نشاط المراجع العظام في قضية فلسطين من الفصول المشرّفة للحوزات العلمية
أنتم أيها الطلاب والفضلاء الشباب قادرون حتمًا، بعون قلوبكم الطاهرة والنقية وألسنتكم الصادقة، على إنجاز مُهمّة التهذيب الأخلاقي لجيل الشباب اليوم، شريطة أن تبدأوا بأنفسكم أولًا؛ فالإخلاص في العمل، وقطع الطريق على وساوس المال والجاه والمنصب، هو المفتاح لدخول الأجواء العذبة للروحانية والحقيقة. وهكذا يغدو العمل الشاق للجهاد الثقافي مُهمّة عذبة وحركة مؤثرة. إنّ الصعاب التي يواجهها طالب العلم في مثل هذه الحال ستتحول إلى وسيلة لإرادة صلبة وعزم راسخ بدلًا من أن تكون عائقًا أمام السلوك الجهادي للتبليغ.
أؤكّد ألّا يُنظر أبدًا إلى ساحة تبليغ الدين بأنها ميدان خالٍ من المنافسة، ولا يجوز الغفلة ولو لحظة عن مواجهة الشبهات والمغالطات التي تُضخّ إلى الساحة باستمرار.
في هذا الشقّ، وإلى جانب تربية الطاقات من أجل البلاغ المبين، لا بدّ من الاهتمام أيضًا بتربية طاقات تتولّى مهمات خاصّة في نظام الحكم وإدارة البلاد، وكذلك تربية طاقات من أجل تنظيم شؤون الحوزة العلمية الداخلية والنهوض بمسؤوليّاتها، وهو ما يستلزم نقاشًا منفصلًا.
الحوزة وقيادة الحركات الإصلاحيّة في القرون الأخيرة
ثالثًا. الخطّ الأمامي لجبهة التصدّي لتهديدات العدو في مختلف المجالات
هذه واحدة من أكثر الجوانب المجهولة للحوزات العلميّة ووظيفة جموع علماء الدين. لا شكّ في أنّه لا يمكن العثور على أيّ حركة إصلاحية أو ثورية في إيران أو العراق في المئة والخمسين سنة الماضية، لم يقدّها علماء الدين، أو لم يحضروا في خطوطها الأماميّة. وفي ذلك دلالة مهمّة على طبيعة الحوزات العلمية.
طوال هذه الفترة، وفي جميع محاولات الاستعمار والاستبداد للهيمنة، كان علماء الدين وحدهم هم من بادروا إلى خوض الميدان، وتمكنوا في حالات كثيرة من إفشال العدو ببركة دعم الناس. لم يكن أحد غيرهم ليجرؤ على التفوّه بكلمة أو يفهم المسألة على وجهها الصحيح؛ ولعلّ الآخرين كانوا يرفعون أصواتهم بعد إطلاق العلماء صرختهم.
ويقرّ «كسروي»، وهو الذي يُعدّ من أشدّ المعاندين لعلماء الدين، أنّ بداية الثورة الدستوريّة كانت بفضل المؤازرة الحكيمة للسيّدين البهبهاني والطباطبائي. نعم، في تلك الأيام التي ارتفعت فيها راية وحش الاستبداد في إيران، لم يكن أحدٌ غير المراجع والعلماء ليجرؤ على النُّطق ولو بكلمة واحدة.
لقد أُبطلت الاتفاقيات المشينة التي أُبرمت طوال هذه المدّة بفضل معارضة العلماء وممانعتهم؛ فأُحبطت اتفاقية «رويتر» بعد تصدّي العالِم الجليل في طهران الحاج ملا علي كني، وأُسقطت معاهدة التنباك بفتوى المرجع الأعلى الميرزا الشيرازي ومؤازرة كبار علماء إيران، وفُضحت اتفاقية «وثوق الدولة» بجهود [آية الله] مدرّس، كما جرى التصدي للمنسوجات الأجنبية بمبادرة من آغانجفي الإصفهاني، ومؤازرة علماء أصفهان، ومساندة علماء النجف... وحالات أخرى.
معارك مسلّحة قادها العلماء ضدّ قوات الاحتلال
في تلك السنوات المتزامنة مع تأسيس الحوزة العلمية في قم، كانت أجزاء من العراق وحدود إيران، بمحوريّة النجف والكوفة، مسرحًا لمعارك مسلّحة قادها العلماء ضدّ قوات الاحتلال البريطاني؛ لم يقتصر الأمر على الطلّاب والمدرّسين، بل إنّ بعض العلماء المعروفين مثل السيّد مصطفى الكاشاني وبعض أبناء المراجع، شاركوا في هذه المواجهات، فاستُشهد بعضهم ونُفي كثير منهم إلى مناطق نائية في المستعمرات البريطانيّة.
إن نشاط المراجع العظام في قضية فلسطين أيضًا - سواء في أوائل القرن (14 ه.ش) عندما كانت تُنفذ سياسة هجرة الصهاينة إلى فلسطين وتسليحهم، أو في العقد الثالث منه، عندما سُلّم جزء كبير من فلسطين رسميًا إلى الصهاينة، وأعلن تأسيس الكيان الصهيوني الزائف - يُعد من الفصول المشرّفة للحوزات العلمية. لقد كانت رسائلهم وبياناتهم في هذا الشأن من أكثر الوثائق التاريخية قيمةً.
إنّ الدور منقطع النظير لحوزة قم، ومن ثمّ سائر الحوزات العلميّة في إيران، في إحداث النهضة الإسلاميّة وإطلاق الثورة وتوجيه الرأي العام وجذب عامّة الناس إلى الميدان، يُعدّ أيضًا من أبرز الدلالات على الهويّة الجهاديّة للحوزات العلميّة. وإنّ خريّجي الحوزة الذين يمكلون عقولاً نشِطة وألسنةً بليغة، كانوا من أوائل الذين لبّوا النداء المُزلزل للأعداء، والذي أطلقه الإمام [الخميني] (رض) المجاهد، وخاضوا الميدان بسرعة وجديّة مع تحمّل الصدمات، وشرعوا في نشر المفاهيم الثوريّة وتوعية الرأي العام.
هواجس الإمام [الخميني] (رض) وآماله في ندائه إلى علماء الحوزات
انطلاقًا من إدراك هذه الحقائق، وفي ندائه الموجّه للحوزات العلميّة،[3] المُفعم بالمضامين والمدوّي، وصف الإمام الراحل (رضوان الله عليه) الحوزويّين برواد الشهادة في جميع الثورات الشعبية والإسلامية؛ وبالمقابل، عدّ طريق الشهداء وعملهم مصداقًا لبلوغ حقيقة التفقه. وفي عبارة أخرى، قدّم العلماء بوصفهم طلائع ميدان الجهاد والدفاع عن الوطن ونصرة المظلومين. وفي ما يخص مستقبل الحوزة، علق أكثر آماله على الطلاب والفضلاء الذين حثّتهم هواجس النهضة والكفاح والثورة على التحرّك، وعبّر عن عتبه على الذين يكتفون بكتبهم ودراستهم، من دون الاهتمام بهذه القضايا المصيريّة. جرت الإشارة مرارًا في هذا النداء إلى المتحجّرين، وجرى أيضَا التحذير من تغلغل العدوّ عبر استغلاله لغفلتهم، مُنبّهًا إلى خطر الأساليب المتطوّرة للتكسب بالدين. وحسب الرأي الصائب للإمام الجليل، يتربّص صيّادو الاستعمار في أرجاء العالم ويكمنون للحوزويين الشجعان الملمّين بالسياسة، ويخطّطون لمحاربة المجد والعظمة والنفوذ الشعبي للحوزويّين.
القلق بشأن التحجر واجتناب الدخول في السياسة
من الواضح في ذلك النص الحكيم الذي كُتب بمشاعر عرفانيّة وعاشقة، تخوّف الإمام الجليل من أن يصيب تيّار التحجّر المتظاهر بالتقدس الحوزةَ العلميّة بوساوس فصل الدين عن السياسة والأنشطة الاجتماعيّة، وأن يقطع الطريق الصحيح أمام التقدّم. هذا الهاجس نابعٌ من الترويج لتيّار خطِر يصوّر تدخّل الحوزة في القضايا الرئيسة للناس وانخراطها في الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة ومكافحتها الظلم والفساد أمرًا يتنافى مع قدسيّة الدين وساحته المعنويّة، ويوصي الحوزويّين بالحياد المطلق والابتعاد عن أخطار الخوض في السياسة.
إنّ الترويج لهذا الوهم الباطل يمثّل أعظم هديّة تُقدَّم لقوى الاستعمار والاستكبار، التي لطالما تضرّرت من حضور علماء الدين وخوضهم معركة الكفاح ضدّها، وتكبدت الهزائم في حالات متعدّدة، ويُعدّ هديّة كبرى إلى أتباع النظام الفاسد والفاسق والعميل الذي اجتُثّ على يد الشعب الإيراني بقيادة مرجع تقليد.
إنّ قداسة الدين أكثر ما تتجلى في ميادين الجهاد الفكري والسياسي والعسكري، وتترسخ بتضحية حاملي معارف الدين وجهادهم وبذل دمائهم الطاهرة. ينبغي مشاهدة قدسيّة الدين في سيرة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ كان أول عمل أقدم عليه عند دخوله يثرب هو تأسيس الحكومة، وتنظيم القوة العسكرية، وتوحيد ساحة السياسة والعبادة في المسجد.
ينبغي للحوزة العلمية، وحفاظًا على اعتبارها المعنوي ووفاءً لفلسفة وجودها، ألّا تنفصل أبدًا عن الناس والمجتمع وقضاياه الأساسية، وأن تعدّ الجهاد بكل أنواعه واجبًا قطعيًا عليها عند الحاجة.
هذا هو القول المهم الذي كرره الإمام الجليل مرارًا على مسامع الحوزة وروادها وأجلّائها، وبنحو خاص طلابها وفضلائها الشباب، وشدّد عليه.
رابعًا. المشاركة في إنتاج النظم الاجتماعيّة وتبيينها
تُدار الدول والمجتمعات البشرية في جميع شؤونها الاجتماعية عبر نظم محددة؛ فشكل الحكومة، وأسلوب الحكم (الاستبداد، التشاور و...)، والنظام القضائي والتحكيم في النزاعات والمخالفات والقضايا الحقوقية أو الجزائية، والنظام الاقتصادي والمالي ومسائل العملة وغيرها، والنظام الإداري، ونظام إدارة الأعمال، ونظام الأسرة، وغيرها وغيرها، كلها تُعد من الشؤون الاجتماعية للدولة، والتي تُدار في مجتمعات العالم بأساليب مختلفة وفي إطار نظم متنوّعة.
لا شك في أن كل نظام من هذه النظم يستند إلى قاعدة فكرية، سواء كانت نابعة من عقول المفكرين وأصحاب الرأي، أو وليدة العادات والتقاليد المحلية والموروثة.
وفي الحكومة الإسلامية، ينبغي بطبيعة الحال أن يكون هذا الأساس وهذه القاعدة مستمدين من الإسلام ونصوصه المعتبرة، وأن تُستخرج منها نظم إدارة المجتمع.
على الرغم من أن الفقه الشيعي لم يتناول هذا الأمر بنحو كافٍ إلّا في بعض الحالات - كباب القضاء - إلّا أنه ببركة القواعد الفقهية المستفيضة المستفادة من الكتاب والسنة، وكذلك بالاستعانة بالعناوين الثانوية، يمتلك الكفاية اللازمة لصياغة نظم متنوّعة لإدارة المجتمع.
أساس الحكومة ومنشؤها
في ما يتعلق بأساس الحكومة ومنشئها، كان العمل البارز للإمام الراحل في مباحث «ولاية الفقيه» في أثناء نفيه إلى النجف، بدايةً مباركة فتحت طريق البحث أمام فضلاء الحوزة، وقد تكاملت أبعادها المختلفة نظريًّا وعمليًا بعد قيام الجمهورية الإسلامية؛ لكن هذا العمل لا يزال غير مكتمل وغير منظم في العديد من النظم الاجتماعية للبلاد. الحوزة هي مَن عليه ملء هذا الفراغ؛ وهذا يندرج في عداد المسؤوليّات الحتميّة للحوزة العلميّة. اليوم، وبعد حاكمية النظام الإسلامي وإرسائه، غدت مسؤولية الفقيه والفقاهة ثقيلة. لا يمكن اليوم عدّ الفقاهة الإستغراق في الأحكام الفردية العبادية، كما يفعل الجهلة وفق تعبير الإمام الراحل؛ فالفقه الذي يصنع الأمة ليس محصورًا في حدود الأحكام العبادية والواجبات الفردية وأبعادها.
الحاجة إلى الاستفادة من مكتشفات العالم المعاصر
إن الحوزة تحتاج في عملية صياغة النظم الاجتماعية وتنظيمها، إلى أن تكون على دراية كافية بمكتشفات العالم المعاصر بشأن هذه النظم. هذه الدراية ستمكّن الفقيه عبر إدراك صوابية هذه المكتشفات أو خطئها، من الاستحضار الذهني اللازم لتوظيف تصريحات الكتاب والسنة وإشاراتها في صياغة هيئة النظم الاجتماعية لإدارة شاملة وكاملة للمجتمع على أساس الفكر الإسلامي.
وإلى جانب الحوزة، تملك جامعات البلاد أيضًا القدرة والمسؤولية في هذا المجال؛ ويمكن أن يكون هذا أحد مجالات التعاون بين الحوزة والجامعة. المهمة الكبرى للجامعة هي أن تنهض بمسؤولية تمييز الآراء الصحيحة والخاطئة في المعارف الرائجة عالميًا في مجال العلوم الإنسانية المرتبطة بالأنظمة الحكوميّة والشعبيّة، وذلك عبر الاستعانة بنظرة بحثية ناقدة، وأن تعمل بالتعاون مع الحوزة العلمية على تقديم مضمون الفكر الديني ضمن قوالب مناسبة.
خامسًا. الإبداعات الحضارية ضمن إطار الرسالة العالمية للإسلام
هذا هو أبرز ما يُنتظر من الحوزة العلمية، وقد يُعدّ ذلك نسجًا من الآمال والأماني. ففي تلك الليلة التاريخية عقب الهجوم على [المدرسة] الفيضيّة عام 1342 هـ. ش. (1963 م)، حينما كان الإمام الراحل يخاطب جمعًا محدودًا من الطلبة المذعورين، في منزله بعد صلاة العشاء، ربما بدا لبعضنا أن تعبيره السامي: «هؤلاء سيرحلون وأنتم ستبقون» لم يكن سوى نسجًا من الآمال والأماني، لكنّ مرور الزمن أثبت أن الإيمان والصبر والتوكّل يقتلع جبالًا من الموانع، وأنّ مكر الأعداء عاجز أمام السنن الإلهية.
إنّ «إرساء الحضارة الإسلاميّة» أسمى هدف دنيويّ للثورة الإسلاميّة، أي الحضارة التي يُسخّر فيها العلم والتقانة والموارد البشريّة والطبيعيّة وكلّ القدرات وأنواع التقدّم البشريّ والحكومة والسياسة والقوة العسكريّة وكل ما هو في متناول البشر، لخدمة العدالة الاجتماعيّة والرفاه العام وتقليص الفوارق الطبقية وتعزيز التربية الروحية والارتقاء العلمي والمعرفة المتزايدة بالطبيعة وترسيخ الإيمان.
الحضارة الإسلامية قائمةٌ على التوحيد
الحضارة الإسلامية قائمةٌ على التوحيد وأبعاده الاجتماعية والفردية والروحانية، وعلى تكريم الإنسان من حيث إنسانيته - لا من حيث الجنس واللون واللغة والقومية والجغرافيا -، وتستند إلى العدالة وأبعادها ومصاديقها، وكذلك إلى حرية الإنسان في مختلف المجالات، كما إلى الجهاد العام في جميع الميادين التي تستدعي حضورًا جهاديًا.
تقع الحضارة الإسلامية على النقيض تمامًا من الحضارة المادية الراهنة؛ فالحضارة المادية بدأت منذ نشأتها بالاستعمار والاستيلاء على الأراضي وإذلال الشعوب الضعيفة، وبارتكاب المجازر الجماعية للسكان الأصليين، وباستغلال العلم لقمع الآخرين، وبالظلم والكذب وإحداث فجوات طبقية، وبالغطرسة، وتدريجيًا تسرّب إليها الفساد والانحراف عن الأسس الأخلاقية والصيانة الجنسية، اللذين ترعرعا فيها.
وها نحن نرى اليوم الأمثلة الواضحة والكاملة لهذا البناء الأعوج من أساسه في الدول الغربية وبين مَن سار على خطاها: قمم الثروة بجانب وديان الفقر والجوع، غطرسة المتيّمين بالسلطة على كل من يمكن قهره، توظيف العلم للقتل الجماعي، جر الفساد الجنسي إلى داخل الأسر وحتى الأطفال والصغار، ظلم وقسوة لا مثيل لهما في نماذج من قبيل غزّة وفلسطين، التهديد بالحرب من أجل التدخل في شؤون الآخرين، الذي يبرز في نماذج من قبيل سلوكيات رجال الدولة الأمريكيّين في الحقبات الأخيرة.
الحضارة الباطلة زائلة وستُزول
من البديهي أن هذه الحضارة الباطلة زائلة وستُزال؛ هذه سنة الخلق المحتومة: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء، 81)؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} (الرعد، 17). إنّ مسؤوليّتنا اليوم هي أولاً المساعدة في إبطال هذا الباطل، وثانيًا الإعداد للحضارة البديلة على المستويين النظري والعملي بقدر الاستطاعة؛ أما القول: «لم يستطع الآخرون، لذا لن نستطيع نحن أيضًا»، فهو مغالطة، فالآخرون حيثما تحركوا بإيمان واستقامة ووفقًا للحسابات، استطاعوا وانتصروا. والمثال الواضح والجلي أمام أعيننا: الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.
يتخلّل هذا الكفاح أضرار وضربات وتجرّع آلام وأنواع الحرمان ينبغي تحمّلها؛ وعندئذٍ يكون النصر حتميًا. إن الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج ليلًا وخفيةً من مكّة ومن بين حلقة عبدة الأصنام، واختبأ في الغار، لكن بعد ثمانية أعوام وطأ بقدمه [أرض] مكّة بعظمة واقتدار، وطهّر الكعبة من الأوثان ومكّة من عبدة الأصنام. لقد تجرّع عناءً لا يحصى في هذه الأعوام الثمانية، وفقد أصحابًا مثل حمزة، لكنّه انتصر.
وفي دفاعنا المقدس الذي استمر ثماني سنوات في وجه التحالف العالمي للقوى الظالمة والكاذبة مثال آخر على ذلك. كما تُعدّ حوزة قم العظيمة والفاعلة اليوم، والتي واجهت المحن مع انطلاقتها، نموذجًا ماثلًا أمام أعيننا؛ ويمكن العثور على نماذج كثيرة مثل هذه.
رسم الخطوط الرئيسة والفرعية للحضارة الإسلامية الجديدة
تقع على عاتق الحوزة العلمية في هذا الجانب مسؤولية قيّمة، تتمثل أولاً في رسم الخطوط الرئيسة والفرعية للحضارة الإسلامية الجديدة، ثم في تبيينها وترويجها وترسيخ ثقافتها في المجتمع. وهذا من أسمى مصاديق «البلاغ المبين».
وفي ما يتعلق برسم معالم الحضارة الإسلامية، يضطلع الفقه بدورٍ، والعلوم العقلية بدور آخر. وعلى فلسفتنا الإسلامية أن ترسم امتدادًا اجتماعيًا لقضاياها الأساسية. كما يتعين على فقهنا، وعبر توسيع آفاقه والابتكار في الاستنباط، إحصاء المسائل المستجدة لمثل هذه الحضارة وتحديد أحكامها.
الالتفات إلى عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد
إن بيان الإمام الجليل الواضح حول الفقاهة وأسلوبها في الحوزة العلمية لهو دليل هادٍ؛ ففي هذا البيان، تُعدّ طريقة الاستنباط طريقةَ الفقه التقليدي ذاتها، أو «الاجتهاد الجواهري» وفق تعبير سماحته؛ وعليه، فإن «الزمان» و «المكان» هما عنصران حاسمان في الاجتهاد، فقد يكون لموضوع ما حكمٌ في الماضي، لكن مع تغيّر المعادلات الحاكمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، يكتسب الآن حكمًا جديدًا. وهذا التغيّر في الحكم ناجمٌ عن أنّ الموضوع، وإن كان ظاهريًا هو الموضوع السابق ذاته، إلّا أنه في الواقع، وبالنظر إلى تغيّر المعادلات السياسية والاجتماعية وغيرها، قد تغيّر وأصبح موضوعًا جديدًا، وبالتالي يستدعي حكمًا جديدًا.
علاوة على ذلك، فإنّ الأحداث العالمية المتعاقبة والتقدم العلمي وغيره قد يؤدي في بعض الحالات إلى أن يتوصل الفقيه الحاذق إلى فهم جديد بناء على مدرك من مدارك الكتاب والسنة، فيغدو حجة شرعية لتغيير الحكم؛ كما يحدث غالبًا في تبدل رأي المجتهدين. وعلى أيّ حال، فلا بدّ للفقه من أن يبقى فقهًا، من دون أن يؤدّي الفهم الجديد إلى إدخال شوائب على الشريعة.
أكتفي بما قيل في ما يرتبط بتعريف عنوان الحوزة العلميّة وتفسيره ومضمونها العميق وتوضيحه، وسأتحدّث بإيجاز بشأن حوزة قم التي بلغت الآن مئويّتها.
حيوية الحوزة وازدهارها في مختلف المجالات
حوزة قم اليوم هي حوزة حية ومزدهرة؛ فحضور آلاف المدرسين والمؤلفين والمحققين والكُتّاب والمتحدثين والمفكرين في المعارف الإسلامية، ونشر المجلات العلمية والبحثية، وكتابة المقالات المتخصصة والعامة، يكوّن مجتمِعًا ثروة عظيمة لحاضر المجتمع، وطاقة هائلة لغد البلاد والأمة. إنّ شيوع دروس التفسير والأخلاق، وزيادة دروس العلوم العقلية ومراكزها، هي نقطة قوة بارزة لم تكن متاحة للحوزة قبل الثورة. لم تشهد حوزة قم قطّ هذا العدد من الطلاب والفضلاء أصحاب الفكر. وإنّ الحضور الفعّال في جميع ميادين الثورة، وحتى في الميدان العسكري، وتقديم الشهداء الأجلاء في فترة الدفاع المقدس وما قبلها وما بعدها، لهو من المفاخر الكبرى للحوزة ومن حسنات الإمام الراحل التي لا تحصى. كما أنّ تشريع الطريق إلى ساحة التبليغ العالمي، وتربية آلاف طلاب العلم من مختلف الشعوب، وحضور خريجيها في العديد من البلدان، لهو عمل عظيم آخر وغير مسبوق يستحقّ التقدير. إنّ اهتمام الفقهاء الغِضاض بالمباحث المعاصرة المبتلى بها، والدروس الفقهية المرتبطة بها، يبشّر بمستقبل منشود في التقدّم والتحوّل العلميين. كما أنّ إقبال الفضلاء الشباب على التدقيق في النقاط المعرفية للنصوص الإسلامية المعتبرة، وخاصة كلام الله المجيد، يبشر بدوره برواج القرآن بنحو أوسع في الحوزة العلمية. إنّ تأسيس الحوزات العلمية للسيّدات هو مبادرة مهمّة ومؤثرة يصل ثوابها الدائم إلى الروح المُطهّرة للإمام الراحل. حوزة قم، بهذه النظرة، هي مؤسسة حية وديناميكية، تبعث الآمال.
توصيات من أجل تقليص المسافة بين الحوزة الحالية والحوزة الرائدة
مع ذلك، يظهر هذا التوقّع المنطقي بأن تكون حوزة قم رائدة وفي الطليعة، هو على مسافة ملحوظة من الوضع الحالي. ويساعد الالتفات إلى النقاط الآتية في تقليص هذه المسافة:
يجب أن تكون الحوزة مواكبة للعصر، وأن تخطو دائمًا بما ينسجم مع الزمان، بل أن تتعدّى الزمان في حركتها.
يجب الاهتمام بتربية الطاقات في المجالات كلّها. فمن يرسم مسار حركة هذا الشعب ومستقبل الثورة الإسلاميّة هم الطاقات الذين يتربّون اليوم في الحوزة العلميّة.
فليُعزّز الحوزويّون علاقتهم بالناس، وليجرِ التخطيط لحضور فضلاء الحوزة بين الناس وإرساء علاقات وديّة معهم.
يجب على مديري الحوزة، وعبر التدبير المناسب، أن يحبطوا المغالطات المغرضة التي تجعل الطلاب الحوزويّين الشباب محبطين تجاه المستقبل. يتمتّع الإسلام وإيران والتشيع اليوم بعزّة وحرمة على مستوى العالم لم يسبق أن كان لهما مثيل في الماضي. على الطالب الحوزوي الشاب أن يدرس ويتنامى وهو يمتلك هذا الشعور.
ينبغي أن يُنظر إلى جيل الشباب في المجتمع بعين التفاؤل، وأن يجري التعامل معهم من هذا المنظور. إنّ فئة واسعة من شباب اليوم، الذين يمتلكون معدّل ذكاء مرتفع، أوفياء للدين ومدافعون عنه، بالرغم من كلّ المغالطات الهدّامة للفكر والإحساس الدينيّ؛ وثمة كثيرون آخرون أيضًا ليس لهم أيّ معاندة مع الدين والثورة الإسلاميّة. يجب ألّا تؤدي الأقليّة الضئيلة جدًّا المُعرضة عن المظاهر الدينيّة إلى وقوع الحوزة في التحليلات غير الواقعيّة.
صياغة المناهج الدراسية في الحوزة
يجب أن تُصاغ المناهج الدراسية في الحوزة بنحو يُدرَّسُ فيه الفقه النيّر والمُجيب والمواكب للعصر، والمبني طبعًا على المنهج الاجتهادي، إلى جانب الفلسفة الواضحة ذات الامتداد الاجتماعي والرؤية المؤثرة في هيئة الحياة المجتمعية، ومعها علم الكلام البليغ والمتين والقادر على الإقناع، وذلك على يد أساتذة ماهرين، وتكسب هذه الثلاثية كشفًا ونورانية وعمقًا في ظلّ فهم القرآن ودروس التفسير.
لطالما كان الزُّهد والتقوى والقناعة والاستغناء عن غير الله، والتوكّل، وروحيّة التقدّم، والاستعداد للجهاد، من توصيات الإمام الجليل وأبرز الشخصيات الأخلاقيّة والمعرفيّة إلى الطلاب الحوزويّين الشباب، والآن أنتم أيها الشباب الأعزّاء في الحوزة العلميّة مخاطبون بهذه التوصيات ذاتها.
توصيتي الدائمة والحالية أيضًا بشأن الشهادات الدراسية في الحوزة، هي أن تتولّى الحوزة بنفسها - لا جهة خارجة عنها - منح الشهادات العلمية إلى خرّيجيها. ويمكن بطبيعة الحال استخدام تسميات مألوفة ومعروفة في الأوساط العلمية داخل البلاد وخارجها، مثل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه البحثية وما إلى ذلك، بدلًا من المستويات الحوزوية 1 و2 و3 و4.
أختم كلامي هنا، سائلًا الله المتعالي أن يمدّ الإسلام بعزّةٍ وشوكةٍ متزايدتين، ويمنح الأمّة الإسلاميّة قوّةً وصلابةً متعاظمتين، ويُفيض على الشعب الإيراني تقدّمًا وازدهارًا متناميين، ويمنّ على الحوزات العلميّة برفعة وفاعليّة متعاليتين، ويحقق النصر على الأعداء والمغرضين والمعاندين.
سلام الله على حضرة بقیّة الله (أرواحنا فداه وعجّل الله فرجه) و تحيّاتنا الخالصة إلى أرواح الشهداء والروح المطهرة لإمام الأمة.
والسّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته
السيّد علي الخامنئي
28/4/2025
