كاتب وباحث لبناني للوفاق:
التشييع يبرق رسالة وحدة وتلاحم داخلي.. ويعزز فكرة «جبهة المقاومة»
كان سيد شهداء الأُمّة السيد حسن نصر الله قائداً إستثنائياً، صاحب رؤية ثاقبة وإرادة فولاذية، رجلاً لم يساوم على شبر من الأرض، ولم يتردَّد في مواجهة أعتى القوى الاستعمارية. وظلّ، حتى لحظة استشهاده، أميناً على العهد، متمسكاً براية المقاومة. ومثلما منحته جماهير المقاومة حبّها وإيمانها بقيادته، فإنّها تُودِّعه اليوم كونه زعيماً خالداً، سيبقى حاضراً في الوجدان، ومؤثراً في مسار الصراع الذي لمّا ينتهِ بعد. وحول دلالات مشهد تشييعه في بيروت، حاورت صحيفة الوفاق الكاتب والباحث اللبناني الدكتور عبدالله عيسى، وفيما يلي نصّ الحوار:
«إنا على العهد» رسالة وحدوية تعبوية
يرى الدكتور عيسى إنّ تشييع أمينين عامّين لحزب الله، سماحة سيّد شهداء الأُمّة السيّد حسن نصر الله والهاشميّ صفيّ الأُمّة والمقاومة السيد هاشم صفي الدين ليس مجرّد مراسم وداعٍ، بل هو بيان مجتمعيّ وسياسيّ وجهاديّ متكامل ينقل جبهة المقاومة وفي صدارتها حزب الله إلى مقام جديد أسمى وطنيًّا وقوميًّا وإقليميًّا وعالميًّا، يشحذ الهمم ويُعبِّئ الجماهير والقوى، ومن شأنه أن يساهم في حفظ أمانة الصمود الإعجازي الكبير والنجاح في إفشال أهداف العدو، وأن يصون أمانة التضحيات العظيمة، ويليق بمواجهة التحدّيات، وقد أضحى على تماس دوليّ باستخلاص العبر ومراكمة الاقتدار والتأثير، حاملًا مشعل التحرير وبشائر الانتصار لشعب فلسطين وشعوب المقاومة، ويعكس التشييع المُهاب استراتيجيّة الحزب في توظيف الرمزيّة الدينيّة والوطنيّة والأُمميّة لتعزيز شرعيّته محلّيًا وإقليميًا، والتكامل مع مبادئه ورؤيته وأهدافه، بالصدق وبما تستحق، بعيدًا عن الافتعال أو المبالغة.
ويضيف الدكتور عيسى بأن هذا التشييع يبرق رسالة وحدة وتلاحم داخلي، بالحرص على استقرار الجبهة الداخليّة رغم التحدّيات والاستفزازات السياسيّة والاقتصاديّة المتجدّدة، جامعًا أطيافًا متنوّعة تحت شعار «إنّا على العهد»، مؤكّدًا التمسك بمسار المقاومة كخيار، بل كمنهج استراتيجي، مع يقظة دائمة وعناية مسؤولة ببلورة موقع لبنان في النظام الإقليميّ الجديد، بناءً لعامليّ البيئة الجيوستراتيجيّة المحيطة بلبنان، والداخل اللبناني، هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى يرسل رسائل ردع قوية وواضحة للعدو وعملائه، بأنّ المقاومة لا تزال قوية وقادرة على الردّ العنيف والدقيق وخوض المواجهة الصلبة مع أي عدوان، وتأكيد أن «دم الشهداء» هو الوقود الذي يُحرِّك مسيرة المقاومة وشعوبها اليقظة، في لحظة تاريخيّة فاصلة، ضدّ مشروع أنظمة الهيمنة بإرساء شرق أوسط جديد يقوم على الإبادة والتدمير والحصار والتهجير والتوطين؛ مؤكّدًا أن قتل القادة مؤشّر على ضمان يقظة الشعوب أكثر فأكثر، وعلى اليقين بحتمية الوفاء لهم وصناعة الانتصار الحاسم.
ويرى الدكتور عيسى أنّ التشييع يُعزِّز فكرة «جبهة المقاومة» والحاجة إليها، وإعادة إطلاق الإرادات في غرب آسيا على أساس المقاومة والانتصار لإنسانيّة الإنسان وكرامته مرسِّخًا عقيدة «انتصار الدم على السيف» كرمز لاستمرار النضال، مصوِّبًا البوصلة نحو مطلب الدولة الفلسطينيّة على كامل التراب الفلسطينيّ مقابل مسار حلّ الدولتين أو مسار السيطرة الأمنيّة على غزّة وتهجير الضفّة وإعادة الاستيطان إليها. كما يمكن تسجيل أن هذا اليوم يُعدّ يومًا فارقًا في تاريخ المقاومة، نحو استئناف المقاومة الإسلامية وجبهة المقاومة صعودهما في مسارهما البيانيّ العام، لا الجمود أو التراجع؛ وهذا ما كان عليه الأمر عند شهادة كلّ قائد منذ النشأة وإلى اليوم، وإلّا ما معنى الالتزام بشعار «إنّا على العهد»؟!
مشاركة دولية وأممية
ويلفت الدكتور عيسى إلى أنّ مشاركة 79 دولة في التشييع، تشير إلى الموقع الخاص والمكانة الرفيعة لسيد شهداء الأُمّة السيد حسن نصرالله ورفيق دربه وخليفته السيد هاشم صفيّ الدين في عقول وقلوب الملايين من المستضعفين وأهل البصائر على امتداد مناطق مختلفة ومتنوعة من الكرة الأرضيّة. كما يدلّ على المشترك القيميّ العميق تاريخيًّا، بوصفه ملتقى وجدانيّ لتقاطع الحضارات في البُعد الإنسانيّ المكافح للظلم، والمواجه للهيمنة الأميركيّة واستكبارها وللاحتلال الصهيوني وعدوانيّته في أقدس معركة وهي تحرير فلسطين؛ مما يعزّز التضامن مع قضية المقاومة كرمز للتصدّي «للإمبريالية والصهيونيّة». كما يستدل من هذا الحضور ومن محاولات التضييق عليه أيضًا على مكانة الحزب وموقعه في الإلهام المقاوم بوصفه نموذجًا يحتذى. كما يعكس الحضور الدولي الكبير (الرسميّ والشعبيّ) التأثير الإقليميّ والدوليّ والجيوسياسيّ لحزب الله ولجبهة المقاومة العالميّة، ويُرسل رسالة إلى المجتمع الدولي بأن محاولات عزل الحزب فشلت، وأنه لا يزال يحظى بدعمٍ واسع من دول مختلفة. وفي ذلك، كسر لإرادة إفشال التشييع لشهيد الإنسانيّة في مواجهة الإبادة.
ويضيف: يأتي تشييع أمين عام حزب الله سماحة السيّد الشهيد هاشم صفيّ الدين الحافل بالعطاء على مدار عقود مشتركًا في بيروت مع سيّد شهداء الأُمّة مؤنسًا ومستأنسًا وأنيسًا؛ ثمّ تشييعه منفصلًا في اليوم التالي ببلدته دير قانون النهر في جنوب لبنان أمينًا عامًا وعالمًا عاملًا وشاهدًا وشهيدًا، وبذلك تُحترم وصيّته على ما نُقِل من رغبته في اختياره لمكان دفنه الشريف. كما يعزّز هذا التشييع بشكليه المشترك والمنفصل، هُويّة حزب الله بأبعادها المختلفة والتماسك المجتمعيّ بها وحولها، والروح المحليّة الترابيّة والمتواضعة المنفتحة على آفاق الإسلام في رحاب مستضعفي العالم أمام الطغاة والمستكبرين، ويُعمِّق الشرعية والمشروعية في مقاومة الهيمنة والاحتلال، ويربطها بجذورها التاريخيّة، مستحضرًا سير العلماء والشهداء والمجاهدين منذ مئات وآلاف السنين، ويكشف عن قوّة الحاضنة الشعبيّة والارتباط الجغرافيّ والمجتمعيّ المتين بين الحزب وقواعده وبحره الآمن المتماوج بين الناس وفي الأجيال.
عنواناً وحدوياً في حياته كما في مماته
ويشير الدكتور عيسى بأن اختيار مكان دفن سماحته يرمز إلى تجاوز الطائفيّة، وإظهار الوحدة الوطنيّة رغم الاختلافات تحت مظلة المقاومة وخيارها، وهو يُعزِّز صورة بيروت كـ»عاصمة للمقاومة» وليست للصراعات الداخليّة. ويمكن القول في إشارة مجازيّة غير مقصودة باختياره إلى أهميته في الإشارة النضاليّة إلى تجاوز «حلف بغداد» وأشباهه المستجدة في الإتفاقيات الإبراهيميّة وصفقة القرن وإملاءات التطبيع والاستسلام وخيارات التسوية والارتهان لقوى الهيمنة والغرب، فعقارب الزمن اللبناني المقاوم باتت تجسّدها هاتين القامتين، ومعهما هذه الحشود الغفيرة، بل يأتي حضور بغداد في لبنان من بوابة النضال المشترك في إسناد غزّة ولبنان سواء عبر عمليات الحشد الشعبي، أو من خلال الوقفة الشجاعة للمرجعيات الدينيّة والعتبات المقدّسة والشعب العراقي السخيّ، ومع هذه الجماهير المحتشدة حزنًا وغضبًا لا يبقى المجال مباحًا أو متاحًا إلى العودة إلى الوراء، فقد ولّى زمن الهزائم كما حفر سيّد شهداء الأُمّة عميقًا في وجدان شعوب المقاومة والرفض.