بعد سنوات من الشراكة الإستراتيجية
ما هي أسباب أزمة العلاقات الأوكرانية-الجورجية؟
/ تمثل العلاقات بين جورجيا وأوكرانيا مشهداً دبلوماسياً معقداً يعكس تحولات عميقة في السياسة الخارجية للبلدين. فبعد سنوات من الشراكة الوثيقة والتعاون الاستراتيجي، شهدت العلاقات بين البلدين تدهوراً حاداً خلال السنوات الأخيرة نتيجة تحولات سياسية وجيوسياسية واسعة النطاق. يستعرض هذا التحليل أبرز معالم هذا التحول وأسبابه وانعكاساته المستقبلية.
علامة جديدة على توتر العلاقات
في خطوة تعكس بوضوح برودة العلاقات، قرر الحزب الحاكم «الحلم الجورجي» مؤخرا تقليص مدة الإقامة بدون تأشيرة للمواطنين الأوكرانيين في جورجيا من ثلاث سنوات إلى سنة واحدة.
جاء هذا القرار بعد عام واحد فقط من قيام الحكومة ذاتها بزيادة مدة الإقامة بدون تأشيرة من سنتين إلى ثلاث سنوات، في خطوة كانت تهدف ظاهرياً إلى إظهار التضامن مع اللاجئين الأوكرانيين بعد بدء الغزو الروسي. ويبدو أن هذا الإجراء الأخير يمثل رد فعل عقابي من تبليسي على دعم كييف للمعارضة الجورجية المؤيدة لأوروبا.
جذور الخلاف
تعود جذور توتر العلاقات إلى تغيرات أعمق، ترتبط بشكل رئيسي بتحول نهج حكومة «الحلم الجورجي» بعد الانتخابات المثيرة للجدل العام الماضي وابتعادها عن مسار التقارب مع الاتحاد الأوروبي.
عقب هذا التحول، فرضت أوكرانيا عقوبات على بيدزينا إيفانيشفيلي، مؤسس والزعيم الروحي لـ»الحلم الجورجي»، و19 مسؤولاً آخر من هذا البلد، متهمة إياهم بـ»بيع مصالح جورجيا وشعبها».
كما ظهرت تقارير حول تعاون الوفد الأوكراني مع المعارضة الجورجية لإعداد قرار انتقادي في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا ضد الحكومة الجورجية.
«الحلم الجورجي» يرفض دخول الحرب
من جانبها، اتهمت حكومة «الحلم الجورجي» باستمرار منذ بداية الحرب الأوكرانية، الغرب وكييف بمحاولة جر جورجيا إلى الصراع وإجبارها على إرسال مساعدات عسكرية لأوكرانيا.
وقد افتخر قادة هذا الحزب، بمن فيهم إيفانيشفيلي، مراراً بـ«مقاومتهم» لهذه الضغوط. وقد قوبلت هذه التصريحات برد فعل قوي من وزارة الخارجية الأوكرانية، التي وصفتها بأنها «تقييمات مشوهة».
وذهب رئيس الوزراء الجورجي، إيراكلي كوباخيدزه، إلى أبعد من ذلك، واصفاً الحكومة الأوكرانية بأنها «معينة من الخارج» وألقى مسؤولية الحرب على «القوى الأجنبية»، مؤكداً أنه لن يسمح بتكرار سيناريو «الأوكرنة» أو «يوروميدان» في جورجيا.
الخلافات القنصلية والاتهامات الأمنية المتبادلة
تصاعدت الخلافات في المجال القنصلي أيضاً. فقد قوبل الطلب الرسمي الجورجي في مارس 2024 لتسليم مسؤولين سابقين في الحكومة (مرتبطين بحزب الحركة الوطنية الموحدة) لجأوا إلى أوكرانيا ويعمل بعضهم في مناصب حكومية هناك، بتجاهل من كييف.
وفي المقابل، رفضت تبليسي طلب أوكرانيا للإفراج عن ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الجورجي السابق والمواطن الحالي في أوكرانيا، من السجن.
كما وصلت الاتهامات المتبادلة في المجال الأمني إلى ذروتها.
حيث اتهم رئيس البرلمان الجورجي جهاز المخابرات العسكرية الأوكراني بالتخطيط لعودة ساكاشفيلي السرية إلى جورجيا عام 2021.
وادعت أيضاً دائرة الأمن الحكومي الجورجية أن مسؤولين جورجيين سابقين مقيمين في الخارج، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الأوكرانية، كانوا يخططون للإطاحة بالحكومة واغتيال إيفانيشفيلي، كما اتهمت «الفيلق الجورجي» (المتطوعين الجورجيين في الجيش الأوكراني) بمحاولة دعم احتجاجات المعارضة بالعنف (وهي اتهامات وصفها الفيلق الجورجي بأنها «هراء» وتهدف لإرضاء موسكو).
وفي المقابل، اتهم المسؤولون الأوكرانيون الحكومة الجورجية بمساعدة روسيا على الالتفاف على العقوبات الغربية، وهو اتهام وصفته تبليسي بأنه «لا أساس له وباطل» وطالبت بتقديم أدلة.
آفاق غامضة للتطبيع
رغم دعوات بعض المحللين الأوكرانيين لإحياء الشراكة الاستراتيجية والتغلب على الخلافات، تبدو آفاق تحسن العلاقات قاتمة للغاية. فبالإضافة إلى الخلافات الأيديولوجية والسياسية الحالية، تلعب الذاكرة التاريخية دوراً أيضاً؛ حيث يتذكر الكثيرون في جورجيا أن البرلمان الأوكراني امتنع عام 2008 عن تبني قرار يصف حرب روسيا ضد جورجيا بأنها عدوان عسكري. كما يعكس الوضع الدبلوماسي الحالي عمق الأزمة؛ فسفارتا البلدين في تبليسي وكييف تعملان منذ شهور دون سفراء.
ويبدو أن مستقبل العلاقات بين جورجيا وأوكرانيا يعتمد، أكثر من اعتماده على إرادة الطرفين، على المعادلات الجيوسياسية الكبرى في أوراسيا، والنتيجة النهائية للحرب الأوكرانية، ونوع الهندسة الأمنية التي ستشكلها القوى العالمية الكبرى.
فقد أدى التقارب المتزايد بين جورجيا الحالية وروسيا إلى انتقادات من أوكرانيا والغرب، وسيكون من الصعب للغاية التغلب على الخلافات العميقة الحالية، خاصة فيما يتعلق بروسيا. وربما تكون الانتخابات البرلمانية القادمة في جورجيا (التي لم يحدد موعدها بعد) واحتمال وصول حزب مؤيد للاتحاد الأوروبي إلى السلطة هي الفرصة الوحيدة لإحداث تغيير في هذا المسار. تمثل حالة العلاقات الحالية بين جورجيا وأوكرانيا نموذجاً للتحولات المعقدة في العلاقات الدولية عندما تتداخل العوامل الجيوسياسية مع المصالح الداخلية والتوجهات السياسية. فبعد سنوات من التعاون الوثيق وصولاً إلى احتمالية الانضمام المشترك لحلف الناتو، تجد الدولتان نفسيهما اليوم في مسارين متباعدين بشكل متزايد. وفي ظل الاستقطاب الدولي الحالي والتحديات الإقليمية العميقة، يبدو أن إعادة بناء جسور الثقة بين البلدين سيتطلب تحولات سياسية كبيرة وربما معادلة جيوسياسية جديدة في المنطقة، وهو ما قد لا يتحقق في المستقبل القريب.
