خفض الوجود العسكري الأميركي في أوروبا.. إعادة تموضع أم بداية انسحاب استراتيجي؟
/ في خطوة أثارت اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والعسكرية، أعلنت الولايات المتحدة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2025 عن نيتها خفض عدد قواتها المنتشرة على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، مع الإبقاء على نحو ألف جندي في رومانيا. وبينما شددت واشنطن على أن القرار لا يعني انسحاباً من أوروبا، بل يُعد «تعديلاً» في الانتشار العسكري، وتباينت ردود الفعل بين من اعتبره مؤشراً على تراجع الالتزام الأميركي تجاه الحلفاء الأوروبيين، ومن رأى فيه إعادة تموضع طبيعية في ضوء أولويات استراتيجية جديدة.
تتطلب هذه الخطوة قراءة معمقة لأبعادها المتعددة، بما يشمل الخلفيات السياسية والعسكرية، موقف حلف الناتو، تداعيات القرار على الأمن الأوروبي، ردود الفعل الإقليمية، والدور المتنامي لأوروبا في حماية نفسها.
كما تفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول ما إذا كان هذا التحول يمهد لبداية انسحاب تدريجي أميركي من القارة العجوز، أو أنه مجرد إعادة توزيع للقوة في سياق عالمي متغير.
خلفيات القرار الأميركي
منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2025، بدا واضحاً أن السياسة الخارجية الأميركية ستشهد تحولات جذرية، لا سيّما في ما يتعلق بعلاقات واشنطن مع حلفائها التقليديين. فقد أعاد ترامب التأكيد على مواقفه السابقة التي تطالب الدول الأوروبية بتحمل مسؤولياتها الدفاعية وزيادة إنفاقها العسكري، معتبراً أن الولايات المتحدة «لا يمكنها الاستمرار في دفع فاتورة الدفاع عن أوروبا».
في هذا السياق، جاء قرار خفض القوات الأميركية في أوروبا كترجمة عملية لهذه الرؤية، إذ أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن تعليق مناوبات فرقة كانت تنشر عناصرها في دول مثل رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا والمجر.
إلى جانب التغير في القيادة السياسية، تواجه الولايات المتحدة تحديات استراتيجية متزايدة في مناطق أخرى من العالم، أبرزها التوتر مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ، والتصعيد في الشرق الأوسط. هذه التحديات دفعت واشنطن إلى إعادة توزيع مواردها العسكرية بما يضمن الجاهزية القصوى في مناطق التوتر، دون التخلي الكامل عن التزاماتها في أوروبا.
رومانيا في قلب المعادلة
رومانيا، التي ستبقي فيها نحو ألف جندي أميركي، تحتل موقعاً استراتيجياً على الساحل الغربي للبحر الأسود، وتشكل نقطة ارتكاز أساسية في بنية الدفاع الأطلسي. وتضم البلاد قواعد عسكرية حيوية مثل قاعدة «ميخائيل كوغالنيسيانو» الجوية، ومنظومة الدفاع الصاروخي في «ديفيسيلو»، التي لا تزال تعمل بكامل طاقتها.
سارعت بوخارست إلى التأكيد أن القرار الأميركي لا يعني انسحاباً، بل هو جزء من إعادة انتشار متفق عليها مسبقاً. وقال وزير الدفاع الروماني يونوت موستيانو إن «القدرات الاستراتيجية لم تتبدل»، مشدداً على أن «العلم الأميركي سيظل مرفوعاً في المواقع الثلاثة الأساسية».
من جهته، أكد الجيش الأميركي أن «الخطوة لا تمثل انسحاباً من أوروبا، ولا تعكس تراجعاً في الالتزام تجاه الناتو»، بل تُعد «مؤشراً إيجابياً نحو تعزيز القدرات والمسؤوليات الأوروبية».
موقف حلف شمال الأطلسي
حلف شمال الأطلسي لم يتأخر في الرد على القرار الأميركي، إذ وصفه بأنه «تعديل اعتيادي» في الانتشار العسكري، مؤكداً أنه أُبلغ مسبقاً بهذه الخطوة. وقال مسؤول في الحلف إن «الوجود الأميركي في أوروبا لا يزال أكبر مما كان عليه قبل عام 2022»، في إشارة إلى التعزيزات التي أُرسلت بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
أحد أبرز المخاوف التي أثيرت عقب الإعلان الأميركي تمثلت في مدى التزام واشنطن بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تنص على أن أي هجوم على دولة عضو يُعد هجوماً على جميع الأعضاء. إلا أن الولايات المتحدة سارعت إلى طمأنة الحلفاء، مؤكدة أن «التعديل لا يغيّر البيئة الأمنية في أوروبا»، وأن التزامها بالمادة الخامسة «ثابت وواضح».
أوروبا أمام مسؤوليات جديدة
في ظل التراجع النسبي للدور الأميركي، بدأت بعض الدول الأوروبية باتخاذ خطوات لتعزيز وجودها العسكري شرق القارة. فقد أعلنت فرنسا عن نيتها رفع عدد جنودها في رومانيا من 1500 إلى 4000 جندي، في مؤشر واضح على تنامي الدور الأوروبي في حماية الجبهة الشرقية للناتو.
يرى محللون أن ما يجري ليس انسحاباً أميركياً بقدر ما هو «تدوير للأدوار» داخل الحلف، إذ تركز الولايات المتحدة على تقديم الدعم الاستخباراتي واللوجستي، والتدخل السريع عند الحاجة، بينما تتولى الدول الأوروبية مسؤوليات أكبر في الدفاع المباشر.
تداعيات القرار على الأمن الأوروبي
من زاوية أخرى، يرى بعض المراقبين أن خفض القوات الأميركية في أوروبا قد يُفسَّر على أنه مكسب استراتيجي لروسيا، خصوصاً في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوترات على الجبهة الشرقية للناتو.
فوجود القوات الأميركية كان يشكل رادعاً نفسياً وسياسياً لأي تحرك روسي محتمل، وغيابه قد يُنظر إليه في موسكو كفرصة لإعادة توسيع النفوذ أو اختبار مدى تماسك الحلف الغربي.
في المقابل، يرى آخرون أن القرار قد يدفع الدول الأوروبية إلى تعزيز تعاونها الدفاعي، سواء داخل إطار الناتو أو عبر مبادرات مستقلة مثل «المجموعة الأوروبية للتدخل السريع». هذا التحول قد يؤدي إلى نشوء بنية دفاعية أوروبية أكثر استقلالية، وهو ما طالما دعت إليه فرنسا وألمانيا.
قراءة في التوقيت والدلالات
يأتي القرار الأميركي في وقتٍ حساس للغاية، حيث لا تزال الحرب في أوكرانيا مستعرة، وتتصاعد التوترات في الشرق الأوسط، وتستمر الصين في تعزيز نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ. هذا التوقيت يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن قادرة على الحفاظ على التزاماتها في أكثر من جبهة في آنٍ واحد.
القرار يُشكل أيضاً اختباراً لثقة الحلفاء الأوروبيين في التزام الولايات المتحدة. فبينما تؤكد واشنطن أن التعديل لا يمس جوهر العلاقة، إلا أن تكرار مثل هذه الخطوات قد يؤدي إلى تآكل الثقة، ويدفع بعض الدول إلى البحث عن بدائل أمنية، سواء عبر تعزيز قدراتها الذاتية أو التقارب مع قوى أخرى.
الركيزة الدفاعية الأوروبية
لطالما شكّلت العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا حجر الزاوية في النظام الأمني العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أن التحولات الجيوسياسية المتسارعة، وتزايد النزعة الانعزالية في السياسات الأميركية، تدفع أوروبا إلى إعادة التفكير في مدى استدامة هذا الاعتماد. فمع كل قرار أميركي يُنظر إليه على أنه تقليص للوجود أو الالتزام، تتعزز الدعوات داخل الاتحاد الأوروبي لتقوية «الركيزة الدفاعية الأوروبية» المستقلة، سواء عبر تعزيز التعاون العسكري بين الدول الأعضاء أو تطوير صناعات دفاعية محلية تقلل من التبعية التكنولوجية للولايات المتحدة.
التحديات أمام بناء استقلالية دفاعية أوروبية
رغم التوجهات السياسية نحو تعزيز الاستقلالية الدفاعية، تواجه أوروبا تحديات كبيرة في هذا المسار. فالتفاوت في القدرات العسكرية بين الدول الأعضاء، والانقسامات السياسية حول أولويات الأمن، إضافة إلى الاعتماد العميق على البنية التحتية الأميركية في مجالات مثل الاستخبارات والقيادة والسيطرة، تجعل من الصعب تحقيق استقلالية كاملة في المدى القريب. ومع ذلك، فإن القرارات الأميركية الأخيرة قد تكون بمثابة «صدمة محفّزة» تدفع أوروبا إلى تسريع خطواتها نحو بناء منظومة دفاعية أكثر تماسكاً وفاعلية.
بين الانسحاب وإعادة التموضع
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن قرار الولايات المتحدة خفض وجودها العسكري في أوروبا لا يُمثل انسحاباً كاملاً، بل هو جزء من إعادة تموضع أوسع في إطار استراتيجية أميركية جديدة. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة تحمل في طياتها رسائل سياسية وعسكرية لا يمكن تجاهلها، سواء من قبل الحلفاء الأوروبيين أو الخصوم الجيوسياسيين.
فمن جهة، تؤكد واشنطن أنها لا تزال ملتزمة بأمن أوروبا، وأن التعديل في الانتشار لا يمس جوهر العلاقة مع الناتو. ومن جهةٍ أخرى، يفرض هذا القرار على أوروبا تحديات جديدة تتعلق بقدرتها على سد الفراغ، وتطوير منظومة دفاعية مستقلة وفعالة.
في عالم يتغير بسرعة، حيث تتعدد مراكز القوة وتتشابك التهديدات، لم يعد بالإمكان الاعتماد على مظلة واحدة للحماية. بل بات من الضروري بناء شراكات مرنة، واستراتيجيات متعددة الأبعاد، تضمن الأمن والاستقرار دون الارتهان الكامل لأي طرف. وبينما تواصل الولايات المتحدة إعادة ترتيب أولوياتها، فإن أوروبا أمام لحظة تاريخية لإعادة تعريف دورها في النظام الدولي، ليس فقط كحليف، بل كفاعل مستقل قادر على حماية مصالحه وصون أمنه.
