموذجا فريدا وهاما على مستوى المجموع، وذلك بغض النظر عما إذا كانت القدوة تتمثل في شخص بشري تشكل سلوكياته وأفكاره وممارساته وحركة حياته والقيم التي يتبعها قدوة للآخرين؛ أو أن تتجلى القدوة في عقيدة أو فكر أو نموذج أو مثال معين.
وتبرز أهمية القدوة في عدة جوانب تتلخص في أنَّ القدوة واحدة من أهم وأبرز أساليب التربية، وإذا كان المقصود في الاجتماع البشري الوصول إلى مرحلة إنتاج فرد سليم ومفيد للمجتمع، فإنَّ ذلك لن يتحقق من دون العمل على جعل الأفراد سالمين مفيدين، فتكون القدوة أهم وسيلة لتحقيق ذلك ولو عدنا إلى التأريخ البشري، وتأريخ الأديان لوجدنا أنَّ القدوة قد لعبت هذا الدور التربوي؛ إذ أنَّها تفيد في نقل الأفكار والقيم والسلوكيات الصحيحة إلى الآخرين، وقد تشير هذه المسألة إلى عدم جدوائية التلقين الذي يتبعه بعضهم في العملية التربوية، فقد لا يقتنع ولا يؤمن الفرد إذا وجد أنَّ الملقِّن لا يؤمن ولا يعتقد ولا يوقن، أما عندما نقدم القدوة كنموذج أساسي للتربية فإنَّ التأثير في النفوس سيكون أقوى
لا محالة.
من هنا نقول أنَّ الدين قدم نظاما متكاملا يهدف قبل أي شيء إلى نقل الإنسان نحو الكمال اللامتناهي، كما قدم الدين أيضا النماذج الحقيقية التي يتجلى فيها ذاك النظام، فعمل هؤلاء الأشخاص بكل وجودهم على تكريس حقيقة الدين، فكانوا القدوة وكانت أفكارهم قدوة أيضا لذلك، فإنَّ من يتذوق طعم تلك الكمالات لا بد أن يسعى نحوها، وتبرز أهمية القدوة بالإضافة إلى ما تقدم على مستوى إقناع الآخرين بإمكانية الوصول إلى الفضائل، فإذا سلمنا بأنَّ الشخص الفلاني يشكل قدوة للآخرين لما يتمتع به من فضائل وأخلاقيات وصفات حسنة، فإنَّ قبول الآخرين لوجود الفضائل وتصديقهم بإمكانية الوصول إليها والتحلي بها موقوف على وجودها في شخص معين، وهذا يعني القبول بواقعية تلك المفاهيم التي يظنها بعضهم من نسج الخيال، أو من مكان بعيد عن الواقع.
من جهة أخرى قد لا يترك الكلام أثره على الشخص مهما طلب من الناس التحلي بالفضائل والإقبال عليها، ولعل السبب في ذلك يعود إلى صعوبة التصديق بها والاقتناع بجدواها، إلا أنَّ العمل بها ووجودها في شخص القدوة يدفع الإنسان للرضوخ لها بل فهمها والعمل بها، ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يقبل على أي عادة أو فكرة إلا بعد أن يدرك ويفهم أنَّها حقيقة واضحة وواقعية.

 

البحث
الأرشيف التاريخي