الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • ثقاقه
  • دولیات
  • رياضة وسياحة
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة وستون - ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة وستون - ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥ - الصفحة ٥

الهجرة لمن يدفع..

ترامب يعيد تشكيل أميركا على مقاس المال

/ في لحظة سياسية مشحونة، وبينما تتأرجح الولايات المتحدة بين تاريخها في احتضان المهاجرين ورغبة متصاعدة في الانغلاق القومي، وقّع دونالد ترامب قرارًا تنفيذيًا يُعد من أخطر ما صدر عن إدارته في مجال الهجرة. القرار، الذي فُرض في 20 سبتمبر/ أيلول 2025، يقضي بفرض رسوم سنوية قدرها 100 ألف دولار على تأشيرة H1-B، وهي التأشيرة التي لطالما كانت بوابة عبور لأذكى العقول من أنحاء العالم إلى قلب أميركا، حيث تُصنع التكنولوجيا ويُعاد تعريف المستقبل.
لم يكن هذا القرار مجرد إجراء إداري، بل مثّل تحولًا جذريًا في فلسفة الهجرة وإعادة تشكيل النموذج الأميركي من جذوره. وهنا يطرح السؤال الرئيسي: هل يكتب ترامب شهادة انحدار أميركا، أم يُعيد رسم ملامحها وفق رؤية جديدة؟
الجذور التاريخية لتأشيرة H1-B
منذ تأسيسها عام 1990، كانت تأشيرة H1-B أداة استراتيجية لجذب أفضل المواهب العالمية. لم تكن مجرد وثيقة سفر، بل كانت وعدًا بالفرصة، وبأن أميركا هي المكان الذي يُكافأ فيه الذكاء، وتُحتضن فيه الموهبة، بغض النظر عن الأصل أو اللغة أو الدين. آلاف العلماء والمهندسين والأطباء دخلوا الولايات المتحدة بهذه التأشيرة، وأسهموا في بناء شركات عملاقة مثل جوجل، وأمازون، ومايكروسوفت، وساهموا في تطوير لقاحات، واكتشافات علمية، ومنتجات غيرت وجه العالم. كانت هذه التأشيرة بمثابة «الدجاجة التي تبيض ذهبًا»، لأنها لم تكن مجرد منفذ للهجرة، بل كانت قناة لتغذية الاقتصاد الأميركي بأفضل ما في العالم من عقول وكفاءات.
فلسفة ترامب في الهجرة 
منذ ولايته الأولى، لم يُخفِ ترامب عداءه لنظام الهجرة الذي يعتبره «بابًا خلفيًا» لتسلل العمالة الأجنبية إلى السوق الأميركي. لكنه في هذه المرة، لم يكتفِ بالتضييق أو التشديد، بل اختار أن يضرب في الصميم: أن يجعل من تأشيرة H1-B عبئًا ماليًا لا يُحتمل، وأن يُعيد تعريف من يستحق أن يعمل في أميركا، لا بناءً على الكفاءة، بل على القدرة على الدفع. هكذا، تحوّلت «الدجاجة التي تبيض ذهبًا» إلى طائرٍ مهدد بالانقراض، وتحول الحلم الأميركي إلى امتياز للأثرياء فقط.
القرار لم يكن مجرد إجراء مالي، بل كان إعلانًا عن فلسفة جديدة للهجرة: فلسفة تقوم على الانغلاق، وعلى إعطاء الأولوية للمواطن الأميركي، حتى لو كان أقل كفاءة، وعلى تحويل الهجرة من استثمار في العقول إلى صفقة تجارية. هذا التحول لا يعكس فقط توجّهًا سياسيًا، بل يعكس رؤية أيديولوجية ترى في الانفتاح تهديدًا، وفي التنوع عبئًا، وفي العولمة خطرًا على الهوية الوطنية.
الشركات الأميركية بين المطرقة والسندان
شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى كانت أول من شعر بارتدادات القرار. هذه الشركات، التي تعتمد بشكلٍ كبير على العمالة الأجنبية الماهرة، وجدت نفسها أمام معادلة مستحيلة: هل تستمر في توظيف المهندسين والعلماء من الهند والصين وأوروبا، وتدفع 100 ألف دولار سنويًا لكل منهم؟ أم تُعيد هيكلة فرقها وتعتمد على خريجي الجامعات الأميركية، رغم النقص الواضح في الكفاءات؟
وزير التجارة الأميركي، هاورد لوتنيك، قالها بوضوح: «إذا وظّفت الشركات عمالًا أجانب، فعليها دفع 100 ألف دولار للحكومة، ثم دفع رواتب موظفيها، وهذا ليس مربحًا». الرسالة كانت صريحة: لا نريدكم أن تُوظفوا أجانب، حتى لو كانوا الأفضل. لكن الشركات، خاصة الناشئة منها، لا تملك رفاهية الاختيار. الابتكار لا ينتظر، والمنافسة العالمية لا ترحم. كثير من هذه الشركات بدأت بالفعل في التفكير بفتح مقرات خارج الولايات المتحدة، في كندا أو أوروبا أو الهند، لتوظيف المواهب دون دفع هذه الرسوم الباهظة. وهذا يعني خسارة وظائف وفرص داخلية، وتراجع في الاستثمارات، وانكماش في النمو.
ارتدادات القرار على الدول المصدّرة للكفاءات
الهند، التي كانت أكبر مستفيد من تأشيرات H1-B بنسبة تفوق 70%، شعرت بالصدمة. شركات خدمات التكنولوجيا مثل «تاتا» و«إنفوسيس» بدأت بإعادة تقييم استراتيجياتها، ووزارة الخارجية الهندية طالبت بتوضيحات عاجلة من واشنطن. هيئة «ناسكوم» الهندية وصفت القرار بأنه «مربك ومُضر»، خاصةً أن الموعد النهائي كان بيوم واحد فقط.
الصين، التي جاءت في المرتبة الثانية بنسبة 11.7%، لم تُصدر ردًا رسميًا، لكنها تراقب عن كثب تأثير القرار على طلابها ومهندسيها في أميركا. الجامعات الأميركية، التي تعتمد على الطلاب الدوليين كمصدر دخل، بدأت تشعر بالقلق من تراجع الطلب، خاصةً إذا كانت فرص العمل بعد التخرج محدودة أو مكلفة.
الهجرة لمن يملك لا لمن يستحق
في موازاة القرار، وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًا بإنشاء «البطاقة الذهبية»، وهي إقامة دائمة مقابل مليون دولار، أو مليوني دولار إذا دعمتهم شركة. هذا النظام يُعيد تعريف الهجرة من كونها استثمارًا في العقول، إلى كونها صفقة مالية. ترامب توقّع «نجاحًا باهرًا» لهذا النظام، وقال إنه سيجذب «مواطنين أجانب ذوي مواصفات استثنائية». لكن السؤال هنا: هل المواصفات الاستثنائية تُقاس بالمال؟ وهل يمكن شراء الحق في العمل والعيش في أميركا، بينما يُمنع من لا يملك المال، حتى لو كان عبقريًا؟هذا النظام يُقصي المواهب غير القادرة على الدفع، ويُحوّل أميركا من أرض الفرص إلى أرض الامتيازات.
مستقبل الابتكار الأميركي في ظل القيود
لطالما كانت أميركا حلمًا للمهاجرين الطموحين. لكن فرض رسوم بهذا الحجم يُحوّل الحلم إلى امتياز للأثرياء فقط. الباحثون والمهندسون الشباب من الدول النامية سيُحرمون من فرصة العمل في أميركا. أصحاب الشركات الناشئة الذين يعتمدون على المواهب الأجنبية سيواجهون صعوبات في التوظيف. الطلاب الدوليون قد يعيدون التفكير في الدراسة بأميركا، إذا كانت فرص العمل بعد التخرج محدودة أو مكلفة.
المستقبل يُبنى بالعقول لا بالأموال 
في الوقت الذي تتجه فيه الولايات المتحدة نحو تشديد سياساتها تجاه المهاجرين من أصحاب الكفاءات، تتبنى دول أخرى نهجًا أكثر انفتاحًا ومرونة، مدركة أن المستقبل يُبنى بالعقول لا بالأموال. كندا، على سبيل المثال، أطلقت برنامج «Global Talent Stream» الذي يتيح للمهندسين والمبرمجين الانضمام إلى سوق العمل الكندي بسرعة وكفاءة، دون أن يُثقل كاهلهم برسوم مرتفعة أو إجراءات بيروقراطية معقدة. أستراليا تعتمد نظامًا دقيقًا للنقاط، يمنح الأفضلية لأصحاب المهارات والخبرات، ويضع الكفاءة في صدارة معايير القبول، متجاوزًا الاعتبارات المالية. أما بريطانيا، فقد دشّنت «Visa Tech Nation»، وهي تأشيرة مخصصة لجذب المواهب في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، برسوم رمزية وإجراءات مبسطة، في خطوة تعكس إدراكها لأهمية الابتكار في رسم ملامح اقتصاد المستقبل.
هذه السياسات لا تأتي من فراغ، بل من قناعة راسخة بأن الابتكار لا يُشترى، بل يُحتضن، وأن الثروة الحقيقية في القرن الحادي والعشرين تكمن في العقول المبدعة،  وليس في الحسابات البنكية. في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة، التي كانت يومًا ما الحاضنة الأولى للمواهب العالمية، تتجه اليوم نحو الانغلاق، واضعةً الحواجز أمام الكفاءات، ورافضةً استقبال العقول التي كانت تُسهم في نهضتها. الرسوم المرتفعة، الإجراءات المعقدة، والتصريحات السياسية التي توحي بعدم الترحيب، كلها ترسل رسالة واضحة للعالم: «لم نعد بحاجة إليكم».
السيناريوهات المستقبلية المحتملة
إذا استمر هذا النهج، فإن السيناريوهات المحتملة ليست مجرد تخمينات، بل تحولات واقعية بدأت ملامحها بالظهور. أول هذه السيناريوهات هو تراجع عدد طلبات تأشيرة H1-B بشكلٍ حاد، ما يؤدي إلى نقص في الكفاءات داخل الشركات الأميركية، خاصةً في القطاعات التي تعتمد على تخصصات دقيقة ونادرة. ثانيًا، قد نشهد هجرة عكسية، حيث يعود المهندسون والعلماء إلى بلدانهم الأصلية، ويُسهمون في بناء منظومات ابتكار محلية، تُنافس أميركا في مجالات كانت تحتكرها لعقود.
ثالثًا، قد ينجح نموذج البطاقة الذهبية في جذب المستثمرين الأثرياء، لكنه سيُقصي المواهب غير القادرة على الدفع، ويُحوّل الهجرة إلى امتياز طبقي، لا علاقة له بالكفاءة أو الطموح. رابعًا، قد تُضطر الإدارة الأميركية، تحت ضغط الشركات الكبرى أو في حال تغير الإدارة السياسية، إلى تعديل القرار أو التراجع عنه جزئيًا، خاصةً إذا ظهرت مؤشرات على تراجع النمو أو فقدان الريادة في قطاعات حيوية.
أميركا بين المجد والانحدار
قرار ترامب بفرض رسوم على تأشيرة H1-B ليس مجرد إجراء إداري؛ إنه إعلان عن تحول جذري في فلسفة الهجرة الأميركية. من نموذج قائم على الجذب والانفتاح، إلى نموذج يقوم على الانغلاق والانتقاء المالي. قد يرى البعض في القرار خطوة نحو حماية العمال الأميركيين، لكن كثيرين يرونه تفكيكًا ممنهجًا للنموذج الذي جعل أميركا قوة الابتكار الأولى عالميًا.

 

البحث
الأرشيف التاريخي