”النّفق”
قصة ”النفق” القصيرة التي قرأنا في العدد السابق من الجزء الأول منها، هي قصة رجل نفي إلى مصر، لكنه قرر العودة إلى وطنه غزة بسبب زوجته وابنته اللتين بقيتا في غزة. فيقرر بمساعدة صديقه المرور عبر نفق ترابي هو طريق الاتصال بين حدود غزة وصحراء سيناء. وفي الأعداد السابقة قرأنا جانباً من قصته والمصاعب التي تعرض لها أثناء عبوره النفق، وإليكم بقية القصة:
منعم السعیدي
اتجه نحو اليسار ومع توغله يساراً كانت تضعف الرؤية، وكان عليه ان يعتمد على ملامسة الاشياء حوله فقط ، وكلما زحف جسده باتجاه اليسار كان يجد اتساعا أكبر، فقرر ان يستلقي على ظهره مائلاً على جانبه ليدفع جسده بقدميه، استلقى بصعوبة، وحاول مد جسده في المكان الضيق وأخذ يتلاءم مع حجم المكان ويجر جسده فوق أرض خشنة غير مستوية، ويزحف ببطء بسبب خوفه مما قد ينتظره إذا ابتعد عن فتحة النور، فالنور يعني التنفس وقد تكون العتمة مكاناً للاختناق، هذا ما أفاده به عقله المنهك الذي لم يمنعه إنهاكه من تصوير أبشع الميتات له ليدفعه للتحرك مجازفا بكل ما يتوفر له فلا حل أمامه للخلاص سوى المخاطرة ، أخذ يزحف، وكلما شد عضلاته اكثر شعر بألم أكبر ، استمر بالزحف، الى ان سقط جسده عن حافة صغيرة فزحف على يديه تتبعه قدميه التي جرها حتى صار جسده كله في هذا المكان الجديد الذي تغمره العتمة عن آخره ولكنه يعطيه مجالا للتنفس بسهولة اكثر فاكتشف انه مكان اكثر اتساعا رفع يديه وحركهما فعرف انه لا شيء يحد من حركتهما ثم زحف ووضع يديه على الجدار وبدأ يرفع جسده محاولاً الوقوف ببطء و حذر فاستطاع الوقوف ليتأكد أكثر ان هذا المكان يتسع ليمشي فيه واقفا على قدميه، فقام بشد القماش المربوط حول خصره ليصبح اكثر إحكاما وبقي يحرك يديه يتفقد المكان ويخطو نحو الامام كطفل يتعلم المشي حديثاً .
عدد من الخطوات سارها ليسمع صوت قطرات من المياه تسقط على الأرض تباعاً، أصاخ سمعه نحو صوتها وسار نحوها بلهفة، الى ان لامست يده الرطوبة في الجدار لتسقط القطرات على يده فوضع رأسه تحتها وفتح فمه الظمآن ليشرب قليلا، بلل فمه وقبل ان يرتوي اخذ يغسل يديه ووجهه ليشعر بأن المياه قد غسلت آلامه وخوفه ،وأن روحه بدأت تلامس الحياة من جديد ، يأخذ نفساً عميقاً ويشرب المزيد من ثم يجلس قرب المياه تاركا يديه تحتها وكأنها تمده بالطاقة ليستجمع قوته، أثناء ذلك أخذ ينظر حوله متفقداً المكان بعينيه ينظر الى كافة الجهات حوله ليرى نورا ضئيلا يتسرب من مكان بعيد نسبياً، يمعن النظر أكثر وكلما أمعن كان إدراكه للضوء يصبح أوضح وكأن هذا النور بدأ يكشف له معالم المكان و حدقتاه اللاتي توسعتا بدأتا تريان جدران المكان وحدود النفق و عمقه وطوله بشكل أوضح.
وكأنه لا يصدق ما تراه عيناه نهض وغسل وجهه مجدداً ونظر مرة أخرى فتأكد من مصدر النور ، نهض وسار نحوه بخطى سريعة متلعثمة ، يراوده شعور بالتوقف ، يتوقف لاهثا ثم يجثو على ركبتيه و هو مستمر بالنظر نحو ذلك الشعاع البعيد ، أفكار كثيرة هاجمت رأسه ، أصوات استعادتها ذاكرته ، صوت كان يصرخ باسمه " أحمد ..أحمد" ، أين اختفى ذلك الصوت الذي كان يصرخ باسمي.. نعم أنا أحمد... أحمد ..هذا اسمي، حنى رأسه قليلاً واغمض عينيه ليأتي بالمزيد من ذاكرته ، مستجوبا نفسه يسأل ، لمن كان هذا الصوت ؟ ، أنا أعرفه جيداً ، هذا الصوت ليس غريبا أبداً، إنه موجود في داخلي ، صوت لأحد ما قريب جدا، لمن هذا الصوت ؟ سعيد، أجل انه صوت سعيد، نعم سعيد ابن عمي ..ما الذي حدث يا ترى؟ ماذا حدث؟
جلس على الارض وسط النفق وتذكر وجه سعيد شديد السمرة ، الذي عاش زمناً طويلاً في منزله بعد استشهاد والديه حين كان في بداية شبابه ، وتذكر كيف دخل إليه في ذلك المساء حزيناً بعد أن ضاقت به السبل لإكمال دراسته في مصر ، فقام بمساعدته عن طريق أحد أصدقائه ليدخل إلى مصر بطريقة سرية و يتابع دراسته هناك ، وعاد ليستحضر ذلك الصوت مجددا ...
كان يحذرني من انهيار النفق، عاد الصوت الى ذاكرته مجددا
_"بسرعة يلا بسرعة رح يوقع السقف"
_ " عم حاول.. .روح انت ... روح لا تستناني " ..
_" انتبه! في شرخ بالسقف يلا بسرعة "
_ " أنا جاي... جاي "
لكن السقف انهار فوقه، ولم تساعده سرعته في العبور تحته بسلام ، فقد وعيه لمدة طويلة حتى تحولت ذاكرته إلى مجموعة من الصور يصعب عليه تفسيرها .
هدأ قليلا واستمرت قطرات المياه تصدر صوتا متتالياً ، وكأنها تشوش تفكيره ، فكر بالعودة ليسكتها ، لكن قواه قد انهارت مع ذاكرته .
_"ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ "
يتساءل بفضول مرير ، ويبدأ بطرح الأسئلة على نفسه محرضا إياها على الاستيقاظ
_رفح " .. "كنا في رفح" ..
ينظر حوله رغم ان المكان شديد الظلام ينظر ويتفحصه متسائلا بصوت مسموع " هل لازلنا في رفح؟" .."كيف وصلنا الى هنا؟"
كانت سفينة تقلبها الامواج مثل كلمة بين صفحات كثيرة وكان على السفينة عدد كبير من الشبان الذين يريدون الوصول الى غزة أيضاً، "مروان" ..مروان كان يبحر بهم لقد تذكر.
مروان رجل نحيل أصيب في قدمه في احد الرحلات برصاصة من حراس الصحراء المياه كانت تعلو حولهم والموج يدفع القارب بقوة.. لكن ذلك لم يخفهم ، فقد كان همهم الوحيد هو النجاة من خفر السواحل.
يعود ليتذكر صوت سعيد
_"إنها الطريق الوحيدة أمامنا.. اخفض رأسك ولا تصدر أي صوت" ..
بصمتٍ يقتحمه صوت الموج عبروا نحو الجهة الأخرى من البحر..
ضم يديه على بعضهما و كأنه يرتعش برداً، متذكرا الاستقبال البارد للصحراء يوم نزلوا إليها، كان الهواء يصفر فيها ولا جدار فيها ولا شجرة تقطع عليهم الطريق، مشوا والليل رداء الصحراء الحالك السواد، هموا في السير برغم انغراس أقدامهم في الرمال التي لا تلبث على حالها محمولة بالرياح التي لن يقتفي أثرهم من بعدها في الدرب أحد.
استعاد صوت مروان وهو يحذرهم من الصحراء التي يعرفها جيداً مثل باطن يده لشدة رحلاته فيها أثناء تهريبه أشخاصاً إلى غزة
_"في هذا الجزء تلة صغيرة ترتفع قليلا علينا أن نأوي إليها حتى الصباح كي لا نتعرض لهجوم من وحوش الصحراء، حاولوا ان لا تصدروا صوتاً هنا"
تذكر مشيهم الطويل و المضي في تلك الصحراء متقدمين والرياح تدفع بهم إلى الخلف ...
يُتبع...