بين المتطلبات الإقتصادية والسياسية
اللغة الصينية تدخل المدارس الجورجية
/ تشهد الساحة التعليمية العالمية تحولات مستمرة تعكس المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية على الصعيد الدولي. وفي ظل تنامي أهمية العلاقات الدولية والتبادل الثقافي والتجاري، تبرز أهمية تطوير المنظومات التعليمية بما يتواكب مع متطلبات العصر. تمثل جورجيا نموذجاً مثيراً للاهتمام في كيفية استجابة الدول للمتغيرات العالمية من خلال تطوير سياساتها التعليمية واستراتيجياتها اللغوية، بما يخدم مصالحها الوطنية والاقتصادية على المدى البعيد.
مؤخراً و تزامناً مع اليوم العالمي للغة الصينية في الأمم المتحدة ، أعلنت وزارة التعليم الجورجية أن اللغة الصينية ستُدرج كأحد خيارات اللغة الأجنبية الثانية في المناهج التعليمية لمدارس البلاد. يأتي هذا القرار في وقت تتزايد فيه أهمية اللغة الصينية في العالم بشكل مستمر.
تبدو هذه الخطوة منطقية ومتوقعة تماماً، حيث يشهد الطلب على تعلم اللغة الصينية نمواً سريعاً حول العالم، ويتمتع المتقنون لهذه اللغة بمزايا وظيفية ملحوظة في جميع البلدان تقريباً.
المتطلبات الجيوسياسية والاقتصادية
تزداد أهمية اللغة الصينية خاصة للدول الواقعة على مسار المشاريع التجارية والنقل الكبرى للصين. وتقع جورجيا، إلى جانب دول أخرى في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى الواقعة على مسار "الممر الأوسط" (جزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية)، في طليعة توسع النفوذ اللغوي والثقافي الصيني، وتشتد الحاجة إلى قوى عاملة متقنة للغة الصينية في هذه البلدان.
برنامج وزارة التعليم الجورجية
ذكرت وزارة التعليم الجورجية في بيانها أن الهدف من هذه الخطوة هو "تقديم خيارات متنوعة للطلاب" و"المساعدة في تطوير مهارات التواصل لدى المراهقين بلغتين أجنبيتين على الأقل" إلى جانب تعزيز اللغة الجورجية.
وفقاً للمنهج الدراسي الوطني الجورجي، تُعد اللغة الإنجليزية إلزامية كلغة أجنبية أولى من الصف الأول حتى الثاني عشر. وتُقدم اللغة الأجنبية الثانية اختيارياً بدءاً من الصف الخامس، ويتعين على المدارس تقديم خيارين على الأقل (مثل الفرنسية والألمانية والإيطالية والتركية وغيرها) للطلاب.
تعهدت الوزارة بتوفير المعايير التعليمية اللازمة بما في ذلك المناهج الدراسية والكتب وتدريب المعلمين في حال اختيار الطلاب للغة الصينية. حالياً، تُدرس اللغة الصينية في 15 مدرسة جورجية فقط كنشاط إضافي، ولكن نظراً "لتزايد الطلب"، من المقرر وضع معيار وطني لتعليم هذه اللغة بالتعاون مع قسم الدراسات الصينية في جامعة تبليسي الحكومية.
ردود الفعل
على عكس المتوقع، قوبل الإعلان عن هذا الخبر "بتفهم عام" في المجتمع الجورجي. حتى المعارضة الموالية للغرب التي انتقدت بشدة في صيف 2023، بالتزامن مع الإعلان عن إقامة "شراكة استراتيجية" بين تبليسي وبكين، هذا التقارب واعتبرته مناقضاً "للخيار الأوروبي" لجورجيا، أظهرت هذه المرة رد فعل أكثر اعتدالاً. ومع ذلك، لا تزال بعض شخصيات المعارضة تعرب عن قلقها من أن هذه الخطوة تشير إلى رغبة الحكومة في تعزيز العلاقات مع الصين في خضم توتر العلاقات مع الغرب. في المقابل، يبدو أن الآباء الجورجيين قد أدركوا أن إتقان اللغة الصينية يمكن أن يوفر فرصاً وظيفية أفضل بكثير لأبنائهم مقارنة باللغات الأوروبية.
تأخير في التنفيذ
قوبل الإعلان الأولي عن برنامج تعليم اللغة الصينية في المدارس من قبل رئيس الوزراء الجورجي آنذاك في صيف 2023 بردود فعل سلبية من الغرب والمعارضة المحلية.
يبدو أن حكومة "الحلم الجورجي" قررت تعليق تنفيذ هذا البرنامج لتجنب إثارة التوترات في العام الماضي المضطرب (الذي شهد احتجاجات واسعة للمعارضة تحت شعار "التكامل الأوروبي"). لكن هذا التردد كلف البلاد "وقتاً ضائعاً".
اللغة الصينية لغة صعبة ويتطلب تعلمها وقتاً طويلاً. الطلاب الذين يبدأون التعلم من الصف الخامس سيصلون فقط إلى المستوى الأساسي بحلول نهاية المرحلة الثانوية، وسيحتاجون إلى مواصلة الدراسة في الجامعة لاكتساب الكفاءة الكافية.
هذا يعني أن تدريب قوى عاملة متخصصة ومتقنة للغة الصينية في جورجيا سيستغرق 7 إلى 10 سنوات على الأقل، في حين أن الحاجة إلى هؤلاء العاملين تُشعر بها "اليوم". يتزايد عدد المتخصصين والتجار والسياح الصينيين في جورجيا، لكن عدد المواطنين الجورجيين المتقنين للغة الصينية قليل جداً، والطلب يفوق العرض بكثير.
مقارنة مع التوجه الإقليمي
ليست جورجيا وحدها في هذا التوجه. تقريباً جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، خاصة تلك الواقعة على مسار الممر الأوسط والساعية لجذب الاستثمارات والتجارة مع الصين، تعمل بنشاط على إدراج اللغة الصينية في برامجها التعليمية.
روسيا: أضيفت اللغة الصينية إلى امتحان القبول الموحد للجامعات في هذا البلد منذ عام 2019، وتدرس هذه اللغة في أكثر من 100 مدرسة في موسكو. بالمقارنة، تخلفت جورجيا بشدة.
أوزبكستان: أدى تنفيذ مشاريع "الحزام والطريق" الكبرى مثل خط سكة حديد أوزبكستان-قيرغيزستان-الصين إلى نقص حاد في القوى العاملة المتقنة للغة الصينية في هذا البلد. في العام الماضي، كان هناك 0.6 سيرة ذاتية فقط لكل إعلان توظيف يتطلب اللغة الصينية، مما يدل على أزمة خطيرة في هذا المجال. يجد المواطنون الأوزبك المتقنون للصينية وظائف ذات دخل مرتفع بسهولة في بلادهم.
كازاخستان: تتطور أيضاً علاقات كازاخستان مع الصين. تم توقيع اتفاقية تعاون في مجال تعليم اللغة الصينية العام الماضي. يوجد 5 معاهد كونفوشيوس نشطة في هذا البلد، وهناك خطط لإنشاء أقسام للغة الصينية في الجامعات وتقديمها كلغة أجنبية ثانية. تُقام أيضاً العديد من الفعاليات الثقافية لتعزيز اللغة والثقافة الصينية. يدرس حوالي 4000 طالب كازاخستاني في الصين وأكثر من 1000 طالب صيني في كازاخستان، وفرع جامعة بكين للغة والثقافة في أستانا يقوم بتدريب مدرسين ومترجمين للغة الصينية.
بالنظر إلى هذا التوجه الإقليمي والعلاقات المتنامية بين تبليسي وبكين، من المتوقع أن يتشكل تعاون وثيق بين جورجيا والصين في مجال تعزيز تعليم اللغة الصينية.
يمثل إدراج اللغة الصينية في المناهج التعليمية الجورجية استجابة واقعية للمتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية. هذه الخطوة تعكس رؤية استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تهيئة الأجيال القادمة للمشاركة الفعالة في اقتصاد عالمي تزداد فيه أهمية الصين يوماً بعد يوم. رغم التحديات المتمثلة في التأخير الذي شهده تنفيذ هذا البرنامج والحاجة الملحة لسوق العمل، إلا أن الخطوة تضع جورجيا على الطريق الصحيح للاستفادة من الفرص التي توفرها مبادرة الحزام والطريق ومشاريع التنمية الاقتصادية الكبرى التي تقودها الصين في المنطقة. تبقى العبرة في سرعة التنفيذ وتخصيص الموارد الكافية لضمان نجاح هذه المبادرة التعليمية وتحقيق ثمارها المرجوة في المستقبل القريب.
