بين التعافي المأمول والواقع السياسي
استمرار الأزمة الاقتصادية في تركيا
/ تمر تركيا اليوم بمرحلة اقتصادية دقيقة تتلاقى فيها التحديات المالية مع الاضطرابات السياسية، مشكّلة أزمة متعددة الأبعاد. فمنذ سنوات والاقتصاد التركي يعاني من تقلبات حادة في قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، وقد بذلت الحكومة التركية جهوداً متعددة للسيطرة على الوضع الاقتصادي المتدهور من خلال سياسات نقدية ومالية متنوعة. لكن هذه الجهود كثيراً ما اصطدمت بتداعيات القرارات السياسية، التي أثرت سلباً على مناخ الاستثمار وثقة الأسواق المالية العالمية والمحلية في الاقتصاد التركي. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تفاقماً في هذه الأزمة نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، أبرزها التوترات السياسية المتصاعدة ، والتي أدت إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع الاحتياطيات من العملات الأجنبية، مما عمّق من صعوبة التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
تفاقم الأزمة الاقتصادية
في هذه الأيام التي اتسعت فيها الأزمة الاقتصادية في تركيا وتعمقت مقارنة بعام 2024، خسرت حكومة أردوغان ما يقارب 50 مليار دولار من احتياطاتها من العملات الأجنبية في محاولة للحفاظ على استقرار سعر الدولار.
ومع ذلك، لا يزال الدولار الأمريكي الواحد يساوي 38.5 ليرة تركية، بينما تشير التقديرات إلى أن القيمة الحقيقية للدولار في البلاد تتجاوز 44 ليرة عند احتساب الفوائد الإضافية لحسابات التوفير.
يعتقد محللو السوق في تركيا أن موجة عدم الاستقرار السياسي وانعدام الثقة المالية قد ازدادت بشكل ملحوظ بعد اعتقال أكرم إمام أوغلو، وإذا استمر الوضع الحالي، فستضطر حكومة أردوغان إلى إجراء انتخابات مبكرة.
لكن شريك أردوغان اليميني المتطرف في ائتلاف الجمهور، دولت باهجلي، رد بحدة على توصيات المحللين الاقتصاديين وأعلن أنه لن تكون هناك انتخابات حتى عام 2028 ميلادي.
وبالتزامن مع استمرار الاحتجاجات الواسعة لحزب الشعب الجمهوري ومؤيدي إمام أوغلو، تُحذر مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية من الوضع الاقتصادي في تركيا.
شيمشك يحاول
تولى محمد شيمشك وزير المالية والخزانة التركي دفة الاقتصاد التركي في عام 2023 بإصرار من أردوغان، واشترط منذ اليوم الأول عدم تدخل رئيس الجمهورية في القرارات السياسية والنقدية له وللبنك المركزي.
ووعد في المقابل أنه إذا ترك يعمل دون تدخل، فإنه سيعمل على تحسين الاقتصاد التركي المريض من خلال التقشف المالي والانضباط العالي وجذب الاستثمارات الأجنبية، وذلك بحلول عام 2025 ميلادي.
وحتى بشهادة الاقتصاديين المعارضين لشيمشك، حقق نجاحات كبيرة في كلا المجالين، فقد أعاد الاستقرار المالي إلى السوق ورفع احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية.
ومع ذلك، فإن كل ما نسجه شيمشك، نقضته السياسة! فقد تم اعتقال رؤساء أكبر مؤسسة للقطاع الخاص في الاقتصاد التركي، وهي توسياد، بتهمة إهانة رئيس الجمهورية وتشويش الرأي العام، وفي الخطوة التالية، سُجن أكرم إمام أوغلو، العمدة السابق لإسطنبول.
وهكذا ارتفع سعر الدولار واليورو مرة أخرى، وفر العديد من المستثمرين الأمريكيين والأوروبيين من السوق التركية. لكن يبدو أن شيمشك لم يفقد الأمل تماماً بعد.
أعلن محمد شيمشك في قمة مجموعة العشرين في الولايات المتحدة: «تركيا ملتزمة ببرنامج الاستقرار الاقتصادي الكلي، والهدف الرئيسي لهذا البرنامج هو ضمان استقرار الأسعار وخفض التضخم إلى مستويات أحادية الرقم. البرنامج يسير في الاتجاه الصحيح الآن، ولن نتراجع عن الانضباط المالي.
وقال شيمشك بشأن تشتت التجارة العالمية: «الاتجاه الحالي خطير على الاقتصاد العالمي بأكمله، لكن تركيا في وضع مواتٍ بسبب البنية التحتية القوية للإنتاج والعلاقات التجارية التي أقامتها مع الغرب.
اتفاقيات التجارة الحرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي والدول المجاورة تضمن ثلثي الصادرات، ويتم تعزيز اندماج تركيا في سلسلة القيمة العالمية في إطار العلاقات مع الغرب، وهذا يهيئ الظروف لزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر ونقل الطلبات من الغرب إلى تركيا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للشركات الآسيوية أن تنظر إلى تركيا كقاعدة إنتاج ولوجستية إقليمية لأن تركيا أظهرت أداءً متميزاً بين البلدان النامية على مدى 25 عاماً، وتم توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع 54 دولة».
جاءت تصريحات شيمشك في وقت يقر فيه الاقتصاديون والخبراء الماليون بأن تركيا في عام 2024 لم تشهد حتى تدفقاً جيداً للاستثمارات من دول الخليج الفارسي، ولم تظهر المجموعات المالية الصينية والكورية الجنوبية رغبة في الاستثمار الواسع في تركيا.
فيتش قلقة بشأن تركيا
حذرت وكالة التصنيف الائتماني فيتش من الاقتصاد التركي، وأعلنت: «زيادة عدم اليقين السياسي في تركيا يمكن أن تؤدي إلى تقلبات في الأسواق المالية وتغيير في اتجاه السياسات. قد يضعف هذا الوضع التحرك الإيجابي في التصنيف الائتماني لبعض المؤسسات المالية التركية».
في التقييم الذي أجرته فيتش، تم التأكيد على أن التطورات السياسية الأخيرة في تركيا يمكن أن يكون لها تأثير مدمر على القطاع المصرفي.
وأعلنت الوكالة أن البنوك التركية معرضة لمخاطر أكبر على المدى القصير بسبب المستوى المرتفع من الديون بالعملات الأجنبية والحساسية لتقلبات أسعار الصرف.
وذكّرت فيتش بأن اعتقال أكرم إمام أوغلو، العمدة السابق لإسطنبول، والاحتجاجات الواسعة التي تلت ذلك، أدت إلى تقلبات كبيرة في الأسواق المالية التركية.
وأعلنت الوكالة، في ضوء ضغوط انخفاض قيمة الليرة وارتفاع عائدات السندات الحكومية: «بدأ تصنيف البنوك التركية في التحسن بعد انتخابات الرئاسة عام 2023، لكن تكرار التوترات والتطورات السياسية يمكن أن يزعزع ويعطل ثقة المستثمرين والمودعين إلى الأبد». وأشارت فيتش إلى أن البنوك التركية لديها قدر كبير من الديون الخارجية قصيرة الأجل، وأكدت أن ضعف ثقة المستثمرين أو زيادة دولرة الودائع يمكن أن يزيد من مخاطر إعادة التمويل. كما لاحظت فيتش أن أسعار الفائدة المرتفعة على الليرة تؤخر تحسن هامش الربح على المدى الطويل. ووفقاً لتقييم الوكالة، فإن تأثير التطورات السياسية التركية على الاستقرار الاقتصادي لديه إمكانية زيادة هشاشة النظام المالي.
معضلة اقتصادية
تواجه تركيا اليوم معضلة اقتصادية معقدة تتشابك فيها العوامل السياسية والمالية بشكل وثيق. فبينما كانت هناك مؤشرات على تحسن تدريجي في الأداء الاقتصادي تحت قيادة وزير المالية محمد شيمشك، أدت التدخلات السياسية والقرارات المثيرة للجدل إلى إعاقة هذا التعافي وإضعاف ثقة المستثمرين. إن استمرار هذا النهج قد يضع الاقتصاد التركي أمام تحديات أكبر في المستقبل القريب، خاصة مع تناقص الاحتياطيات من العملات الأجنبية وارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجي. ويبقى السؤال المحوري: هل ستتمكن الحكومة التركية من إيجاد توازن بين طموحاتها السياسية ومتطلبات الاستقرار الاقتصادي، أم ستستمر في نهج يؤدي إلى مزيد من التدهور في قيمة العملة وارتفاع التضخم؟
