بين السياسة والأخلاق..
300 صوت لإنهاء الدعم البريطاني لحرب إبادة غزة
/ في خضمّ استمرار النزاع في غزة وتفاقم المعاناة الإنسانية الناجمة عن الصراع، برزت مبادرة غير مسبوقة في الساحة البريطانية، إذ أعلن أكثر من 300 شخصية عامة من مختلف المجالات – من الفن والإعلام إلى الطب والأكاديميا – النداء لإنهاء ما وصفوه بـ«تواطؤ» المملكة المتحدة مع السياسات التي تؤدي إلى استمرار مذبحة غزة. لا تقتصر هذه النداءات على بريطانيا فحسب، بل تلامس القيم والمبادئ الغربية بشكلٍ أوسع، خاصةً داخل أوروبا التي تشهد تحوّلات دراماتيكية في نظرتها للأسلحة والعلاقات الخارجية.
جذور الأزمة وسياقها التاريخي
لعدة عقود، ترتبط المملكة المتحدة بعلاقات استراتيجية مع كيان العدو الصهيوني؛ علاقة تتجسد في بيع الأسلحة ومنح التراخيص العسكرية، مما جعل بعض الأصوات ترى في هذه السياسات دعماً مباشراً للأعمال العسكرية التي تُفرغ غزة من كل موارد الحياة الطبيعية. كان للسياسات البريطانية التاريخية في هذا المجال جذور عميقة تستند إلى مصالح أمنية واقتصادية، ولكن في ظل الأوضاع الراهنة التي أدت إلى جرائم الإبادة الجماعية في غزة ، برزت مطالب متزايدة لإعادة تقييم هذا النهج وتبني سياسات أخلاقية تتماشى مع معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي.
أكثر من 300 صوت ضدّ التواطؤ
خطت مجموعة كبيرة من المعارضين في بريطانيا – التي تشمل أسماء بارزة في عالم الفن والإعلام والأكاديميا –خطوةً فريدة من نوعها، إذ وقعوا رسالة مفتوحة موجهة لرئيس الوزراء البريطاني «كر ستارمر» يطالبون فيها بوقف جميع مبيعات وترخيص الأسلحة التي قد تُستخدم في دعم الأعمال العسكرية في غزة. وقد جاء في هذه الرسالة حث صارم على اتخاذ إجراءات فورية لإنهاء ما وصف بأنه تواطؤ الدولة في جرائم حرب، وتأكيد على ضرورة توفير وصول إنساني عاجل للمنظمات الإغاثية التي تمتلك الخبرة للتصدي لحالة الحرمان الغذائي وسوء التغذية، خاصةً بين الأطفال.
هذا التحرك، الذي جمع بين الأصوات الثقافية والقانونية والإنسانية، يعكس حالة غضب متزايدة وغموضاً أخلاقياً تجتاح أوساط الرأي العام البريطاني، وقد امتد تأثيره إلى باقي الدول الغربية التي بدأت تشعر بأن استمرار مثل هذه السياسات يُمثل تهديداً لقيم العدالة والإنسانية.
وقد شارك في الرسالة المفتوحة إلى ستارمر عدد من الشخصيات البارزة من عالم الإعلام والفنون، إلى جانب أطباء وأكاديميين بارزين، ومجموعات حقوقية، وناج من الهولوكوست، واتهم الموقعون الحكومة البريطانية بمواصلة السماح ببيع الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، ومنح التراخيص اللازمة لذلك، رغم استمرار العدوان في قطاع غزة.
وتقود منظمة اللاجئين الخيرية Choose Love هذه المبادرة، إذ دعت في الرسالة إلى تعليق فوري لجميع مبيعات الأسلحة البريطانية إلى كيان العدو، وإتاحة الوصول الإنساني العاجل للمنظمات الإغاثية ذات الخبرة، كما طالبت الحكومة بالتدخل والعمل على التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار من أجل «أطفال غزة».
وكان ستارمر قد انضم الأسبوع الماضي إلى قادة فرنسا وكندا في تحذير كيان العدو من اتخاذ «إجراءات ملموسة» في حال واصلت «توسيع عملياتها العسكرية بشكلٍ فاضح» في غزة.
وجاء في الرسالة: «نحثكم على اتخاذ إجراءات فورية لإنهاء تواطؤ المملكة المتحدة في الفظائع التي تُرتكب في غزة». وأضافت الرسالة أن الأطفال في غزة يعانون الجوع الشديد، بينما «تقف المواد الغذائية والأدوية على بعد دقائق فقط»، في إشارة إلى الحصار الصهيوني الذي منع دخول الإمدادات لمدة 11 أسبوعاً، وتم رفعه الأسبوع الماضي. ومن بين الموقعين الناجي من الهولوكوست ستيفن كابوس، إذ أشارت الرسالة إلى أن 71 ألف طفل دون سن الرابعة يعانون من «سوء تغذية حاد»، وأنهم «يبكون حتى تفقدهم المجاعة القدرة على البكاء».وجاء في الرسالة أن الأطفال يستفيقون كل يوم على دوي القنابل، في ظل «عنف مختوم بختم الصمت البريطاني، وتحمله قطع غيار تم شحنها من مصانع المملكة المتحدة إلى كيان العدو». وتأتي هذه الرسالة بعد أيام من توقيع 828 خبيراً قانونياً بريطاني الجنسية أو المؤهلين قانونياً في المملكة المتحدة، من بينهم قضاة سابقون في المحكمة العليا، على رسالة موجهة إلى ستارمر، يحذرون فيها من أن «إبادة جماعية تُرتكب في غزة».
أوروبا ضدّ الإبادة الجماعية
لم يبقَ هذا الحراك مقصورًا على أرض المملكة المتحدة، بل تعداه إلى قلب أوروبا إذ بدأ النقاش يتحول من مجرد انتقاد سياسات بيع الأسلحة إلى استجواب أوسع لاستمرارية الدعم الغربي للممارسات العسكرية التي تقوض استقرار المنطقة وتتفجر فيها أزمة حقوق إنسانية لا تُحتمل. فعلى سبيل المثال، أشارت تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين إلى أن السياسات التي كانت تُعتبر سابقًا جزءاً من استراتيجيات الدفاع والتحالفات قد أصبحت الآن محل مراجعة ونقد حاد في ضوء المعاناة المستمرة في غزة. وقد بدأت كل من فرنسا وكندا وبعض أعضاء البرلمان الأوروبي في التعبير عن استياءهم من هذه السياسات، معبرين عن قلقهم من أن استمرارها سيؤدي إلى عواقب دبلوماسية واقتصادية جسيمة يتعرض لها الاتحاد الأوروبي بأكمله. كما تداخلت هذه الإصلاحات والانتقادات مع مراجعات داخلية حول الاتفاقيات التجارية وتصدير الأسلحة، في ظل سعي المجتمعات الأوروبية لإصلاح صورتها أمام العالم وحماية المعايير الأخلاقية والقانونية.
الآثار الأخلاقية والسياسية والاقتصادية
يرتكز الجدل على الصعيد الأخلاقي إلى مفهوم المسؤولية الجماعية؛ فالمشاركة غير المباشرة في تمويل وعتاد الأجهزة العسكرية التي تشن هجمات تؤدي إلى قتل وجرح آلاف المدنيين تضع الدول المصدرة في موقع يُحاكم بعدة ضمائر عالمية. في هذا السياق، سخرت الأصوات التي وقعت الرسالة المفتوحة من تباين السياسات المطبقة في بلدانهم، إذ اعتُبر أن اقتصاديات صناعة الأسلحة ومصالح القطاع العسكري أصبحت تغلب على الضمير السياسي والأخلاقي، ما يؤدي إلى تفريغ غزة من حقوقها القانونية والإنسانية.
دعوة لتغيير السياسات
تجاوزت هذه الرسالة الانتقادٍ النظري، إذ تناولت مطالباً عملية مثل تعليق فوري لترخيص الصادرات العسكرية وإجراء مراجعات شاملة لعقود الأسلحة القائمة مع كيان العدو. ويستند هذا النداء إلى مجموعة من القيود القانونية والضغوط الدولية، التي باتت تُعيد تشكيل السياسات بما يتوافق مع توقعات المجتمع العالمي الرافضة للممارسات التي تُساهم في استمرار النزاعات والحروب.
موجة أخلاقية عالمية
يتوقع المحللون أن يكون لهذا الحراك تأثير طويل المدى على السياسات الخارجية للدول الغربية، خاصةً مع استمرار تزايد الوعي الجماهيري بشأن العدالة الدولية والمسؤولية الأخلاقية في ظل النزاعات المسلحة.
تعتبر هذه الرسالة دلالة على تصاعد موجة أخلاقية عالمية قد تغير جذرياً معادلة العلاقات الدولية. وهي تُعد مثالًا حيًا على القوة التي يُمكن أن تححقها الأصوات المدنية والثقافية عندما تجتمع لمطالب تغيير جذري، مما يُلقي الضوء على النقاط التي يجب أن تشكل أساسًا للسياسات الاستراتيجية المستقبلية، ليس فقط في بريطانيا وإنما على المستوى الدولي ككل.
