الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.. روسيا في قلب عالم متعدد الأقطاب

/ في مدينة سان بطرسبورغ، حيث تتقاطع ذاكرة الإمبراطورية الروسية مع حاضرها الجيوسياسي، وقف الرئيس فلاديمير بوتين ليُعلن أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أصبح قوة مكتفية ذاتياً في عالم متعدد الأقطاب. لم يكن هذا التصريح مجرد عبارة بروتوكولية، بل هو إعلان استراتيجي يعكس رؤية روسيا لمكانتها في النظام الدولي الجديد، ويؤكد أن موسكو لم تعد تنظر إلى نفسها كطرف تابع أو متأثر بالغرب، بل كقطب مستقل قادر على صياغة مساره الاقتصادي والسياسي. والسؤال هنا كيف يمكن قراءة خطاب بوتين في سياقه التاريخي والفلسفي، كما الاتحاد الاقتصادي الأوراسي كأداة روسية لإعادة تشكيل النظام العالمي، مع التركيز على الفرص والتحديات، والرهانات الكبرى التي تجعل من هذا المشروع أحد أهم تجارب التعددية القطبية في القرن الحادي والعشرين.
الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.. من الفكرة إلى الواقع
نشأ الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عام 2015 كإطار مؤسسي يجمع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزستان، لكنه في جوهره امتداد لمحاولات سابقة لإحياء الفضاء الاقتصادي المشترك بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. الفكرة الأساسية كانت إعادة وصل ما انقطع، وتأسيس سوق موحدة تعيد الاعتبار للروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية بين هذه الدول. روسيا، باعتبارها القوة الأكبر، أرادت أن تجعل من هذا الاتحاد منصة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وفي الوقت نفسه وسيلة لمواجهة الضغوط الغربية المتزايدة.
الاتحاد لم يقتصر على إزالة الحواجز الجمركية أو تنسيق السياسات الاقتصادية، بل سعى إلى بناء مؤسسات مشتركة مثل المجلس الاقتصادي الأعلى واللجنة الاقتصادية الأوراسية، التي تضع السياسات وتنسق التشريعات. ومع مرور الوقت، بدأ الاتحاد يوقع اتفاقيات تجارة حرة مع شركاء خارجيين مثل فيتنام والصين، والآن إندونيسيا، ما يعكس طموحه في أن يكون لاعباً عالمياً لا مجرد تكتل إقليمي.
خطاب بوتين.. الاكتفاء الذاتي كإعلان سيادة
حين يؤكد بوتين أن الاتحاد أصبح قوة مكتفية ذاتياً، فهو يرسل رسالة مزدوجة. للداخل، يطمئن الشعوب بأن التكتل قادر على مواجهة العقوبات والضغوط الغربية، وأنه يوفر مظلة للاستقرار الاقتصادي. وللخارج، يعلن أن روسيا لم تعد بحاجة إلى الغرب كمحور اقتصادي أو سياسي، بل أصبحت قادرة على بناء شراكات بديلة مع آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
الاكتفاء الذاتي هنا ليس مجرد قدرة اقتصادية، بل هو مفهوم فلسفي يرتبط بالسيادة والكرامة الوطنية. روسيا، بعد سنوات من العقوبات الغربية، دفعت نحو تطوير صناعاتها المحلية، من الزراعة إلى الدفاع، لتجعل من الاتحاد منصة مقاومة للهيمنة الاقتصادية الغربية. هذا الخطاب يعكس رؤية بوتين للعالم: نظام متعدد الأقطاب، حيث لا تحتكر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي القرار الدولي، بل تتوزع القوة بين مراكز مختلفة، لكل منها حق صياغة نموذجها الخاص.
التحديات الداخلية بين الطموح والواقع
رغم الطموحات الكبيرة، يواجه الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تحديات داخلية لا يمكن تجاهلها. أولها تفاوت القدرات الاقتصادية بين الدول الأعضاء، إذ ُتمثل روسيا أكثر من 80% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد، ما يخلق خللاً في التوازن ويجعل بعض الدول مثل قيرغيزستان وأرمينيا تعتمد بشكل كبير على الدعم الروسي. ثانيها التباينات السياسية، إذ رغم وحدة الهدف الاقتصادي، هناك اختلافات في السياسات الخارجية، خصوصاً تجاه الغرب والصين. بيلاروسيا مثلاً تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية تجعلها أكثر هشاشة، فيما تسعى كازاخستان إلى الحفاظ على استقلالية نسبية في علاقاتها الدولية.
إضافةً إلى ذلك، هناك مشاكل في البنية التحتية والبيروقراطية، حيث ضعف شبكات النقل واللوجستيات بين الدول الأعضاء يعرقل سرعة تنفيذ القرارات، والبيروقراطية تجعل من عملية التكامل أبطأ مما يجب. هذه التحديات تطرح سؤالاً أساسياً: هل يستطيع الاتحاد أن يتجاوز هذه العقبات ويحقق تكاملاً فعلياً، أم سيظل مجرد إطار رمزي؟
البُعد الجيوسياسي.. روسيا في مواجهة الغرب
العقوبات الغربية على روسيا بعد أزمة أوكرانيا كانت عاملاً محفّزاً لتعزيز الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. موسكو أدركت أن الاعتماد على الغرب لم يعد خياراً، وأن عليها بناء بدائل اقتصادية وسياسية. الاتحاد هنا يصبح أداة استراتيجية لمواجهة الضغوط، ومنصة لتوسيع النفوذ الروسي في آسيا وأميركا اللاتينية.
اتفاقية التجارة الحرة مع إندونيسيا تعكس هذا التوجه، فهي ليست مجرد صفقة اقتصادية، بل إعلان أن الاتحاد قادر على بناء شراكات خارج الفضاء السوفياتي السابق. التعاون مع الصين يضع الاتحاد في قلب مشروع «الحزام والطريق»، ما يمنحه بعداً عالمياً ويجعله جزءاً من شبكة اقتصادية تمتد من آسيا إلى أوروبا.
بهذا المعنى، يُعيد الاتحاد تعريف القوة، فهي لم تعد فقط عسكرية، بل اقتصادية–ثقافية. روسيا تسعى إلى أن يكون الاتحاد مركزاً لإنتاج المعرفة والابتكار، لا مجرد سوق للسلع، ما يعكس طموحها في أن تكون قوة حضارية لا مجرد لاعب اقتصادي.
فلسفة التعددية القطبية.. نقد المركزية الغربية
خطاب بوتين يعكس نقداً عميقاً للمركزية الغربية التي هيمنت منذ نهاية الحرب الباردة. التعددية القطبية تعني الاعتراف بحق كل حضارة في صياغة نموذجها الخاص، وعدم فرض نموذج واحد على الجميع. الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يصبح هنا تجسيداً لهذه الفلسفة، فهو ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل مشروع هوية يعيد تعريف الذات الروسية–الأوراسية.
الاكتفاء الذاتي يصبح رمزاً للكرامة الوطنية، والتكامل الاقتصادي يرافقه خطاب ثقافي يعيد الاعتبار للتراث الأوراسي، من السلافية إلى الآسيوية. هذا البعد الثقافي يمنح المشروع عمقاً يتجاوز الحسابات المادية، ويجعله جزءاً من معركة أوسع لإعادة تشكيل النظام العالمي على أسس أكثر عدلاً وتوازناً.
المستقبل بين الفرص والتهديدات
الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يملك فرصاً كبيرة، أبرزها بناء سوق موحدة للطاقة تجعله لاعباً أساسياً في سوق الغاز والنفط العالمية، والتعاون مع آسيا الذي يمنحه فرصاً للتوسع. لكنه يواجه أيضاً تهديدات جدية، مثل الضغوط الغربية المستمرة، والتحديات الداخلية كضعف البنية التحتية والفساد، وخطر أن يتحول إلى مجرد أداة روسية، ما يضعف ثقة الأعضاء الآخرين.
السيناريوهات المحتملة تتراوح بين نجاح الاتحاد في تحقيق تكامل فعلي يجعله نموذجاً مضاداً للاتحاد الأوروبي، وفشله الذي سيعني بقاءه مجرد إطار رمزي. لكن حتى في حالة الفشل، يبقى الاتحاد تعبيراً عن طموح روسيا في أن تكون قوة مستقلة، وعن رغبتها في إعادة تشكيل النظام العالمي على أسس جديدة.
ختاماً خطاب بوتين في سان بطرسبورغ ليس مجرد إعلان اقتصادي، بل هو بيان فلسفي–جيوسياسي يضع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في قلب النظام العالمي الجديد. الاكتفاء الذاتي هنا ليس فقط قدرة على إنتاج السلع، بل هو إعلان استقلال حضاري عن الغرب، ورهان على التعددية القطبية كإطار للقرن الحادي والعشرين. يبقى السؤال مفتوحاً: هل يستطيع الاتحاد أن يتجاوز تحدياته الداخلية ويترجم هذه الرؤية إلى واقع ملموس؟ أم سيظل خطاباً رمزياً يعكس طموحات روسيا أكثر مما يعكس واقع الأعضاء الآخرين؟ في كل الأحوال، فإن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أصبح اليوم مختبراً حياً لفكرة التعددية القطبية، وميداناً تتقاطع فيه الفلسفة بالاقتصاد، والسيادة بالهوية، في عالم يعاد تشكيله على وقع الأزمات والتحولات الكبرى.  

 

البحث
الأرشيف التاريخي