زوجة الاستشهادي صلاح غندور للوفاق:
ملاك نيسان ... الفائز بشهادة الحج الأكبر
الوفاق/ خاص
عبير شمص
"بعد قليل سوف أثأر لجميع الشهداء المظلومين والمستضعفين من أبناء جبل عامل، وأبناء الانتفاضة في فلسطين المغتصبة. سوف أنتقم لجميع المعذبين في الشريط المحتل المعذّب"، "أسأل الله أن يوفقني للقاء سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع)، هذا الإمام العظيم الذي علّم جميع الأحرار كيف ينتقمون من ظالميهم، إنني إن شاء الله بعد قليل من هذه الكلمات، سوف ألقى الله معتزاً، مفتخراً، منتقماً لديني ولجميع الشهداء الذين سبقوني على هذا الطريق. بعد قليل، سوف أثأر لجميع المظلومين والمستضعفين من أبناء جبل عامل وأبناء الانتفاضة في فلسطين المغتصبة، سوف أنتقم لجميع المعذبين في الشريط المحتل المعذب، إنني إن شاء الله مجاهد من مجاهدي المقاومة الإسلامية، المقاومة العظيمة التي لم ترهبها طائرات العدو ولا دباباته وكل الأسلحة التي يمتلكونها، ولا كل الدعم الذي يتلقونه من دول الكفر كافة".بعد هذه الكلمات نفّذ الاستشهادي صلاح غندور، "ملاك" العملية النوعية في جنوب لبنان. فعند مدخل مقر "مركز الـ 17" في "صف الهوا" الذي يضم مبنى قيادة عمليات اللواء الغربي ومبنى الادارة المدنية ومبنى قيادة المخابرات التابع لجيش الاحتلال، وفي تمام الساعة 2:24 من عصر يوم الثلاثاء الواقع في 25 نيسان- أبريل من العام 1995 م ، اقتحم "ملاك" بسيارته قافلتين صهيونيتين في بلدة بنت جبيل، أثناء التقائهما في نقطة التبديل (مدخل المركز) حيث من المفترض أن تدخل واحدة من فلسطين عند المنطقة الحدودية وتغادر الثانية من لبنان، منفذاً عمليته التي خطّط لها رفيق دربه، والشهيد القائد في حزب الله خالد بزي. أدّى التفجير الى تدمير جزء مهم من مبنى الادارة المدنية وإصابة مبنى اللواء الغربي بأضرار كبيرة وتدمير خمس آليات، ذابت اثنتان منها كليا بفعل قوة الانفجار وتناثر عدد كبير من جثث جنود الاحتلال، وقد سمع دوي الانفجار على مسافات شاسعة في المنطقة المحتلة وفي المناطق المحررة المواجهة لها.في ذكرى العملية الاستشهادية البطولية للشهيد صلاح غندور أجرت صحيفة الوفاق مقابلة مع زوجته الحاجة مها طالب، وكان الحوار التالي:
كيف التقيت بالشهيد ومتى؟ ولماذا اخترت الارتباط بمجاهد؟
كان لقائي الأول مع الشهيد صلاح في مطلع التسعينيات، التقيت بالشهيد عند صديقتي في موعد منسق بين صديقتي وزوجها والشهيد للمجيء إلى منزلهم للتعرف عليّ، كنت أنا وصديقتي من المترددات على مسجد بئر العبد بشكلٍ دائم، ولقد التقيت بالشهيد بناءً على رغبته وتقابلنا وحصل التوافق فيما بيننا، ولعّل الميزة التي بدت أكثر وضوحاً في شخصيته حينها هي هدوءُه، أما السبب الأساس الذي دفعني إلى اختياره شريكَ حياة فهو أنه مجاهد في المقاومة، لقد نشأت في كنف أسرة متدينة، لقد ارتديت الحجاب في عمر السبع سنوات، ربتني أسرتي على التدين والإيمان والالتزام والحفاظ على صلاتنا وصومنا منذ صغرنا، وكان أشقائي وبالأخص شقيقي الأكبر شديد الإلتزام ويدرس بالحوزة الدينية، فكان يؤم منزلنا العلماء وطلاب الحوزة من زملاء شقيقي، وكنا نعيش أجواء المقاومة وكنت أتوسل بالسيدة زينب(ع ) دائماً الاقتران بزوج مجاهد في سبيل الله، والحمد لله رب العالمين تحقق حلمي الذي لطالما أردت تحقيقه تأسياً بالسيدة زينب(ع)، فكان أن استجاب الله دعائي بلقائي "ملاك " وأنعم الله علي بالشهيد ذلك الانسان الخلوق الهادىء العاقل والمهذب والمؤمن والمجاهد والذي تجتمع فيه كل الخصال الحسنة، وهكذا تم النصيب بيننا وقدم الشهيد في اليوم التالي إلى منزلنا طالباً من أهلي يدي للزواج.
كيف تصفين شخصية الشهيد؟ وما هي أبرز صفاته؟
عُرف الشهيد صلاح بالصبر والتحمل، ولم يكن يرفض أية مهمة يكلف بها، بل كان يندفع إليها بكل قوته مادامت في سبيل الله ولأجل رضاه. كان مثال المتفاني في خدمة المجاهدين. لقد عرف أنه لن يدخل الجنة من كان في نفسه ذرة من كبر، فاتخذ التواضع ــ وخاصةً للمجاهدين ــ ديناً ومسلكاً. لمّا تعرفت عليه كان أول ما أخبرني به عمله بالمقاومة مصارحاً إياي بصعوبة ومشقات هذا الخط، وهو لم يخفِ يوماً تشبّثه بخط المقاومة من منطلق إيماني عقائدي، كان يؤكد استحالة التخلي عن هذا النهج لقاء أي ثمن، متمسكاً في الوقت عينه بكتمان أسرار العمل الجهادي وطبيعة المهام الموكلة إليه.
كيف كانت شخصيته الإيمانية من عبادات وتعلق بأهل البيت (ع) ؟
على الرغم من انهماكه في أداء واجبه الجهادي، لم يُغفل الشهيد صلاح يوماً أداء المستحبات الدينية من صلاة وصيام، كان محبّاً لتلاوة القرآن، متعلّقاً بقراءة دعاء كميل، شديد المواظبة على زيارة الإمام الحسين (ع)، وكثير التردد الى المسجد. أمّا في مجال تهذيب النفس، فينقل الكثيرون ممن عرفه، أنه كان من السَّالكين، المستغرقين في العالم العُلوي، بل وكأنّه من المقرّبين، بحيث أنه كان يدأب على الفرائض، ويحرص على النوافل، ويقرأ القرآن بتدبّر، ويواظب على قراءة الأدعية، كما أنه كان يطيل سجوده في الليل، ويُكثر من مراقباته، ومحاسبته لنفسه.
كيف كانت علاقته وتعامله معك ومع الأولاد ومع عائلته؟
ربطته بأولاده علاقة متينة، كان بالنسبة لهم مثال الوالد الحنون والمحب والعطوف، كان يغيب كثيراً عن البيت بسبب عمله وانشغالاته الكثيرة، وعند مجيئه كان يُفرغ وقته تماماً لمنزله وأولاده ولزيارة الأرحام والأقارب.
حدثينا عن أحداث حصلت مع الشهيد أثرت بك ولا تزال عالقة قي ذهنك؟
عندما ودعنا الشهيد في آخر لقاء، أوصلنا إلى منزل عائلتي، وأثناء مغادرته منزلنا لحق به ولده محمد على درج المنزل المغادرة منادياً اياه، فعاد الشهيد أدراجه وعانقه وقبله وأكمل سيره، ولكن أعاد ولدي الكرة منادياً إياه ولكنه هذه المرة لوح له من بعيد مشيراً إليه بالعودة إلى المنزل وأكمل طريقه، ولم يعد، فلم يرد أن تغويه الدنيا ويحن قلبه ..الله أعلم فيما كان يفكر في تلك اللحظات.
أمّا الذكرى الأخرى التي لا أنساها حصلت قبل ذهابنا للمرة الأخيرة إلى بيروت لوداع الجميع قبل تنفيذ العملية، فقد صادف ذكرى عيد مولدي قبلها بيوم فذهب لإحضار هدية تبقى تذكارً لي منه، ولكنه وجد جميع المحلات مقفلة. حزن الشهيد لكني كنت سعيدة أنه لم ينس يوم مولدي بالرغم من انهماكه الشديد في التحضير للعملية الاستشهادية، أخبرته بأن لا يغتم ويحزن لعدم إحضار الهدية فوعدني بأنه سيقدم لي هديةً أخرى فسألته عنها فقال لي هي شفاعتي في الأخرة فهل تقبلين بها؟ فقلت له نعم فهي أغنى من الدنيا وما فيها.
هل كنت تعلمين برغبته بتنفيذ العملية الاستشهادية، كيف أخبرك؟ وما كانت ردة فعلك؟
جرت العادة أن أحضّر للشهيد صلاح العتاد و"زوّادة" الطعام قبل انطلاقه إلى تنفيذ عمليات الرصد داخل الشريط الحدودي، فيُعلمني بمدّة غيابه ليخلق حالة من الاطمئنان في داخلي، خاصة أننا كنّا نسكن في منطقة نائية عن قلب القرية...
وعندما أتى في أحد المرات صارحته ولكنه لم يتحدث لأنه كان كتوماً جداً ولا يتكلم أبداً عن طبيعة عمله وكيفيته، وسبب ذلك خوفه عليّ كما أخبرني، إذ يخاف أن أتعرض للأسر كوننا نسكن قرية محاذية للشريط الحدودي المحتل، فمن الأفضل لي عدم معرفة أي شيء عن طبيعة عمله، وأيضاً مخافة تحدثي سهواً عن عمله أمام الآخرين ما يسبب الأذى للإخوة المجاهدين فيصبح دم أحدهم متعلقاً برقبتي.
قبل المرة الأخيرة التي عبر فيها الشريط لتنفيذه العملية الاستشهادية، تولد في داخلي هاجسٌ أنبأني بشهادته عمّا قريب، وراحت تدور في رأسي أسئلة طيلة فترة غيابه: كيف سأتلقى خبر شهادته؟ هل سيأخذ الصبر محلّه في قلبي؟ كيف سنشيّع جثمانه؟... لم أتوانَ عن سؤاله، عندما سنحت لي فرصة رؤيته من جديد، "لأي أمر تخطّط؟" فأجابني بعد إلحاح "تقدّمت بطلبٍ لتنفيذ عملية استشهادية، وأسألك الدعاء لتيسير الأمر".
في المرحلة عينها، كان الشهيد صلاح يرتقب الحصول على تأشيرة السماح بأداء فريضة الحج، وشاء الله أن يتم ذلك، إلا أن نيل شرف تنفيذ العملية الاستشهادية كان أقرب إليه من حيازته شرف زيارة بيت الله، أصرّ آنذاك على التقاط صور عائلية، وقد سبق ذلك لقاءٌ جمعه والأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله(حفظه الله) للحصول على إذنه بتنفيذ العملية.
وما كانت تفاصيل اللقاء الأخير الذي جمعه بالسيد نصر الله قبل تنفيذ العملية؟
شرح الشهيد لسماحته تفاصيل العملية وموقعها وطريقة تنفيذها وطلب منه الإذن بالتنفيذ، لفت السيد انتباهه بأنه متزوج ولديه اولاد، وأنه قائدٌ أيضاً، وأن المقاومة بحاجة له، ولكن الشهيد أصر وأخبره برغبته في تنفيذها وأنه قد خطط للعملية منذ اليوم الأول ولا ضيّر في كونه متزوج وأباً لأولادٍ صغار، لما وجد سماحته إصراره الشديد لدى الشهيد أعطاه الإذن.
كيف علمتم بخبر استشهاده؟
في اليوم التالي، ودّع الأهل، ممّوهاً إنطلاقه الى العملية بخبر قبوله لأداء مناسك الحج، أوصاني شخصياً بالاهتمام بأطفالنا الثلاثة، محمد وفاطمة وزينب، أخبرني بأنني قد لا أراه ثانية بعدها، طالباً الدعاء.
حدث ذلك نهار الأحد في الثالث والعشرين من نيسان عام 1995، كان من المقرر أن ينفّذ الشهيد صلاح عمليته الإستشهادية نهار الإثنين، فحال دون ذلك التخوّف من وقوع مدنيين أثناء التنفيذ، فأّرجئت العملية الى يوم الثلاثاء.
بعد ظهر اليوم نفسه، وصلني نبأُ عن نجاح مجاهدي المقاومة الإسلامية بإنجاز عملية إستشهادية نوعية، امتلكني شعور قوي بأن "ملاك" بات في عداد الشهداء، صليّت ركعتين شكراً لله تعالى، وانتظرت الخبر اليقين... قُرِع باب المنزل، كان خلفه رفاق الشهيد قد أتوا يزفّون على مسمعي خبر استشهاد "ملاك" على أرض الجنوب... علَت البسمة جراحي، وغمر حزني شعور بالعزّ والافتخار لا يوصف، فالله منّ عليّ بالسلوان، وهبطت على قلبي وصية الشهيد صلاح بالتصّبر سكينةً وطمأنينة!
ما هي وصيته لك وللأبناء؟
وصيته بالنسبة للأولاد، فهو كان يظل يوصيني بالانتباه لنفسي والأولاد وأن أربيهم على خط والدهم وعلى خط المقاومة وخط الولاية، وان لا أزوج البنات إلا لمجاهدين فقراء وقال لي لا أريد مهندسين ولا أطباء ولا اغنياء بل مجاهدين فقراء، وبالفعل سبحان الله بناتي تزوجوا مجاهدين فقراء وفق ما أوصاهم والدهم.