حين يتصدّع جدار الدعم الغربي للكيان الصهيوني
الاعتراف بدولة فلسطين.. هل يعكس تحوّلاً في المزاج السياسي العالمي؟
/ في لحظة تاريخية نادرة، تتبدّل ملامح الاصطفاف الغربي التقليدي خلف كيان العدو الصهيوني، ويبدأ جدار الدعم المطلق الذي لطالما حماه من المساءلة الدولية بالتصدّع. إعلان كندا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، بعد فرنسا وبريطانيا، لا يُمثّل مجرد خطوة دبلوماسية، بل يعكس تحوّلاً عميقاً في المزاج السياسي العالمي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل القضية الفلسطينية، وموقع الكيان الغاصب في النظام الدولي، وإمكانية إحياء حل الدولتين وسط حرب إبادة مستمرة في غزة، وتوسع استيطاني غير مسبوق في الضفة الغربية.
وهكذا يشهد الواقع السياسي والإقليمي تغيرًا جوهريًا يُعبّر عن تحوّل في موازين القوى والتوجهات الدولية، إذ تتزايد عزلة الولايات المتحدة على الساحة العالمية نتيجة سياساتها المتفردة، وتظهر مؤشرات متصاعدة للغضب الشعبي في أوروبا تجاه مواقف حكوماتها من قضايا الشرق الأوسط، خصوصًا ما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الصهيوني. في الوقت نفسه، تتراجع قدرة كيان العدو على فرض روايته الأحادية حول الأحداث، وسط تصاعد الأصوات المنتقدة في الإعلام والمجتمع المدني العالمي، مما يشير إلى تغير في النظرة العامة لما يجري.
مبادرة تتحول إلى مسار دولي متسارع
بدأت فرنسا التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة منفردة، لكن سرعان ما تحوّلت هذه المبادرة إلى مسار دولي متسارع، مع إعلان بريطانيا ثم كندا نيتها الانضمام. هذا التتابع الزمني ليس عشوائياً، بل يعكس تنسيقاً دبلوماسياً متعمداً، هدفه الضغط على الكيان الغاصب لوقف عدوانه على غزة، والعودة إلى مسار تفاوضي حقيقي.
فرنسا، التي لطالما تبنّت موقفاً أكثر توازناً في الصراع، قررت أن الوقت قد حان لكسر الجمود، بينما بريطانيا، التي كانت أكثر تحفظاً، أطلقت تهديداً نادراً بأنها ستعترف بدولة فلسطين إذا لم يتخذ كيان العدو الصهيوني خطوات جوهرية لإنهاء الكارثة الإنسانية. ثم جاءت كندا، الدولة التي كانت تُعد من أكثر حلفاء هذا الكيان الغاصب وفاءً، لتُعلن أن الواقع على الأرض لم يعد يسمح بالانتظار، وأن فرص حل الدولتين تتلاشى أمام أعين العالم.
كندا تغيّر المعادلة.. من الحذر إلى المبادرة الجريئة
تصريحات رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، كانت بمثابة زلزال دبلوماسي. فلطالما أكدت أوتاوا أنها لن تعترف بدولة فلسطينية إلا كنتيجة لمفاوضات سلام مباشرة مع الكيان الغاصب. لكن كارني قلب المعادلة، قائلاً إن أزمة الجوع المتفاقمة في غزة، وتآكل فرص السلام، تفرض على بلاده التحرك للحفاظ على إمكانية حل الدولتين.
كارني لم يكتف بالإعلان، بل وضع شروطاً واضحة تتعلق بإصلاحات داخلية في فلسطين، دون أن يربط الاعتراف بأي اتفاق مباشر مع كيان العدو. هذه الشروط تعكس محاولة كندية للجمع بين الاعتراف الرمزي، والضغط على الأطراف المعنية لتقديم نموذج حكم قابل للحياة، دون أن يكون كيان العدو طرفاً مباشراً في هذه المعادلة.
كيان الاحتلال وامريكا.. من الغضب إلى التهديد
كيان العدو الصهيوني لم يتأخر في الرد، ووصف الخطوة الكندية بأنها «مكافأة للإرهابيين»، واتهم الدول الثلاث بأنها تشجع الإرهاب. سفيره لدى واشنطن استخدم لغة غير دبلوماسية، واصفاً القرارات بأنها «رجس من عمل الشيطان». أما وزارة الخارجية الصهيونية، فاعتبرت أن هذه الخطوات تضر بالجهود المبذولة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، وتعرقل اتفاقاً محتملاً للإفراج عن الأسرى الصهاينة.
دونالد ترامب، هاجم كندا عبر منصته «تروث سوشال»، مهدداً بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيجعل من الصعب إبرام صفقة تجارية معها. هذا التهديد يعكس ارتباكاً أميركياً واضحاً، في ظل تزايد عزلة واشنطن، وتراجع قدرتها على ضبط إيقاع الحلفاء الغربيين.
برلين تتردّد.. لكنها تغيّر لهجتها
في ألمانيا، التي تُعد ثاني أكبر ممول ومورد سلاح للكيان الغاصب بعد الولايات المتحدة، كان الموقف أكثر حذراً. وزير الخارجية الألماني أعلن أن الاعتراف بدولة فلسطين لن يأتي إلا كثمرة لعملية تفاوضية، لكنه شدد على ضرورة بدء هذه العملية فوراً، محذراً من خطوات أحادية الجانب من قبل الكيان الغاصب.
هذا التردد يعكس صراعاً داخلياً في برلين، بين التزام النخبة السياسية التاريخي بأمن الكيان، والضغط الشعبي المتزايد لصالح الفلسطينيين. استطلاع رأي نشرته مؤسسة إعلامية مؤيدة للكيان الغاصب، أظهر أن ثلثي الألمان يعتبرون أن الحملة العسكرية الصهيونية في غزة تجاوزت كل الحدود. حتى المستشار فريدريك ميرتز، المعروف بدعمه الحاسم للكيان الصهيوني، تحدث عن إمكانية تعليق اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وكيان العدو.
تحوّل شعبي في أوروبا.. من التعاطف إلى الغضب
التحوّل في المواقف الرسمية لا يمكن فصله عن التحوّل الشعبي في أوروبا. مشاهد الدمار في غزة، وصور الأطفال تحت الأنقاض، دفعت ملايين الأوروبيين إلى إعادة النظر في مواقفهم تجاه كيان العدو. التظاهرات الحاشدة في لندن، باريس، برلين، ومدن أخرى، لم تكن مجرد تعبير عن الغضب، بل كانت إعلاناً عن نهاية مرحلة من الصمت، وبداية مرحلة من المساءلة.
وسائل الإعلام الأوروبية، التي كانت تتجنب انتقاد كيان العدو بشكلٍ مباشر، بدأت تفتح صفحاتها لآراء ناقدة، وتحقيقات ميدانية تكشف حجم الجرائم المرتكبة في غزة. هذا التحوّل الإعلامي ساهم في تشكيل رأي عام ضاغط، أجبر الحكومات على إعادة النظر في سياساتها الخارجية.
السيناريوهات المحتملة
الخبراء يرسمون سيناريوهين رئيسيين لما قد يحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل. السيناريو الأول يفترض صدور قرار بدعم أكثر من 150 دولة، يُرحّب باعتراف متزامن بالدولة الفلسطينية من كندا وبريطانيا وفرنسا، وربما دول أوروبية أخرى. هذا القرار قد يتضمن نصاً يُطالب الفلسطينيين بخارطة إصلاح، وبنزع سلاح الفصائل في غزة تحت رقابة دولية.
هذا السيناريو سيزيد من عزلة الكيان الغاصب، ويُعقّد مسارات تطبيعه الإقليمي، لكنه لن يفرض عقوبات عليه، وسيظل تأثيره معنوياً بالأساس.
السيناريو الثاني يفترض أن تقنع واشنطن حلفاءها بتأجيل الخطوة، مقابل التزام الكيان الغاصب بهدنة طويلة، ووقف مرحلي للاستيطان. لكن تعنّت حكومة نتنياهو قد يدفعها إلى خطوات أحادية، مثل ضم غور الأردن، أو فرض حكم عسكري دائم في غزة، ما سيجعل الاعترافات الغربية بلا قيمة فعلية في ميزان السيطرة على الأرض.
بداية النهاية لاحتكار الرواية الصهيونية
بغضّ النظر عن السيناريو الذي سيتحقق، فإن تلويح كتلة غربية وازنة بالاعتراف بدولة فلسطينية، حتى وإن كانت محدودة السيادة، منزوعة السلاح، خاضعة للهيمنة الصهيونية، يمثل إشارة واضحة إلى بداية تآكل جدار الدعم الغربي التقليدي لهذا الكيان الغاصب. هذا التآكل لا يأتي من فراغ، بل من تجاهله المستمر للكلفة الإنسانية والسياسية لحربه على غزة، ومن تواطؤ أميركي كامل، ومن صعود أصوات شعبية في أوروبا وأميركا الشمالية تُطالب بالعدالة للفلسطينيين، وتدين جرائم الحرب، وتدعو إلى مسائلته.
هل نحن أمام لحظة تاريخية ؟
الاعتراف بدولة فلسطين من قبل دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وكندا، قد لا يُغيّر الواقع على الأرض فوراً، لكنه يغيّر قواعد اللعبة السياسية. إنه إعلان بأن العالم لم يعد يقبل استمرار الاحتلال، ولا يبرر القتل الجماعي، ولا يرضى بتجاهل حقوق شعب بأكمله.
قد تكون هذه اللحظة بداية مسار طويل نحو العدالة، أو مجرد مناورة دبلوماسية لامتصاص الغضب الشعبي. لكن الأكيد أن جدار الصمت بدأ يتصدّع، وأن الرواية الصهيونية لم تعد تحتكر الميكروفون الدولي، وأن فلسطين، رغم الجراح، تعود إلى الواجهة، كقضية أخلاقية وسياسية لا يمكن تجاهلها.
