الإبادة المستمرة وموقف منظمة الأمم المتحدة
تتمة المنشور في الصفحة 1
الانتهاكات الفاضحة
في السابق، كانت مبادئ ميثاق الأمم المتحدة تُعتبر أهدافا سامية. أما الآن، وبعد عام من الانتهاكات الفاضحة والمستمرة لهذه المبادئ، دون أن تتحمل السلطة المحتلة أدنى عواقب، فإنها لا تبدو أكثر من مجموعة من الأماني غير القابلة للتحقيق.
كان النظام الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني أول ضحايا الإبادة الجماعية والوحشية خلال العام الماضي. في هذا العام، مع ذبح الأطفال والنساء في غزة، ومجزرة الصحفيين، والهجمات المتعمدة على المستشفيات ومراكز الإغاثة، وتدمير المساجد والكنائس والمواقع التاريخية، وتخريب البنى التحتية المدنية... والتي تتمتع جميعها بالحماية الكاملة بموجب القانون الدولي، وُجهت ضربة قاتلة لجسد القانون الإنساني الدولي وأدخلته في غيبوبة.
مع وفاة كل طفل في غزة، تكسرت الأعمدة الراسخة للقوانين الناظمة للسلوك في النزاعات المسلحة، ومع سقوط كل صاروخ وقنبلة على مستشفى أو مركز إغاثة، انهار جزء من سقف القانون الإنساني. الإبادة الجماعية في غزة هي أشد رمز وتجلي للانتهاك الفاضح والمنهجي لحقوق الإنسان.
تجاهل أبسط الحقوق الإنسانية
حق الحياة، كأحد أبسط الحقوق الإنسانية، تم تجاهله تمامًا في هذا العام، وتعرض الشعب الفلسطيني لأبشع أساليب القتل والإبادة. كانت غزة ساحة لانتهاك فاضح ومروع لجميع المعايير الحقوقية والإنسانية في آن واحد.
كل من استطاع النجاة من القصف والرصاص واجه وضعًا أكثر رعبًا نتيجة الحصار الكامل على الغذاء والدواء والرعاية الصحية. إن العدد الكبير من الأطفال والنساء والرجال الذين فقدوا حياتهم بسبب الجوع والمرض ونقص الأدوية الأساسية، يؤكد هذه الحقيقة المؤلمة.
المثير للدهشة أنه خلال هذه الثلاثة عشر شهرًا، بسبب عدم الفعل أو العراقيل التي وضعتها الدول الغربية المدعية لحقوق الإنسان، فشل مجلس حقوق الإنسان حتى في عقد جلسة خاصة لمناقشة حالة حقوق الإنسان في غزة!
الإبادة الجماعية في غزة لها عواقب جدية على مصداقية ومكانة محكمة العدل الدولية كهيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة. حيث تجاهل الكيان الصهيوني بكل وقاحة وبثقة من دعم الولايات المتحدة، ستة أوامر مؤقتة من محكمة العدل الدولية لمنع الإبادة الجماعية وتوفير إمكانية وصول الشعب الغزي إلى المساعدات الإنسانية اللازمة.
الانتهاكات الفاضحة للقانون الإنساني
بالطبع، يطرح السؤال الكبير والمحزن كيف لم تصدر محكمة العدل الدولية حكمًا بوقف العمليات العسكرية للكيان الصهيوني رغم وجود أدلة كافية على وقوع الإبادة الجماعية في غزة، وبدلاً من ذلك اكتفت بدعوة لطيفة لعدم ارتكاب الجنود الصهاينة لجرائم الإبادة؟!
خلال العام الماضي، بالتوازي مع الانتهاكات الفاضحة وغير المسبوقة للقانون الإنساني التي تعتبر جرائم حرب، وقعت أمثلة متعددة من الجرائم ضد الإنسانية والإبادة بشكل مستمر. جميع هذه الأنواع من الجرائم، بالإضافة إلى جريمة "الاعتداء"، تم تجريمها في نظام المحكمة الجنائية الدولية، ورغم عدم عضوية الكيان الصهيوني في المحكمة،
إلا أن هناك آليات ضرورية مثل إحالة القضية من قبل مجلس الأمن أو دخول المدعي العام للمحكمة لملاحقة ومحاكمة قادة الكيان.
الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية
بالإضافة إلى ذلك، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية منذ يناير 2015، قد قبلت صلاحية المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال تسجيل إعلان لدى المحكمة وفقًا للمادة (3) 12 من نظامها الأساسي.
بينما قام المدعي العام للمحكمة في مايو 2024 بطلب إصدار مذكرة توقيف ضد نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لم يتم حتى الآن تحقيق أي تقدم عملي لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم، بل تعرض المدعي العام وقضاة المحكمة لتهديدات وابتزاز صارخ من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بطرق مختلفة.
شكوك حول إرادة الجنائية الدولية
هاجم بايدن، رئيس الولايات المتحدة، شخصيًا المدعي العام للمحكمة بعبارات قاسية، كما تعرض المدعي العام نفسه لتحركات مضايقة من قبل الكيان الصهيوني وملفات موساد ضد نفسه وعائلته. وفي آخر تطور، تم اتهام كريم خان بالتحرش الجنسي بموظفة، بينما يُقال إن هذا هو إجراء قذر من قبل الموساد للضغط على كريم خان والمحكمة الجنائية الدولية.
في الوقت نفسه، استقالت جوليا موتوك، رئيسة القسم الرومانية في المحكمة المسؤولة عن دراسة طلب توقيف نتنياهو وغالانت، من هذا المنصب.
مع ذلك، تتزايد الشكوك حول قدرة أو إرادة المحكمة الجنائية الدولية وأعضائها في مقاومة الضغوط غير المشروعة من الكيان الصهيوني وحلفائها الغربيين، وكذلك حول الحركة الجادة والمتوقعة من قبل غالبية المجتمع الدولي نحو الحفاظ على مصداقية واحترام القانون الدولي ومحاكمة ومعاقبة قادة الكيان الصهيوني.
على مدار العام الماضي، تم تشويه مكانة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ورسالتها الإنسانية استنادًا إلى مبدأ "الحيادية"، الذي يعتبره الكثيرون نوعًا من "اللامبالاة" غير المبررة تجاه الإبادة الجماعية الواضحة للفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقاعس الملحوظ للصليب الأحمر العالمي في الاستجابة للطلبات المتكررة من الجانب الفلسطيني للمساعدة قد أظهر تقصيرًا واضحًا.
إن الاختلاف الواضح في المواقف، بما في ذلك استخدام تعابير وكلمات تثير الشكوك حول تحيز الصليب الأحمر العالمي لصالح الكيان الصهيوني، يثير مخاوف جدية بشأن احتمالية تأثر هذه المنظمة بالنظرة السياسية-الفلسفية للدول الغربية فيما يتعلق بقضية فلسطين. وتعتقد المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين أن الصليب الأحمر العالمي منذ البداية كان يعاني من نوع من التحيز أو على الأقل "تعاطف" غير متوازن لصالح الكيان الصهيوني.
على سبيل المثال، في بيانات الصليب الأحمر العالمي، تم إدانة هجمات حماس على الكيان الصهيوني عدة مرات وتم تقديم طلبات صريحة للإفراج عن "الرهائن" موجهة مباشرة إلى حماس.
في حين أن هذه المنظمة تتجنب بشكل كامل مخاطبة الكيان الصهيوني مباشرة، وتستخدم أفعالًا مجهولة للإشارة إلى أعمال وجرائم الإحتلال، وفي نفس الوقت تستخدم عبارة "المعتقلين" للإشارة إلى الآلاف من الفلسطينيين الذين يتم اعتقالهم غالبًا دون أي توجيه اتهام أو محاكمة، ويُحتجزون تحت أسوأ الظروف في سجون مرعبة كوسيلة للضغط وابتزاز عائلاتهم.
كما يتم استخدام عبارة "جميع الأطراف" بشكل متكرر في بيانات الصليب الأحمر العالمي لطلب إنهاء النزاع أو الالتزام بقواعد القانون الإنساني الدولي.
بينما لا يوجد أي تناسب بين طبيعة وقدرة القتل للكيان الصهيوني كطرف محتَل من جهة، وطبيعة المقاومة وقدرة الطرف الفلسطيني كأمة تحت الاحتلال من جهة أخرى، أو حتى حماس التي تستخدم أبسط الإمكانيات للدفاع عن نفسها.
في هذه الحالة، فإن "المساواة" أو الإيحاء بتساوي الطرفين يوفر غطاءً قانونيًا لتبرير الجرائم الشديدة المرتكبة من قبل الكيان الصهيوني وداعميه الغربيين، مما يكمل نوعًا من الدعاية الإعلامية ضد الشعب الفلسطيني ومجموعات المقاومة.
هنا يجب أن أذكر مؤسستين دوليتين أخريين كان من المتوقع أن تلعبا دورًا حاسمًا لوقف الإبادة الجماعية: منظمة الصحة العالمية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين. كانت ردود فعل منظمة الصحة العالمية، بصفتها الجهة المسؤولة عن الصحة والعلاج على المستوى الدولي، تجاه الهجمات المتعددة والمستمرة من قبل إسرائيل على المستشفيات ومراكز الإغاثة والعاملين في المجال الطبي، وعمليات القتل الوحشية للمرضى والمصابين داخل المستشفيات، ضئيلة وغير فعالة.
المعتدي ومسبب جريمة الحرب
إن رد هذه المنظمة على تدمير مستشفى المعمداني في 26 مهر 1402 (18 أكتوبر 2023) الذي أسفر عن إستشهاد أكثر من 500 مريض وعامل صحي هو مثال صارخ؛ فقد اكتفت منظمة الصحة العالمية بإدانة هذا الهجوم دون أن تشير إلى اسم المعتدي ومسبب جريمة الحرب هذه، أي الإحتلال الاسرائيلي، أو تطالب بوقف هجماتها. كما أن مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين قد اتبعت نفس النهج.
بينما يتابع الاحتلال رسميًا سياسة التهجير القسري لسكان غزة، تنتقد هذه المفوضية حماس وتوجه اللوم إلى المجتمع الدولي لعدم تحركه ضد تهجير الإسرائيليين.
النتيجة هي أن تكرار واستمرار الوحشية والهمجية في فلسطين المحتلة ولبنان قد جعل الكثيرين يشعرون بالخدر واللامبالاة. الضمير البشري، الذي يُعتبر أهم عائق أمام انتشار الشر والشرور، يتعرض لتأثير موجات "التبرير" من قبل مؤيدي الكيان الصهيوني الغربيين، مما يعرضه للخداع الذاتي وإنكار شدة الجرائم.
الآن، خطر ابتذال الشر وعادية الجريمة يهدد الحضارة الإنسانية أكثر من أي وقت مضى. إدوارد هرمان في شرح "ابتذال الشر"، يتحدث عن "تقديم غير المعقول على أنه طبيعي" و"تنفيذ الأعمال الفظيعة" بطريقة منظمة ومنهجية تعتمد على التطبيع.
هذا هو نفس الاتجاه الذي تتحول فيه الأفعال القبيحة والمُذلة والجرائم التي لا يمكن التعبير عنها إلى عمل عادي وتُقبل كأمر معتاد وواقع موجود.
ماذا يجب أن نفعل؟
إذا قبلنا بأن الدول القوية والمهيمنة والمتغطرسة ذات السجلات الاستعمارية والتدخلية هي المستفيدة من الفوضى واللا قانونية على المستوى العالمي، فعلينا تقدير وجود الأمم المتحدة ومبادئها وأهدافها والعمل على حمايتها.
إيران، بصفتها واحدة من 51 دولة مؤسسة للأمم المتحدة، كانت دائمًا مؤمنة بمبادئها وأهدافها وملتزمة بها. على الرغم من جميع الأذى والظلم الذي تعرضنا له من هذه المنظمة تحت تأثير استغلال أعضائها الأقوياء، لم نرفع يومًا يدنا ضد وجه الأمم المتحدة.
نحن، رغم أننا كنا تحت أشد العقوبات من مجلس الأمن، لم نقطع يومًا ميثاق الأمم المتحدة، ولم نقتل قوات حفظ السلام، ولم نهين الأمين العام للأمم المتحدة أو نعتبره عنصرًا غير مرغوب فيه، ولم نُهين المؤسسات والمنظمات التابعة والمتخصصة للأمم المتحدة. بالطبع، لا يُتوقع من الشعب الإيراني، كأمة ذات حضارة ومثقفة ونبيلة ومستشرفة للمستقبل وواعية ومسؤولة وصبورة، إلا ذلك.
العالم بحاجة إلى ائتلاف لوقف شرور وانتهاكات وجرائم الكيان الصهيوني، في الوضع الراهن، يجب على الجميع الحفاظ على الأمم المتحدة ومبادئها وأهدافها الإنسانية وأن يكونوا خائفين من انتهاكها.
لا يجب أن تؤدي شرور وجرائم الكيان الصهيوني الشديدة والمناهضة للإنسانية إلى "ابتذال الشر" و"عادية الشر"، ولا يجب أن تثير الشكوك حول المبادئ الإنسانية والأخلاقية. يجب بدقة تحديد حالات انتهاك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي للمجتمع الدولي، وتوضيح قبح وأفعال الكيان الصهيوني وداعميه ومبرريه للرأي العام. لا ينبغي السماح للجريمة والشر أن يصبحا عاديين، بل أسوأ من ذلك، أن يتحولا إلى قاعدة.
يجب ألا تُعتبر الإجراءات والأفعال المخالفة لمبادئ الميثاق وحقوق الإنسان والقانون الإنساني جزءًا من قواعد ومعايير القانون الدولي. يجب الحفاظ على إنجازات الحضارة البشرية في مجال حقوق الإنسان والقانون الإنساني. يجب على الدول والجهات الفاعلة الأخرى الملتزمة بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية أن تُطلق حملة مشتركة على مستوى الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية لتنفيذ الأوامر المؤقتة لمحكمة العدل الدولية ولوقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين، ودعم قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بشأن اعتقال ومحاكمة قادة الكيان الصهيوني بتهم ارتكاب جرائم تخضع للاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية.
في الوقت نفسه، يجب المطالبة من المؤسسات الدولية مثل الصليب الأحمر العالمي ومنظمة الصحة العالمية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين واليونسكو وغيرها، والسعي لإخراجها من حالة اللامبالاة والجمود تجاه جرائم الكيان الصهيوني. يجب أن نفهمهم أن السكوت أمام إبادة غزة بتفسير محافظ لمفهوم الحياد ليس أمرًا أخلاقيًا. في ظل انتشار الشر في كل مكان، فإن الحياد هو في حد ذاته لامبالاة، واللامبالاة هي شراكة في الشر.
باختصار، يتحمل كل إنسان مسؤولية مواجهة العملية التي تستهدف الإنسانية وكرامة الإنسان.