تحالف الشرق في مواجهة الهيمنة الأميركية
هل تنجح شنغهاي في كسر احتكار القرار الدولي ؟
/ في عالم يتسم بالتقلبات الجيوسياسية والتحديات الاقتصادية المتصاعدة، لم يعد النظام العالمي أحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة قادراً على تلبية تطلعات الشعوب والدول الباحثة عن العدالة والتوازن. فبعد عقود من الهيمنة الأميركية، التي اتسمت بالتدخلات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، وفرض نماذج سياسية واقتصادية بعينها، بدأت دول الشرق، بقيادة الصين وروسيا، في إعادة رسم خريطة النفوذ العالمي.
منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأسست في مطلع القرن الحادي والعشرين، لم تكن في بدايتها سوى تجمع أمني إقليمي. لكنها اليوم، وبعد أكثر من عقدين، تحولت إلى منصة استراتيجية متعددة الأبعاد، تسعى إلى كسر احتكار القرار الدولي، وتقديم نموذج بديل للتعاون قائم على التعددية، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة.
قمة تيانجين الأخيرة، التي جمعت أكثر من عشرين زعيماً عالمياً، كانت بمثابة إعلان صريح عن هذا التحول. فالمواقف التي صدرت عن القادة، والمشاريع التي طُرحت، والتحالفات التي تعززت، كلها تشير إلى أن منظمة شنغهاي لم تعد مجرد تجمع إقليمي، بل أصبحت قوة صاعدة في مواجهة الأحادية الأميركية.
النشأة والتحول.. من الأمن إلى الاقتصاد
تأسست منظمة شنغهاي للتعاون عام 2001، بمشاركة الصين، روسيا، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان. وكان الهدف الأساسي آنذاك هو تعزيز التعاون الأمني في مواجهة الإرهاب والتطرف، خاصة في منطقة آسيا الوسطى.
لكن مع مرور الوقت، بدأت المنظمة تتوسع في أهدافها، لتشمل التعاون الاقتصادي، والتنموي، والتكنولوجي، والثقافي. انضمت الهند وباكستان لاحقاً، ما عزز من وزن المنظمة الجيوسياسي، وجعلها تضم دولاً تمثل أكثر من نصف سكان الأرض. الصين، القوة الاقتصادية الصاعدة، دفعت باتجاه تحويل المنظمة إلى كيان اقتصادي ضخم، يسعى إلى إنشاء بنك تنمية خاص بها، وتمويل مشاريع البنية التحتية، واستخراج المعادن الأساسية، وتعزيز التكامل التجاري بين الدول الأعضاء. روسيا، من جهتها، ترى في المنظمة وسيلة للحفاظ على نفوذها في جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية السابقة، وتعزيز التعاون العسكري الإقليمي، خاصة في ظل العقوبات الغربية المتزايدة عليها منذ غزو أوكرانيا.
قمة تيانجين..إعلان التحدي
في قمة تيانجين، التي عقدت في الصين، لم يكن الحضور الدولي مجرد بروتوكول، بل كان تعبيراً عن توافق سياسي واقتصادي ضد السياسات الأميركية التي تتسم بالتقلب والهيمنة.
مشاركة قادة من كوريا الشمالية، الهند، تركيا، ودول آسيا الوسطى، إلى جانب ايران وروسيا والصين، تعكس رغبة واضحة في بناء جبهة موحدة ضد السياسات الأميركية التي لطالما فرضت رؤيتها على العالم دون شراكة حقيقية.
الولايات المتحدة، التي ينظر إليها اليوم كشريك تجاري غير موثوق بسبب حواجزها الجمركية وتقلباتها السياسية، تواجه تحديًا حقيقيًا من قبل دول المنظمة التي تسعى إلى بناء نظام اقتصادي أكثر استقرارًا، قائم على التعددية والتعاون الإقليمي.
الهند، رغم علاقاتها التاريخية مع واشنطن، بدأت تبحث عن توازن جديد، يضمن لها مصالح استراتيجية مع الصين وروسيا، دون الارتهان للقرارات الأميركية الأحادية.
بنك شنغهاي للتنمية.. بديل للمؤسسات الغربية
من أبرز مخرجات القمة الأخيرة، إعلان الصين عن نيتها إنشاء بنك تنمية تابع للمنظمة، يهدف إلى تمويل مشاريع البنية التحتية، واستخراج المعادن الأساسية، وتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء.
هذا البنك، الذي يُنظر إليه كبديل محتمل للبنك الدولي، يعكس رغبة الصين في قيادة النظام المالي العالمي من بوابة آسيا، بعيدًا عن الهيمنة الغربية التي لطالما فرضت شروطًا سياسية واقتصادية على الدول النامية. كما أن ترتيبات التمويل الجديدة، التي تشمل دولًا مثل باكستان وكازاخستان، تعزز من قدرة المنظمة على دعم الدول التي تواجه تحديات اقتصادية، وتمنحها متنفسًا استراتيجيًا بعيدًا عن الضغوط الغربية.
الأحادية الأميركية تحت المجهر
منذ نهاية الحرب الباردة، تصرفت الولايات المتحدة كقوة أحادية، تفرض رؤيتها على العالم، سواء عبر التدخلات العسكرية، أو عبر المؤسسات المالية الدولية، أو عبر تحالفاتها السياسية والاقتصادية.
لكن هذا النموذج بدأ يتآكل، خاصة بعد الأزمات المتتالية التي واجهتها واشنطن، من حرب العراق، إلى الأزمة المالية العالمية، وصولًا إلى الانسحاب من أفغانستان، والتقلبات في سياستها تجاه الصين وروسيا.
منظمة شنغهاي، في هذا السياق، لا تطرح نفسها كبديل مباشر، بل كتحالف متعدد الأطراف، يسعى إلى بناء نظام عالمي أكثر توازنًا، يرفض الهيمنة، ويعتمد على التعاون والشراكة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينغ، أكدا خلال القمة أن المنظمة تقف «على الجانب الصحيح من التاريخ»، وأنها تسعى إلى «نظام عالمي عادل متعدد الأقطاب»، في مواجهة «الهيمنة الأميركية التي تتعامل بها مع دول العالم الأخرى».
التعددية.. بديل استراتيجي
التحول نحو التعددية، والانحياز إلى التعاون متعدد الأطراف، ليس مجرد خيار سياسي، بل أصبح ضرورة استراتيجية للدول التي تسعى إلى الحفاظ على استقلالها، وتعزيز مصالحها الوطنية.
الهند، التي لطالما كانت حليفة للولايات المتحدة، بدأت تبحث عن توازن جديد، يضمن لها علاقات مستقرة مع الصين وروسيا، دون أن تكون رهينة للتقلبات الأميركية.
إندونيسيا، كذلك، تسعى إلى تعزيز تنوعها الاقتصادي، وتوسيع علاقاتها التجارية مع دول آسيا، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على واشنطن.
هذا التحول، وفق مراقبين، يسرّع من تراجع الأحادية الأميركية على المدى الطويل، ويضع واشنطن أمام خيارين: إما أن تتصرف كشريك موثوق، أو أن تواجه عزلة متزايدة في النظام العالمي الجديد.
قيادة جديدة للنظام العالمي
الصين، التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تسعى إلى لعب دور قيادي في إعادة تشكيل النظام العالمي. ومن خلال منظمة شنغهاي، تطرح نموذجًا للتعاون قائمًا على التنمية المشتركة، واحترام السيادة، والتكامل الإقليمي.
روسيا، رغم التحديات الاقتصادية والعقوبات الغربية، ترى في المنظمة منصة لتعزيز نفوذها، وتأكيد دورها كقوة عالمية لا يمكن تجاهلها.
التقارب بين الصين وروسيا، الذي تجلى في القمة، يعكس رغبة مشتركة في بناء نظام عالمي جديد، لا يخضع لإملاءات الغرب، بل يقوم على التوازن، والتعددية، والمصالح المشتركة.
شرقٌ يصعد وغربٌ يعيد الحسابات
منظمة شنغهاي للتعاون، لم تعد مجرد تجمع إقليمي، بل أصبحت منصة عالمية تعكس تحولات عميقة في ميزان القوى. في ظل تراجع الثقة بالولايات المتحدة، وصعود الصين وروسيا كقوتين عالميتين، تبدو المنظمة وكأنها تعيد رسم خريطة النفوذ الدولي.
الرسالة التي خرجت من قمة تيانجين واضحة: لم يعد العالم يقبل بالهيمنة الأحادية، ولم تعد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها دون مقاومة. فالدول الأعضاء في منظمة شنغهاي، التي تمثل نصف سكان الأرض، تسعى إلى بناء نظام عالمي جديد، قائم على العدالة، والتعددية، والشراكة الحقيقية.
وفي هذا السياق، تصبح المنظمة أكثر من مجرد تحالف سياسي أو اقتصادي، بل تصبح تعبيرًا عن طموح عالمي في التحرر من الهيمنة، وبناء مستقبل أكثر توازنًا واستقرارًا.
