الثوب الفلسطيني يواجه لصوص التراث(2-2)
حسني شحادة
كاتب فلسطيني
في غمرة هذا الصلف الصهيونيّ الّذي ظنّ أنّه بانتصاره قد مَلَكَ الأرض والتاريخ، نَسِيَ بأنّه لا يستطيع أن يمتلك الوعي الجماليّ والفنّ التعبيريّ الفلسطينيّ، لأنّهما يمثّلان جميع موادّ الثقافة الموروثة الّتي نالت على مرّ الأجيال تقبّلاً عريضاً فأصبحت نتاجاً جماعيّاً، واكتسبت على مدى الزمان خصائص تراثيّة حفرت في الذاكرة الفلسطينيّة، فأصبحت إبداعاً شعبيّاً يرثه الأبناء عن الآباء، وبه يفاخرون.
إنّه الوعي الجماليّ الّذي بَقِيَ نتاجه في الآداب والفنون والعلوم، وثيقة تاريخيّة مكتوبة بحروف النهار المضيئة على سويداء ظلام الليل، تُقرأ كلّما طلعت شمس، لأنّ جذورها ضاربة في جبال فلسطين، تغذّيها الدماء الّتي أريقت على ثرى هذا الوطن على مرّ الدهور.
لقد جسَّدَت الثورة الفلسطينيّة الّتي انطلقت في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1965 هذه المعاني بأسلوب حضاريّ، فجمعت هذا التراث الفلسطينيّ في مؤسّسات ثقافيّة عصريّة حضاريّة، وساهمت في نشر هذا التعبير الجماليّ ليساهم بدوره في معركة الشرعيّة والبقاء، وليساند البندقيّة، لتصبّ في بؤرة المعركة ولتقف جداراً شرعيّاً قويّاً في وجه الصهيونيّة الّتي ترنو إلى طمس الملامح والحقوق الفلسطينيّة.
أشجار البلاد في التطريز
اهتمّ الكنعانيّون بالزراعة، وخصّوا الأشجار بمكانه خاصّة، فظهرت في زخرفة التطريز على الثياب، فتظهر أشجار النخيل بشكل رمزيّ كالسعف أو الجريد، كما هو في ثياب منطقة الخليل، وقد يأخذ شكلاً حلزونيّاً كما في هو ثياب بيت جبرين. أمّا النخل العالي فيظهر بجمال يفوق التصوّر في منطقة رام الله. وتظهر أشجار السرو مطرّزة بزخرفة هندسيّة جميلة في ثياب منطقة الفالوجة وقرى مدينة غزّة.
والمعروف أنّ شجرة العنب "الكرمة"، شجرة قديمة، عرفها إنسان فلسطين منذ العصر الحجريّ القديم، وعثر عليها منقّبون في كهوف جبل الكرمل، كما اهتمّ الكنعانيّون بزراعتها، ولذلك نراها مطرّزة على الأزياء الشعبيّة في معظم بلاد فلسطين.
أمّا شجرة الزيتون، فقد عُرِفَتْ في فلسطين منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وظهرت في نقوش «راس شمرا»، و«أجاريت»، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم والكتب المقدّسة الاخرى. وقد رُسِمَت شجرة الزيتون داخل قبّة مسجد الصخرة، ولذلك نرى هذه الشجرة وأوراقها مطرّزة على معظم الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة، خاصّة في قرى غزّة ومدينة الرملة.
ومن النباتات الّتي تظهر في زخارف التطريز على الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة سنابل القمح، وهي عنوان الخير والعطاء، ونرى ذلك واضحاً في زخارف التطريز على ثياب قرى غزّة ورام الله والرملة. كما ينتشر تطريز الأزهار والورود على تلك الأزياء، وخاصّة زهرة الحنّون، وهي زهرة برّيّة حمراء مثل زهرة شقائق النعمان، وزهرة القرنفل، وكثيراً ما تظهر في زخارف الثياب السوداء في قرى اللواء الجنوبيّ في فلسطين.
وتخلو الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة من تطريز الحيوانات ما عدا الأسد والحصان؛ فتظهر أشكال الأسود الخرافيّة الشكل مطرّزة على أزياء منطقة القدس، وغالباً ما يظهر الأسد في ظلال شجرة زيتون كبيرة. أمّا الحصان فقد تعلّق به الكنعانيّون منذ القدم، وتجدّد هذا الاهتمام بعد العصر الإسلاميّ، وظهر واضحاً في التطريز على الأزياء خلال الثورة الفلسطينيّة الأولى عام 1936، حيث ارتبط الحصان بالفارس الثائر، فكان لا يطرّز إلّا على ثوب زوجة الفارس الثائر فقط، وما زال يظهر حتّى يومنا هذا على الصدر في أزياء منطقة القدس.
من خلال هذا العرض للوحدات الزخرفيّة الموروثة، والمطرّزة على الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة، نجدها تحمل رموزاً تراثيّة تاريخيّة، مرتبطة بالأرض، ومعظمها يعود إلى فترات موغلة في القدم دليلاً على الأصالة والعراقة. وقد استمرّت حتّى يومنا هذا دونما انقطاع، كهويّة تدلّ على وجود الشعب الفلسطينيّ الضارب بجذوره في أعماق التاريخ الحضاريّ على تراث وطنه فلسطين.