الصين تتسلل إلى قلب أميركا

إعصار الملح.. عامان من التجسس الصيني يكشف هشاشة الأمن الأميركي

/ لم يعُد الصراع بين القوى الكبرى يُقاس بمدى قوة الجيوش أو حجم الترسانات النووية، بل بقدرة الدول على اختراق شبكات بعضها البعض، والسيطرة على تدفق المعلومات، والتسلل إلى البُنى الرقمية التي أصبحت العمود الفقري للحياة السياسية والاقتصادية والأمنية. في هذا العالم الجديد، تتحول البيانات إلى سلاح استراتيجي، وتصبح شبكات الاتصالات ساحات حرب غير مرئية، تُدار بصمت، وتُحسم عبر خوارزميات وبرمجيات أكثر مما تُحسم عبر الدبابات والطائرات. وسط هذا المشهد، انفجرت قضية «إعصار الملح» التي كشفت عن عملية تجسس سيبراني واسعة تُنسب إلى الصين، امتدت لأكثر من عامين، وتغلغلت في شبكات الاتصالات الأميركية، ووصلت إلى أنظمة حساسة تُستخدم للتنصت القضائي، بل ولامست بيانات ملايين المواطنين. لم يكن الأمر مجرد اختراق تقني، بل كان حدثاً يعكس عمق التحول في طبيعة الصراع بين واشنطن وبكين، ويكشف أن الحرب الباردة الجديدة تُخاض عبر الكابلات والأقمار الصناعية، لا عبر الجبهات التقليدية.
جذور الصراع السيبراني بين واشنطن وبكين
تعود جذور هذا الاختراق إلى سياق أوسع من التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، حيث تتداخل التكنولوجيا مع الجغرافيا السياسية، ويتحوّل التفوق الرقمي إلى معيار للقوة العالمية. فمنذ اندلاع الحرب التجارية بين البلدين عام 2018، بدا واضحاً أن المواجهة لن تبقى محصورة في الرسوم الجمركية، بل ستتوسع لتشمل الفضاء السيبراني الذي لا يخضع لحدود ولا لقوانين واضحة. الصين، التي تسعى إلى تثبيت نفسها قوة عالمية صاعدة، ضاعفت استثماراتها في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وشبكات الجيل الخامس، بينما ترى واشنطن في هذا الصعود تهديداً مباشراً لتفوقها التاريخي. في مثل هذا السياق، تصبح شبكات الاتصالات هدفاً مثالياً، لأنها تحمل أسرار السياسيين، ومداولات الدبلوماسيين، وتحركات الجيش، وبيانات الشركات، وتفاصيل حياة المواطنين. اختراقها يعني امتلاك نافذة واسعة على المجتمع الأميركي بكل طبقاته ومستوياته، وهو ما يجعل أي عملية تجسس تستهدفها جزءاً من صراع استراتيجي طويل الأمد.
التوغّل داخل الشبكات الأميركية
تكشف التحقيقات الأميركية أن «إعصار الملح» لم يكن عملية سريعة أو عشوائية، بل كان اختراقاً متدرجاً بدأ من ثغرة صغيرة في إحدى شركات الاتصالات الكبرى، ثم توسّع بصمت داخل الشبكات، تماماً كما يتسلل الماء داخل الشقوق الصغيرة قبل أن يملأ الجدار بأكمله. اعتمد المخترقون على أسلوب «التجسس الهادئ»، إذ لا يسعون إلى تعطيل الخدمات أو ترك آثار واضحة، بل يراقبون بصمت، يجمعون البيانات، ويزرعون برمجيات خفية تسمح لهم بالبقاء داخل الشبكة لأطول فترة ممكنة. ومع مرور الوقت، تمكنوا من الوصول إلى أنظمة حساسة تُستخدم للتنصت القضائي، وهي أنظمة تحتوي على معلومات تتعلق بتحقيقات جنائية وأمنية، ومراقبة شخصيات سياسية رفيعة. هذا الوصول منحهم قدرة على الاطلاع على مكالمات وتحركات شخصيات مؤثرة، وربما تسجيلها أو تحليلها، ما يفتح الباب أمام احتمالات خطيرة تتعلق بالتجسس السياسي.
الأخطر أن العملية لم تقتصر على شركة واحدة، بل امتدت إلى ثماني شركات اتصالات على الأقل، وإلى شبكات الحرس الوطني في إحدى الولايات، وإلى أنظمة أخرى لم تُكشف تفاصيلها بالكامل. هذا التوسع يشير إلى أن العملية كانت جزءاً من استراتيجية واسعة تهدف إلى بناء صورة شاملة عن المجتمع الأميركي ومؤسساته، لا مجرد سرقة معلومة محددة. ومع أن الولايات المتحدة حاولت احتواء آثار الاختراق، إلا أن بعض المسؤولين اعترفوا بأن آثار العملية ما زالت قائمة حتى بعد اكتشافها، ما يعكس مدى تعقيد البرمجيات المستخدمة وقدرتها على التخفي داخل الأنظمة.
ي أهداف الصين ..ما وراء التجسس التقليدي
لا يمكن فهم «إعصار الملح» بمعزل عن الطموحات الصينية في الفضاء السيبراني. فالصين تدرك أن المعلومات هي أساس القوة في القرن الحادي والعشرين، وأن الدولة التي تمتلك القدرة على جمع البيانات وتحليلها تستطيع التأثير في خصومها، والتنبؤ بقراراتهم، وربما التأثير في مسارهم السياسي. ولذلك، فإن أحد أهداف العملية كان على الأرجح بناء صورة استخباراتية واسعة عن الولايات المتحدة، تشمل ديناميكيات السياسة الداخلية، واتجاهات الرأي العام، وتحركات الجيش، وأولويات الأجهزة الأمنية. كما أن الوصول إلى أنظمة التنصت القضائي منح الصين نافذة على التحقيقات الحساسة، وهو ما يمكن استخدامه في بناء استراتيجيات مضادة أو في فهم كيفية عمل المؤسسات الأميركية من الداخل.
إلى جانب ذلك، فإن العملية تحمل بُعداً عسكرياً واضحاً، إذ إن فهم كيفية تواصل الجيش الأميركي، وما هي نقاط الضعف في شبكاته، يمنح الصين أفضلية في أي مواجهة محتملة في المحيط الهادئ. كما أن زرع أبواب خلفية داخل الشبكات الأميركية يمنح بكين ورقة ضغط استراتيجية يمكن استخدامها في المستقبل. وفي الوقت نفسه، فإن العملية تحمل رسالة سياسية مفادها أن الصين أصبحت لاعباً رئيسياً في الحرب الرقمية، وأن قدرتها على تنفيذ عمليات معقدة وطويلة الأمد أصبحت جزءاً من أدوات قوتها الصاعدة.
تداعيات العملية على الأمن القومي الأميركي
أحدثت العملية صدمة داخل المؤسسات الأميركية، لأنها كشفت أن البُنية الرقمية للولايات المتحدة ليست محصّنة كما كان يُعتقد. فالاكتشاف المتأخر للاختراق، واستمراره رغم محاولات الإزالة، كشفا عن فجوات كبيرة في أنظمة الحماية، وعن حاجة ملحة لإعادة بناء منظومة الأمن السيبراني من الأساس. كما أثارت العملية مخاوف لدى الحلفاء الذين يعتمدون على التكنولوجيا الأميركية، ودفعتهم إلى التساؤل عن مدى قدرة واشنطن على حماية شبكاتها. وعلى المستوى السياسي، زادت العملية من حدة التوتر بين واشنطن وبكين، وأصبحت جزءاً من سلسلة طويلة من الملفات التي تعمّق الهوة بين البلدين، وتدفعهما نحو مواجهة مفتوحة في الفضاء السيبراني.
فصل جديد من الحرب الباردة الرقمية
تكشف عملية «إعصار الملح» أننا أمام مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى، مرحلة لا تُخاض فيها الحروب عبر الجيوش، بل عبر الخوادم والشبكات. فالاختراق الذي امتد لأكثر من عامين لم يكن مجرد حادثة تقنية، بل كان حدثاً يعكس عمق التحول في طبيعة القوة العالمية، ويكشف أن البيانات أصبحت الثروة الأكثر قيمة في القرن الحادي والعشرين. بالنسبة للولايات المتحدة، شكّل الاختراق جرس إنذار دفعها إلى إعادة النظر في منظومتها السيبرانية. أما الصين، فقد أثبتت عبر العملية أنها لاعب أساسي في الحرب الرقمية، وأن قدرتها على التسلل إلى قلب الشبكات الأميركية أصبحت جزءاً من أدوات قوتها. وفي النهاية، يبدو أن «إعصار الملح» ليس سوى بداية لفصل طويل من الحرب الباردة الرقمية، فصل ستتحدد ملامحه عبر القدرة على حماية الفضاء السيبراني، لا عبر امتلاك الأسلحة التقليدية.
البحث
الأرشيف التاريخي