معركة الهيمنة على الطاقة في أوروبا
الغاز الأميركي في مواجهة الروسي.. أداة استراتيجية لرسم خرائط النفوذ
/ في زمن تتداخل فيه المصالح الاقتصادية بالتحالفات السياسية، لم تعد الطاقة مجرد سلعة تُباع وتُشترى، بل أصبحت أداة استراتيجية تُستخدم لإعادة رسم خرائط النفوذ. إعلان وزير الطاقة الأميركي، كريس رايت، في سبتمبر 2025، عن خطة واشنطن لخفض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى الصفر واستبدالها بصادرات أميركية، لم يكن مجرد تصريح تقني، بل كان إعلاناً صريحاً عن دخول الولايات المتحدة في معركة طاقة مفتوحة مع روسيا، هدفها النهائي: السيطرة على شرايين أوروبا الحيوية.
هذه الخطوة تأتي في سياق تصاعد التوترات بين الغرب وروسيا، وتكشف عن تحول الطاقة إلى ساحة صراع جديدة، حيث لا تُستخدم الأنابيب لنقل الغاز فقط، بل لنقل النفوذ أيضاً. فهل تنجح واشنطن في انتزاع أوروبا من قبضة الغاز الروسي؟ وما هي التداعيات الاقتصادية والسياسية لهذه الخطوة؟ وهل نحن أمام إعادة تشكيل كاملة لخريطة الطاقة العالمية؟
الغاز الروسي.. شريان أوروبا
لطالما اعتمدت أوروبا على الغاز الروسي كمصدر رئيسي للطاقة، إذ شكّل نحو 50% من وارداتها في السنوات الأخيرة. هذا الاعتماد لم يكن مجرد خيار اقتصادي، بل كان نتيجة لعقود من البنية التحتية المشتركة، والعقود طويلة الأمد، والتداخل الجغرافي الذي يجعل الغاز الروسي الأرخص والأقرب.
لكن هذا الاعتماد كان دائماً سيفاً ذا حدين. فكلما زادت حاجة أوروبا إلى الغاز الروسي، زادت قدرة موسكو على استخدامه كورقة ضغط سياسية، كما حدث في أزمات أوكرانيا وجورجيا. لذلك، فإن أي محاولة لفك هذا الارتباط تُعد خطوة استراتيجية كبرى، لكنها أيضاً محفوفة بالمخاطر الاقتصادية واللوجستية.
واشنطن تدخل على الخط.. من الحليف إلى المورد
الولايات المتحدة، التي كانت حتى سنوات قليلة مضت مستوردة للطاقة، أصبحت اليوم واحدة من أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم، بفضل ثورة الغاز الصخري. هذا التحول منحها قدرة غير مسبوقة على التأثير في أسواق الطاقة العالمية، وفتح أمامها باباً جديداً للهيمنة.
تصريحات كريس رايت لم تكن مجرد إعلان نوايا، بل كانت جزءاً من حملة دبلوماسية نشطة، شملت جولات في أوروبا، واتفاقيات أولية مع دول عدة، وتعهدات بزيادة الإنتاج والتصدير. الهدف واضح: ملء الفراغ الذي سيتركه الغاز الروسي، وتحويل أوروبا إلى سوق رئيسية للغاز الأميركي.
الغاز الطبيعي.. الحل الأميركي البديل
الفرق الأساسي بين الغاز الروسي والأميركي يكمن في الشكل. فبينما يصل الغاز الروسي عبر أنابيب تمتد من سيبيريا إلى قلب أوروبا، يُنقل الغاز الأميركي في شكل مسال عبر السفن، بعد تبريده إلى درجات منخفضة جداً. هذا الشكل يمنح واشنطن مرونة أكبر في التوزيع، لكنه أيضاً يتطلب بنية تحتية ضخمة في أوروبا لاستقبال وتخزين وتحويل الغاز.
لذلك، فإن نجاح الخطة الأميركية يعتمد على قدرة أوروبا على بناء محطات استقبال جديدة، وتحديث شبكاتها، وتوقيع عقود طويلة الأمد مع الشركات الأميركية. وهذا يتطلب استثمارات ضخمة، وتنسيقاً سياسياً عابراً للحدود، وإرادة جماعية لفك الارتباط مع روسيا.
الهيمنة الأميركية.. من الطاقة إلى السياسة
ما يحدث اليوم ليس مجرد تحول في مصادر الطاقة، بل هو إعادة تشكيل للعلاقات الدولية. فحين تصبح أوروبا معتمدة على الغاز الأميركي، فإن ذلك يمنح واشنطن نفوذاً سياسياً جديداً، يمكن استخدامه في ملفات متعددة، من الدفاع إلى التجارة إلى السياسات البيئية.
هذا النفوذ لا يقتصر على أوروبا، بل يمتد إلى دول أخرى تسعى للحصول على الغاز الأميركي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند. وهكذا، تتحول الولايات المتحدة من مجرد منتج للطاقة إلى مركز عالمي لتوزيع النفوذ، حيث تُستخدم الطاقة كأداة للضغط، والمساومة، والتحالف.
محاولة لعزل روسيا سياسياً واقتصادياً
من وجهة نظر موسكو، فإن الخطوة الأميركية ليست مجرد منافسة تجارية، بل محاولة لعزل روسيا سياسياً واقتصادياً، وحرمانها من أحد أهم مصادر دخلها ونفوذها. المسؤولون الروس يرون في هذه السياسة الأميركية امتداداً لعقيدة «الاحتواء»، التي تهدف إلى تقليص دور روسيا على الساحة الدولية.
الكرملين يعتبر أن الغاز الروسي ليس مجرد سلعة، بل رمز للسيادة الوطنية، وأداة لبناء علاقات متوازنة مع أوروبا. لذلك، فإن الرد الروسي يتجاوز الجانب الاقتصادي، ويشمل تعزيز العلاقات مع الصين، وتوسيع شبكة الأنابيب نحو آسيا، وتقديم أسعار تنافسية في الأسواق العالمية.
أوروبا بين المطرقة والسندان
أوروبا تجد نفسها اليوم في موقف صعب. فمن جهة، ترغب في تقليل اعتمادها على روسيا، خصوصاً بعد الأزمات السياسية المتكررة. ومن جهة أخرى، لا تريد أن تستبدل تبعية بتبعية أخرى، خصوصاً إذا كانت هذه التبعية لواشنطن التي لا تتردد في استخدام نفوذها لتحقيق مصالحها الخاصة.
لذلك، فإن بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، تحاول تنويع مصادر الطاقة، عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتوقيع عقود مع دول مثل الجزائر والنرويج وقطر. لكن هذه البدائل لا تكفي وحدها، وتبقى الولايات المتحدة الخيار الأكثر قدرة على سد الفجوة بسرعة.
التداعيات الاقتصادية
تحول أوروبا نحو الغاز الأميركي سيؤثر على أسعار الطاقة، خصوصاً أن الغاز المسال أغلى من الغاز المنقول عبر الأنابيب. هذا قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وزيادة أسعار الكهرباء، وتأثيرات على الصناعات الثقيلة. كما أن بناء البنية التحتية اللازمة لاستقبال الغاز الأميركي يتطلب استثمارات ضخمة، قد تُثقل كاهل الحكومات، وتؤثر على أولويات الإنفاق العام. وفي المقابل، فإن الشركات الأميركية ستستفيد من عقود طويلة الأمد، وأرباح ضخمة، ونفوذ متزايد في الأسواق الأوروبية.
الغاز الأميركي أكثر تلويثاً للبيئة
رغم أن الغاز يُعتبر أقل تلويثاً من الفحم والنفط، فإن إنتاج الغاز الصخري في الولايات المتحدة يثير جدلاً بيئياً واسعاً، بسبب استخدام تقنيات التكسير الهيدروليكي التي تؤثر على المياه الجوفية وتُسبب انبعاثات ميثان. لذلك، فإن استبدال الغاز الروسي بالغاز الأميركي لا يعني بالضرورة تحسين الأداء البيئي لأوروبا، بل قد يؤدي إلى تفاقم بعض المشاكل، خصوصاً إذا لم تُرافقه سياسات صارمة للرقابة والتعويض البيئي.
كيف تُروّج واشنطن لسرديتها؟
الخطاب الأميركي الرسمي يُركز على فكرة «الطاقة من أصدقاء موثوقين»، ويُصور الغاز الروسي كأداة بيد «الخصوم». هذا الخطاب يُستخدم لتبرير التحول، وتقديمه كخطوة نحو «أمن الطاقة»، وليس كجزء من استراتيجية هيمنة.
لكن هذا الخطاب يُخفي الكثير من الحقائق، مثل المصالح الاقتصادية للشركات الأميركية، والضغوط السياسية على الحكومات الأوروبية، والتأثيرات البيئية المحتملة. وهنا يأتي دور الإعلام في كشف هذه الجوانب، وتقديم صورة أكثر توازناً للمشهد.
صراع عالمي على النفوذ
ما يحدث اليوم في سوق الغاز ليس مجرد تحول تجاري، بل هو انعكاس لصراع عالمي على النفوذ. الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة تشكيل خريطة الطاقة، وتحويل أوروبا إلى سوق تابعة، بينما تحاول روسيا الحفاظ على مكانتها، وأوروبا تبحث عن استقلالية مفقودة.
في هذا المشهد المعقد، تتحول الطاقة إلى مرآة تعكس موازين القوى، وتُظهر كيف يمكن للأنابيب والسفن والعقود أن تُستخدم كأدوات للهيمنة. لكن السؤال الأهم يبقى: هل تستطيع أوروبا أن تحافظ على استقلال قرارها، أم أنها ستجد نفسها بين مطرقة واشنطن وسندان موسكو؟ السنوات المقبلة ستكشف الإجابة، لكن المؤكد أن معركة الغاز لن تكون مجرد معركة أسعار، بل معركة سرديات، وتحالفات، ومصالح، في عالم لا يعرف إلا لغة القوة.
