الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • ثقاقه
  • دولیات
  • رياضة وسياحة
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون - ٠٩ أغسطس ٢٠٢٥
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون - ٠٩ أغسطس ٢٠٢٥ - الصفحة ٥

بعد تخلي امريكا عن دورها كمصدر رئيسي للمعرفة العالمية

أوروبا تُعلن استقلالها العلمي وتفتح أبوابها للعلماء

/ في عالم تتسارع فيه التحديات البيئية والصحية، وتزداد الحاجة إلى بيانات دقيقة ونماذج علمية موثوقة، لم يكن أحد يتوقع أن تتراجع الولايات المتحدة الامريكية، القوة العلمية الأولى لعقود، عن دورها كمصدر رئيسي للمعرفة العالمية. إدارة دونالد ترامب قلبت المعادلة، حين قررت تقليص التمويل المخصص لمؤسسات علمية محورية، مثل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، والمعاهد الوطنية للصحة، ووكالة حماية البيئة. هذا القرار لم يكن مجرد إجراء مالي داخلي، بل أحدث ارتدادات واسعة في أوروبا، التي تعتمد منذ سنوات على البيانات الأميركية في مجالات المناخ والصحة والطقس والظواهر البيئية.
رد الفعل الأوروبي لم يتأخر. بل بدأت الحكومات الأوروبية باتخاذ خطوات متسارعة لكسر اعتمادها الطويل على المصادر الأميركية، في ما يشبه إعلان استقلال علمي جديد، مدفوعاً بالقلق من انسحاب واشنطن من التزاماتها البحثية، وبالرغبة في حماية البنية التحتية المعرفية للقارة من الانهيار. هذه التحركات لا تعكس فقط أزمة تمويل، بل تكشف عن تحوّل استراتيجي في نظرة أوروبا إلى الشراكة العلمية مع الولايات المتحدة، وتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل التعاون الدولي في زمن تتداخل فيه السياسة بالعلم.
الصدمة الأوروبية.. توقّف المعرفة
من واشنطن
لم تكن أوروبا مستعدة لهذا الانقطاع المفاجئ في تدفق البيانات العلمية من الولايات المتحدة. فلطالما اعتمدت مؤسسات الأبحاث الأوروبية على قواعد بيانات NOAA لرصد درجات حرارة المحيطات، وعلى نماذج المعاهد الوطنية للصحة لتتبع الأمراض، وعلى تقارير وكالة حماية البيئة لتقييم جودة الهواء والماء. هذه المؤسسات الأميركية شكّلت لعقود حجر الأساس في البنية العلمية العالمية، وكانت بمثابة مرجعية لا غنى عنها للباحثين الأوروبيين.
لكن خفض التمويل الأميركي أدى إلى تفكيك برامج حيوية، وإيقاف تحديثات يومية كانت تُستخدم في التنبؤ بالكوارث الطبيعية، وتخطيط البنية التحتية، ومراقبة التغير المناخي. وزيرة الدولة السويدية للتعليم والبحث، ماريا نيلسون، عبّرت عن الصدمة، قائلة إن الوضع «أسوأ بكثير مما كنا نتوقعه»، مضيفةً أن ردّ فعلها كان «الذهول التام». هذا التصريح يعكس حجم المفاجأة التي تلقاها الأوروبيون، الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام فراغ معرفي يصعب تعويضه بسرعة.
 انقسام عميق بين واشنطن وبروكسل 
في مواجهة الانتقادات، دافع البيت الأبيض عن قراراته، مؤكداً أن التخفيضات تستهدف ما وصفه بـ«العلم الزائف» و«الاحتيال الأخضر الجديد»، في إشارة إلى أبحاث التغير المناخي التي لطالما شكّك فيها ترامب وفريقه. المتحدثة باسم مكتب الإدارة والميزانية، راشيل كولي، قالت إن الولايات المتحدة «عادت لتمويل العلوم الحقيقية»، في تصريح يعكس الانقسام العميق بين واشنطن وبروكسل حول تعريف العلم ذاته.
هذا الخطاب لم يكن موجهاً فقط إلى الداخل الأميركي، بل حمل رسالة إلى العالم مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بدعم الأبحاث التي لا تتماشى مع رؤيتها السياسية. هذا التحوّل أثار قلقاً واسعاً في أوروبا، التي ترى في العلم أداة حيادية لفهم العالم، وليس ساحة لتصفية الحسابات الأيديولوجية.
مبادرات أوروبية لتعويض الانسحاب الأميركي
في مواجهة هذا الفراغ المعرفي، لم تكتف أوروبا بالتعبير عن القلق، بل بدأت فعلياً في بناء بدائل علمية مستقلة. أكثر من 12 دولة أوروبية أعلنت عن خطط لتعزيز أنظمة جمع البيانات الخاصة بها، في مجالات المناخ والصحة والطقس، بهدف تقليل الاعتماد على المصادر الأميركية. هذه المبادرات تشمل تطوير شبكات رصد بحرية جديدة، وتوسيع برامج الأقمار الصناعية الأوروبية، وزيادة الاستثمار في النماذج المناخية المحلية.
الاتحاد الأوروبي، من جهته، أطلق مراجعة شاملة للبنية التحتية العلمية، وبدأ في تمويل مشاريع تهدف إلى أرشفة البيانات الأميركية المهددة بالإغلاق، في ما يُعرف بـ«أرشفة حرب العصابات»، حيث يقوم العلماء الأوروبيون بتحميل نسخ احتياطية من قواعد البيانات الأميركية قبل أن تُفقد إلى الأبد. هذه الخطوة تعكس إدراكاً عميقاً بأن فقدان البيانات لا يعني فقط خسارة معلومات، بل انهيار منظومات كاملة من التنبؤ والتحليل والتخطيط.
استقطاب العقول الأميركية.. أوروبا تفتح أبوابها
من بين أكثر التحركات الأوروبية جرأة، كان الإعلان عن برامج لاستقطاب العلماء الأميركيين الذين تأثروا بتخفيضات التمويل أو شعروا بأن بيئة البحث في بلادهم لم تعد آمنة أو مستقرة. جامعات مثل كامبريدج، ومعاهد بحثية في السويد وفرنسا وألمانيا، بدأت في تخصيص تمويلات خاصة، وإنشاء برامج زمالة تمتد من ستة إلى اثني عشر شهراً، لتوفير بيئة مستقرة لهؤلاء الباحثين.
هذا الاستقطاب لا يهدف فقط إلى تعويض النقص في البيانات، بل إلى تعزيز التنوع العلمي، والاستفادة من خبرات الباحثين الأميركيين في مجالات مثل الطب الحيوي، والذكاء الاصطناعي، والتغير المناخي. رئيسة المجلس الأوروبي للبحوث، ماريا ليبتين، أكدت أن أوروبا «ترحب بأي عالم يشعر بأن خياراته المهنية أصبحت مهددة في الولايات المتحدة»، مشيرة ًإلى أن المناخ السياسي في واشنطن يحدّ من استقلالية البحث العلمي.
تحوّل استراتيجي.. من التبعية إلى القيادة العلمية
ما يحدث اليوم في أوروبا ليس مجرد رد فعل على أزمة تمويل، بل هو تحوّل استراتيجي في موقع القارة من الشراكة إلى القيادة. فبعد عقود من الاعتماد على البيانات الأميركية، بدأت أوروبا في بناء منظوماتها الخاصة، وتشكيل تحالفات علمية جديدة، وتوسيع برامجها البحثية لتشمل مجالات كانت حكراً على المؤسسات الأميركية. هذا التحوّل قد يُعيد رسم خريطة البحث العلمي العالمي، ويمنح أوروبا دوراً قيادياً في مواجهة التحديات البيئية والصحية التي تهدد الكوكب. كما أنه يفتح الباب أمام نموذج جديد من التعاون الدولي، يقوم على التعددية، والانفتاح، والاستقلالية، بعيداً عن الهيمنة الأحادية التي سادت لعقود.
نحو مستقبل علمي متعدد الأقطاب
التحركات الأوروبية الأخيرة لا تقتصر على رد فعل مؤقت، بل تُمثل بداية لمرحلة جديدة في تاريخ البحث العلمي العالمي. فمع تراجع الدور الأميركي، بدأت أوروبا في بناء نموذج علمي مستقل، يقوم على التعاون بين الدول، والانفتاح على الباحثين من مختلف الخلفيات، والاستثمار في البنية التحتية المعرفية طويلة الأمد. هذا النموذج قد يُعيد التوازن إلى خريطة المعرفة، ويمنح القارة العجوز دورًا قياديًا في مواجهة التحديات الكونية، من التغير المناخي إلى الأوبئة العالمية.
في هذا السياق، تسعى المفوضية الأوروبية إلى مضاعفة استثماراتها في برامج مثل «آرغو»، وهو نظام عالمي للمجسات العائمة التي ترصد أعماق البحار وحرارتها، والذي كانت الولايات المتحدة تموّله بنسبة 57% مقابل 23% فقط من الاتحاد الأوروبي. ومع غموض مستقبل التمويل الأميركي، بدأت أوروبا في توسيع شبكة الرصد البحري الخاصة بها، وتطوير أدوات تحليل جديدة، تحسبًا لأي فراغ قد يطرأ في البيانات.
كما أن ما يُعرف بـ«أرشفة حرب العصابات»، حيث يقوم العلماء الأوروبيون بتحميل نسخ احتياطية من قواعد البيانات الأميركية المهددة بالإغلاق، يعكس إدراكًا عميقًا بأن فقدان البيانات لا يعني فقط خسارة معلومات، بل انهيار منظومات كاملة من التنبؤ والتحليل والتخطيط.
 أوروبا تكتب فصلًا جديدًا في تاريخ العلم
ما بدأ كأزمة تمويل في واشنطن، تحوّل إلى فرصة ذهبية لأوروبا لإعادة تعريف موقعها في عالم البحث العلمي. فبينما تتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها، تتقدم أوروبا بخطى ثابتة نحو بناء منظومة معرفية مستقلة، متعددة الأقطاب، وأكثر انفتاحًا على العالم. هذا التحوّل لا يعكس فقط طموحًا علميًا، بل يعكس أيضًا رؤية سياسية واستراتيجية، ترى في العلم أداة للسيادة، والاستقلال، والقيادة.
في النهاية، قد تكون هذه الأزمة العلمية هي الشرارة التي تُعيد تشكيل النظام المعرفي العالمي، وتمنح أوروبا فرصة لتكون ليس فقط مستهلكًا للبيانات، بل منتجًا لها، وقائدًا في توجيه البحث العلمي نحو مستقبل أكثر عدالة واستدامة.
البحث
الأرشيف التاريخي