الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • مقالات و المقابلات
  • دولیات
  • رياضة وسياحة
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون - ٠٨ مايو ٢٠٢٥
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون - ٠٨ مايو ٢٠٢٥ - الصفحة ۲

نداء الإمام الخامنئي بمناسبة مرور مئة عام على إعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم:

الدول الاستعمارية مبعث الأحداث المُرّة في المنطقة

وجّه قائد الثورة الإسلامية، سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، نداء إلى المؤتمر الدولي الذي عُقد بمناسبة مرور مئة عام على إعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم، تناول فيها مقوّمات الحوزة ووظائفها المتعددة، وبيّن متطلبات تحقيق «حوزة رائدة وطليعية» تتميّز بالابتكار والازدهار، وتواكب العصر، وتجيب عن القضايا المستجدّة، وتتسم بالتهذيب، وروح التقدم والجهاد، والهوية الثورية، والاستعداد لصياغة أنظمة لإدارة المجتمع. وأضاف سماحته أنّ من أبرز وظائف الحوزة وأهمّها هي «البلاغ المبين»، ومن أوضح مصاديقه: رسم الخطوط الرئيسية والفرعية للحضارة الإسلامية الجديدة، وبيانها، وترويجها، وتثقيف المجتمع بها.
وجاء النص الكامل لنداء قائد الثورة الإسلامية كما يلي:
 
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد المصطفى وآله الطّاهرين، [ولا] سيّما بقيّة الله في العالمين.
الحوزة العلمية في قم.. ظاهرة فريدة وسط أحداث مهولة
كان بزوغ حوزة قم المباركة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري الشمسي ظاهرة فريدة من نوعها، تجلّت في خضم أحداث كبرى ومهولة، أحداث عصفت بمنطقة غرب آسيا وجعلت حياتها مظلمة، وعرّضت حياة شعوبها للاضطراب والضّياع.
الدول الاستعمارية كانت منشأ الأحداث المرة في المنطقة منذ القرن الماضي
كان منشأ هذه المرارة المُزمنة والمستشرية وسببها تدخلات الدول الاستعماريّة والمنتصرين في الحرب العالمية الأولى، الذين استخدموا جميع الوسائل بهدف الاستيلاء والسيطرة على هذه الجغرافيا الحساسة والغنية بالموارد الجوفية، فاستطاعوا تحقيق أهدافهم من خلال القوة العسكريّة، والمخططات السياسيّة، والرشاوي، وتوظيف الخونة في الداخل، والأدوات الدعائية والثقافية، ومن خلال أيّ وسيلة أخرى متاحة.
التدخلات الاستعمارية من خلال إرساء نظام طائفي
في العراق، أتوا بحكومة بريطانيّة ومن ثم دولة ملكية عميلة؛ وفي منطقة بلاد الشام، بسطت بريطانيا من جهة وفرنسا من جهة أخرى التدخلات الاستعمارية من خلال إرساء نظام طائفي في جزء منها، وحكومة عائليّة عميلة لبريطانيا في جزء آخر، كما فرضتا القمع والضغط على الناس، وخاصة المسلمين وعلماء الدين، في جميع أرجاء المنطقة.
وفي إيران، أوصلوا رجلاً عسكريًّا شقياً وجشعًا وعديم الشخصية تدريجيًا إلى الصدارة ثم إلى الملكية. وفي فلسطين، بدأوا بالهجرة التدريجية للعناصر الصهيونية وتسليحهم، ومهدوا الطريق من خلال حركة بطيئة لتأسيس غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي. وحيثما وُجدت مقاومة لخططهم المتدرجة - سواء في العراق أو الشام أو فلسطين أو إيران – قمعوها، وفي بعض المدن، مثل النجف، بلغ الأمر حدّ اعتقال جماعي للعلماء، بل وحتى النفي المهين لمراجع عظام مثل الميرزا النائيني والسيد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ مهدي الخالصي، كما شنوا حملات تفتيش من بيت إلى بيت لاعتقال المجاهدين. غدت الشعوب مذعورة ومذهولة، والآفاق مظلمة ومحبطة.
وفي إيران، سُفِكَت دماء المجاهدين في جيلان وتبريز ومشهد، في حين تولى المسؤولون عن الاتفاقيات الخيانية زمام الأمور.
حوزة قم.. غرسٌ مبارك في تعرُّجات الزمن الصعب
في خضم هذه الأحداث المريرة وفي عتمة الظلام الحالك، بزغ نجم قم؛ فقد شاءت يدُ القدرة الإلهية أن تبعث فقيهًا عظيمًا ورعًا خبيرًا، لكي يهاجر إلى قم ويعيد الروح إلى حوزتها العلمية المندثرة والمهجورة، ويغرس نبتة طريّة ومباركة في ذلك الزمن الصعب، بجوار المرقد الطاهر لكريمة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) حيث تلك الأرض الخصبة.
لم تكن قم مع وصول آية الله الحائري خالية من كبار العلماء، فقد كان يقطنها أعلام مثل آية الله ميرزا محمد أرباب والشيخ أبو القاسم الكبير وغيرهما، لكن الإنجاز العظيم في تأسيس الحوزة العلمية، أي معقل العلم والعلماء والدين والمتدينين بكل ما له من دقائق وتدابير، لم يكن ليصدر إلا عن شخصية مسدّدة مثل آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري (أعلى الله مقامه في الجنان).
إن تجربته لمدة ثماني سنوات في تأسيس الحوزة العلمية المزدهرة في أراك وإدارتها، ومرافقته لزعيم الشيعة الكبير، الميرزا الشيرازي في سامراء قبل ذلك لعدة سنوات، واطلاعه على أدائه في تأسيس الحوزة العلميّة وإدارتها في تلك المدينة، كان كل ذلك يرشده في هذا المسعى؛ كما أن درايته وشجاعته واندفاعه وأمله، كلّها كانت تحضّه على سلوك هذا الطريق الصعب.
انطلاقة الحوزة وتناميها بفضل ثبات آية الله الحائري وتوكُّله
في السنوات الأولى، وبفضل صموده النابع عن الإخلاص والتوكّل، نجت الحوزة من سيف رضا خان المسلول الذي لم يرحم صغيرًا ولا كبيرًا في سعيه لمحو معالم الدين وأسسه. هلك الطاغية الخبيث، وبقيت الحوزة التي رزحت لسنوات تحت الضغوط القصوى وتنامت، وأشرقت منها شمس «روح الله».
إنّ الحوزة العلمية التي كان طلابها ذات يوم، يلجأون منذ الفجر، خوفًا على حياتهم، إلى أطراف خارج المدينة للدراسة والمباحثة، ويعودون ليلًا إلى حجراتهم المظلمة في المدارس؛ تحولت في غضون أربعة عقود بعد ذلك إلى مركز يبث إلى جميع أنحاء إيران شعلة النضال ضد سلالة رضا خان الخبيثة، وينوّر القلوب الكئيبة واليائسة، ويجذب الشبان المنعزلين إلى وسط الميدان.
بقاء الحوزة وبركاتها
والحوزة هذه تحوّلت بعد فترة وجيزة من رحيل مؤسّسها، وبقدوم المرجع العظيم، آية الله السيّد البروجردي، إلى قمّة علميّة وبحثيّة وتبليغيّة للتشيّع في أنحاء العالم. وفي نهاية المطاف، بلغت هذه الحوزة قوتها المعنوية وشعبيتها، ما مكّنها، وبأيدي الشعب، من اقتلاع النظام الملكي الخائن والفاسد والفاسق في أقل من ستة عقود، وبوّأت الإسلام موقع الحاكمية السياسية في دولة كبيرة ذات ثقافة عريقة لها شتى الطاقات.
والمتخرج من هذه الحوزة المباركة هو الذي جعل إيران نموذجًا للدعوة إلى الإسلام في العالم الإسلامي، بل رائدة التديّن في جميع أنحاء العالم؛ إذ بخطابه الرّساليّ انتصر الدم على السيف؛ وبتدبيره ولدت الجمهورية الإسلامية؛ وبشجاعته وتوكله، تصدى الشعب الإيراني للتهديدات وتغلّب على كثير منها. اليوم، وبفضل دروسه وإرثه، تشّق البلاد طريقها وسط العقبات وتمضي قُدمًا في كثير من جوانب الحياة.رحمة الله ورضوانه الدائم على مؤسس هذه الحوزة المباركة والعظيمة، وهذه الشجرة الطيّبة المثمرة، ذلك الإنسان السامي والحكيم والمبارك، وعالم الدين والمتزين بسكينة اليقين، سماحة آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري.
ثمة موضوعات لابد من التطرّق إليها يُتوقّع أنها ستكون مفيدة للحوزة العلمية في حاضرها ومستقبلها، على أمل أن تساعد الحوزةَ الناجحة اليوم، للوصول إلى حوزة «رائدة وطليعيّة».
مكونات الحوزة العلمية ووظائفها
أول ما يطرح هو عنوان «الحوزة العلمية» ومضمونه العميق. إنّ اللغة المتداولة في هذا الشأن قاصرة وغير وافية؛ فالحوزة، خلافًا لما توحيه هذه اللغة، ليست مجرد مؤسسة للتدريس والدّراسة، بل هي مجموعة تضمّ العلم والتربية والوظائف الاجتماعية والسياسية. ويُمكن بالإجمال فهرسة الأبعاد المتنوعة لهذا العنوان المعبّر على النحو الآتي:
-مركزٌ علمي ذو اختصاصات محدّدة؛
-مركزٌ لتربية طاقات مُهذّبة وفاعلة من أجل هداية المجتمع على المستويين الديني والأخلاقي؛
-الخطّ الأمامي لجبهة التصدّي لتهديدات الأعداء في مختلف المجالات؛
-مركز لإنتاج الفكر الإسلامي وتبيينه في مجال الأنظمة الاجتماعية؛ بدءًا من النظام السياسي شكلًا ومضمونًا، وصولًا إلى الأنظمة المتعلقة بإدارة الدولة، وإلى نظام الأسرة والعلاقات الشخصية، وذلك بناءً على الفقه والفلسفة والمنظومة القيمية للإسلام.
-مركز، بل ربّما قمة، للإبداعات الحضارية والاستشرافات المستقبلية اللازمة في إطار الرسالة العالمية للإسلام.
هذه هي العناوين الرئيسة التي تفسّر معنى مفردة «الحوزة العلمية» وتحدّد العناصر المكوّنة لها، أو «التوقعات» منها بعبارة أخرى؛ وهي ذاتها التي يمكن للجهود الرامية إلى تعزيزها وتطويرها أن ترتقي بالحوزة إلى حوزة «رائدة وطليعية» بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتعالج التحديات والتهديدات المحتملة في المستقبل.
الحوزة والإرث العظيم لعلماء الدين في شتّى العلوم
توجد حقائق وآراء أيضًا بشأن كلّ واحد من العناوين المذكورة، يمكن بيانها بشكل إجمالي على النحو الآتي:
أوّلًا. المركز العلمي:
لقد ورثت حوزة قم المخزون العلميّ العظيم للشيعة. هذا الرصيد الفريد هو نتاج العمل الفكري والبحثي للآلاف من علماء الدين في مختلف علوم الفقه والكلام والفلسفة والتفسير والحديث على مدى ألف عام.
فإلى ما قبل اكتشافات العلوم الطبيعية في القرون الأخيرة، كانت الحوزات العلمية الشيعية ساحة للخوض في العلوم الأخرى؛ ولكن المحور الرئيسي للبحث والتحقيق في الحوزات كان في جميع العصور هو «علم الفقه»، ويليه بفارق «الكلام والفلسفة والحديث».
إن التطوّر التدريجي لعلم الفقه في هذه الفترة الطويلة، منذ زمن الشيخ الطوسي وحتى عصر المحقق الحلي، ومنه إلى الشهيد الأول، ثمّ المحقق الأردبيلي، وبعده إلى الشيخ الأنصاري وحتى العصر الحالي، أمرٌ ملموسٌ لدى أهل الاختصاص؛ فالمعيار في تقدم الفقه هو ثراء مخزونه، أي النتاجات العلمية الفاخرة، والارتقاء بمستوى العلم والمكتشفات الجديدة؛ ولكن اليوم، وبالنظر إلى المستجدّات الفكرية والعملية السريعة والكثيفة في المراحل المعاصرة، وخاصة في القرن الأخير، لا بُدّ من صبّ الاهتمام على توقّعات تتعدّى هذا الحدّ في مجال التقدّم العلميّ للحوزة.
الفقه؛ معناه ووظائفه
تجدر ملاحظة النقاط الآتية في ما يتعلق بعلم الفقه:
أولًا: الفقه هو مجموعة إجابات يضعها الدين للاحتياجات العملية للفرد والمجتمع. ومع التطوّرات العقلانيّة لدى الأجيال، يجب أن تكون هذه الإجابات اليوم ذات سند فكري وعلمي راسخ أكثر من أي زمن مضى، وقابلةً للفهم والاستيعاب في الوقت نفسه.
ثانيًا: إن الظواهر المعقدة والمتعددة في حياة الناس اليوم تطرح أسئلة غير مسبوقة، على الفقه المعاصر أن تكون له إجاباتٌ جاهزةٌ لها.
ثالثًا: إن السؤال الأساسي اليوم، ومع تأسيس النظام السياسي للإسلام، هو كيفية الرؤية الشاملة لدى «الشارع» إلى الأبعاد الفردية والاجتماعية لحياة البشر وأسسها المبدئية؛ بدءًا من النظرة إلى الإنسان ومكانته الإنسانية وأهداف حياته، وصولًا إلى النظرة إلى الشكل الأمثل للمجتمع البشري، والنظرة إلى السياسة والسلطة والعلاقات الاجتماعية والأسرة والجنس والعدالة وسائر أبعاد الحياة. ويجب أن تُظهر فتوى الفقيه في أيّ مسألة جانبًا من هذه الرؤية الشاملة.
متطلبات إجابة الفقه على احتياجات الإنسان المتنوعة
إن الشرط المهم للوصول إلى هذه الخصائص هو أولًا إحاطة الفقيه بجميع أبعاد الدين ومعارفه في المجالات كلّها، وثانيًا إلمامه المناسب بمكتشفات الإنسان المعاصرة في مجال العلوم الإنسانية والمعرفة المرتبطة بحياة الإنسان.
يجب التسليم بأن الرصيد المتراكم من العلم في الحوزة ذو قابلية تمكّن الطالب من بلوغ هذا المستوى من الكفاءات العلمية، شريطة أن تُرى بعض النقاط في أسلوب العمل الحالي بعين بصيرة وأن تُعالج بيد مقتدرة.
إحدى هذه النقاط هي طول فترة الدراسة؛ فمرحلة قراءة النصوص للطالب تمر بطريقة تثير التساؤل، إذ يضطر الطالب إلى تعلم كتاب ضخم وتحقيقيّ لعالم كبير بوصفه كتابًا دراسيًا! هذا الكتاب، هو في الحقيقة، يناسب دخوله مرحلة البحث الاجتهادي، واعتماده قبل هذه المرحلة ليس له من أثر سوى إطالة أمد قراءة النصوص. يجب أن يحتوي الكتاب الدراسي على مادة ولغة مناسبتين للطالب ضمن مرحلة محدودة قبل دخوله مرحلة البحوث. وقد كانت المساعي الناجحة أو غير الناجحة لأعلامٍ كالآخوند الخراساني والشيخ عبد الكريم الحائري والسيد صدر الدين الصدر، لاستبدال كتبٍ مثل «القوانين» و«الرسائل» و«الفصول» بكتب «الكفاية» و«درر الفوائد» و«خلاصة الفصول»، ناجمة عن إدراك هذه الضرورة المهمة، على الرغم من أنهم عاشوا في زمن لم يكن فيه الطالب يواجه هذا الكم الهائل من المدخلات الذهنية والتكاليف العملية كما هو الحال اليوم.
قضية الأولويات الفقهية
النقطة الأخرى هي قضيّة الأولويات الفقهية؛ فاليوم، مع تأسيس النظام الإسلامي وطرح نظام الحكم على الطريقة الإسلامية، برزت أمام الحوزة موضوعات مهمة ذات أولوية لم تكن مطروحة في الماضي، ولكنها باتت من أولويات البلاد في حاضرها وغدها، وتنتظر إجاباتٍ فقهية، قضايا من قبيل علاقات الحكومة بشعبها وبالدول والشعوب الأخرى، وموضوع «نفي السبيل»، والنظام الاقتصادي وأسسه المبدئية، والأسس المبدئية للنظام الإسلامي، ومصدر الحاكمية من وجهة نظر الإسلام، ودور الناس فيها والموقف تجاه القضايا المهمة وإزاء نظام الهيمنة، ومفهوم العدالة ومضمونها، والعشرات من الموضوعات الأساسيّة الأخرى والمصيريّة في بعض الأحيان. (بعضُها يتضمّن بُعدًا كلاميًّا أيضًا، وينبغي مناقشته في موضعه المناسب).
لا يُلاحظ اهتمام كافٍ بهذه الأولويات في أسلوب العمل الحالي للحوزة في المجال الفقهي، إذ نرى أحيانًا أن بعض المهارات العلمية التي تنطوي بنحو عام على جانب آلي ومقدماتي للوصول إلى حكم الشرع، أو بعض الموضوعات الفقهية أو الأصولية الخارجة عن الأولويات، تُغرق الفقيه والمحقق بحلاوتها المغرية فتصرف ذهنه تمامًا عن تلك المسائل الرئيسة ذات الأولوية، على حساب فرصٍ لا تعوّض وثروات بشرية ومالية من دون أن تقدم أي مساعدة في تبيين نمط العيش الإسلامي وهداية المجتمع، وذلك في خضم هجوم الكفر.
إذا كان الهدف من العمل العلمي إظهار الفَضل والسُمعة العلميّة والتسابق على استعراض الفضل، فإنّ هذا سيكون مصداقًا للفعل المادّي والدنيويّ ولـ{اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} (الفرقان، 43).
اهتمام الحوزة باحتياجاتها من أجل التبليغ
ثانيًا: تربية طاقات مهذبة وفاعلة
الحوزة مؤسسة منفتحة على خارجها؛ فمخرجات الحوزة على جميع المستويات هي في خدمة فكر المجتمع والبشر وثقافتهما. الحوزة مكلفة بـ«البلاغ المبين»، ونطاق هذا البلاغ واسع جدًا، يمتد من المعارف التوحيدية السامية إلى الواجبات الشرعية الفرديّة، ومن تبيين النظام الإسلامي وهيكليته ومسؤولياته إلى نمط العيش والبيئة والحفاظ على الطبيعة والحيوان، وكثير من المجالات والجوانب الأخرى للحياة البشرية.
وقد اضطلعت الحوزات العلمية منذ القدم بهذه المسؤولية الثقيلة، وانخرط العديد من المتخرّجين منها على مختلف مستوياتهم العلمية في أساليب متنوعة لتبليغ الدين وأمضوا عمرًا فيه. وبعد الثورة، ظهرت في الحوزة مؤسسات لتنظيم محتوى هذه الحركات التبليغيّة وتقويمه في بعض الأحيان. ينبغي ألّا نتجاهل الخدمات القيمة التي قدمتها هذه المؤسسات وغيرها من المحترفين في مجال تبليغ الدين.
المهمّ هو التعرّف على أجواء المجتمع الفكريّة والثقافيّة، والمواءمة بين المكتسبات التبليغيّة والحقائق الفكريّة والثقافيّة لدى النّاس، وخاصّة الشباب. تعاني الحوزة مشكلة في هذا الجانب، فهذه المئات من المقالات والمجلات والخطابات المنبرية والتلفزيونية وما إلى ذلك، لا تستطيع أن تؤدي مهمة البلاغ المبين كما هو مطلوب وكما ينبغي في مواجهة سيل الخطابات التضليليّة.
العناصر الضروريّة للتبليغ:
 1 - التعليم
يفتقد هذا الجانب في الحوزة عنصرين أساسيين: «التعليم» و«التهذيب».
إن إيصال رسالة عصرية تملأ الفراغ وتحقق هدف الدين يستلزم التعليم والتعلّم لامحالة. يجب أن يتصدى جهازٌ ما لهذه المهمة ليعلّم الطالب قوة الإقناع والإلمام بأسلوب الحوار ومعرفة كيفيّة التعاطي مع الرأي العام والفضاء الإعلامي والافتراضي والانضباط في مواجهة المخالف، ويعدّه عبر التمرين والممارسة لدخول هذا الميدان في فترة محدودة. من جهة، ينبغي جمع أحدث المغالطات والآفات الفكرية والأخلاقية وأكثرها شيوعًا، وتوفير أفضل رد عليها وأبلغه وأقواه في إطار لغة متناسبة مع العصر، وباستخدام الأدوات التقنيّة الحديثة. ومن جهة أخرى، يجب تدوين أهم المعارف الدينية التي تتناسب والوضع الثقافي والفكري المعاصر في هيئة حُزم مناسبة لفكر جيل الشباب والناشئة والأسرة ولثقافتهم. تُعد هذه التركيبة من الشكل والمضمون أهم موضوعات التعليم في هذا الجانب.
إعداد المجاهدين الثقافيين
يعدُّ الموقف الإيجابي، بل وحتى الهجومي، أهم من الموقف الدفاعي في العمل التبليغي، وإنّ ما قيل بشأن دفع الشبهات والمغالطات ومعالجتها، ينبغي أن لا يجرّ الجهاز التبليغي إلى الغفلة عن مهاجمة مسلمات الثقافة المنحرفة السائدة في العالم، وربما في بلدنا. إنّ ثقافة الغرب المفروضة والتلقينيّة تتّجه بسرعة متزايدة نحو الانحراف والانحطاط؛ فالحوزة الضليعة بالفلسفة والكلام لا تكتفي بالدفاع في وجه إثارة الشبهات بل تخلق تحديات فكرية تجاه هذا الانحراف والضلال، وتجبر المدعين المُضلّلين على الرد.
يندرج إعداد هذا الجهاز التعليميّ ضمن أولويات الحوزة؛ وهذه هي تربية «المجاهد الثقافيّ». فبالنظر إلى حراك أعداء الدين الذين يسعون جاهدين لتجنيد القوى، وخاصّة في بعض المجالات المهمّة، ينبغي التعامل مع [إعداد هذا الجهاز] بجدّية قصوى وبوتيرةٍ سريعةٍ.
2- التهذيب
يعدّ التهذيب ضرورة أخرى إلى جانب التعليم، والتهذيب لا يعني تربية المنعزلين؛ فجزء كبير من نطاق نشاط المجاهد الثقافي هو الدعوة إلى تهذيب النفس والأخلاق الإسلامية، وهذا العمل يكون عديم الأثر والبركة إذا لم يكن الداعي نفسه متحلياً بما يدعو إليه. إن الحوزة بحاجة إلى تحرّك أكبر من الماضي في تأكيد التوصيات الأخلاقية.
تتمة المنشور في الصفحة3

 

البحث
الأرشيف التاريخي