الإبادة المستمرة وموقف منظمة الأمم المتحدة
الوفاق/ خاص
إسماعيل بقائي
رئيس مركز الدبلوماسية العامة والمتحدث باسم وزارة الخارجية
بالنسبة لي وللكثير من خريجي الحقوق والعلاقات الدولية الذين تستند معرفتنا وتقييمنا للتطورات والأحداث الدولية إلى مفاهيم مثل المبادئ والأهداف الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، والمعايير والقواعد القانونية الدولية، والقواعد الآمرة في القانون الدولي، ومبدأ منع اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدام القوة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كانت هذه الأيام مليئة بالغموض والتناقض الفلسفي - إن لم أقل إنها أيام يائسة للغاية، في الواقع، كل ما قضينا أثمن لحظات حياتنا في تعلمه وتفسيره وتأويله، كان في هذا العام تحت اختبار صعب.
مع مرور عام على بدء مرحلة جديدة من الإبادة في فلسطين المحتلة، وتزامن ذلك مع الذكرى السنوية لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، فإنها فرصة ثمينة للتأمل بصدق في وظيفة هذه المنظمة والمعايير والمؤسسات المنبثقة عنها.
من کان يظن أنه في القرن الحادي والعشرين، بعد 79 عامًا من تأسيس منظمة الأمم المتحدة، یمکن لكيان يعتبر في الواقع أحد أولى نتاجات - بالطبع غير المرغوب فيها والمشؤومة - هذه المنظمة، أن يتحدى بكل وقاحة جميع مبادئها وأهدافها، ويمزق وثيقة تأسيسها كعلامة على عدم الاحترام، ويسمي أمينها العام عنصرًا غير مرغوب فيه ويهينه؟ علاوة على قتل 230 موظفًا شهيدا منها خلال عام واحد، واستخدام مكان الأمانة العامة للمنظمة للتهديد والتخويف؟!
ومن كان يتصور أنه في وقت تجاوز فيه أكثر من عقدين على تأسيس المحكمة الجنائية الدولية - المحكمة التي كان من المقرر أن تضع حدًا للإفلات من العقاب وتمنع ارتكاب الجرائم الدولية - وفي ظل وجود أمل عالمي بوجود المحكمة الجنائية وتجريم أربع جرائم دولية كضمان لمنع تكرارها في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن تتحول أبشع جريمة، وهي الإبادة الجماعية، أمام أعيننا المذهولة إلى أمر عادي، وتستمر حتى اليوم.
لقد أدى تفجیر أجهزة الارسال (البیجر) إلى إثارة الهلع لدى الجميع حول مدى وحشية الإنسان وبدائيته بلا حدود وبدون رحمة، إن تحويل تكنولوجيا الاتصال بين البشر إلى وسيلة للقتل، بقدر ما هو مؤامرة شريرة وغير أخلاقية وغير قابلة للدفاع عنها، يُعتبر بدعة خطيرة جدًا في قاموس الحرب والعداء. كم من الأطفال الأبرياء الذين كانوا يهدفون إلى إرضاء آبائهم بضحكاتهم وحركاتهم الطفولية قد استجابوا بشغف لصوت جهاز "البیجر"، ليتلقوا قبلة من والدهم، لكنهم لم يحصلوا سوى على ألم وعويل ودموع وخوف وأيدي صغيرة مقطوعة بسبب انفجار شيطاني ومثير للاشمئزاز.
في السنة الماضية، أدركنا أن القسوة عندما تترافق مع نرجسية عنصرية وتفوق إيديولوجي، تخلق تعطشاً لا يشبع للقتل والحرق والتدمير، وتولد قدرة غريبة على تبرير الوحشية.
إن عمق الفاجعة الإنسانية، واتساع واستمرار الانتهاكات، ومقدار الوحشية والقتل وحجم الدمار الهائل الذي حدث خلال العام الماضي في غزة والآن في لبنان، لم يوسع فقط حدود همجية الإنسان إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ قسوة البشرية، وعرض مظاهر جديدة من الإبداع والابتكار الشيطاني للإنسان في قتل بني جنسه، بل تسبب أيضا في تحول دلالي وأوجد صورة جديدة وعارية لهذا المفهوم الخطابي الذي تم تشكيله حتى الآن بقلب الواقع حول حضارة إنسانية (أو بالأحرى حضارة غربية) في أذهان شعوب العالم، حضارة أصبحت أكثر وضوحًا بأنها مُصطنعة، وعنصرية، ومتغطرسة، ومبررة للظلم، وخاوية من الإنصاف والعدالة، خاضعة أمام القوة وقاسية أمام المظلومين.
في هذا العام، تم التشكيك في صدق المتشدقين بحقوق الإنسان في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية أكثر من أي وقت مضى خلال الثمانين عامًا الماضية، وأصبح أصالة نظرتهم الواهية إلى حقوق الإنسان أكثر وضوحا.
تصريح يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني الشهير الذي كان يُعرف لفترة طويلة كفيلسوف للأخلاق والسلام والتسامح، في دعمه الصريح للإبادة الجماعية الصهيونية، لم يترك أي شك في هذا المجال.
على الرغم من أن إصدار مثل هذا البيان من قبل هابرماس كان غير متوقع للكثيرين، إلا أن موقفه كان علامة واضحة على وحدة النظرة الفلسفية والسياسية الغربية تجاه "الإنسان غير الغربي" وطبيعة العنصرية والقومية في الفلسفة والسياسة الغربية. بمعنى آخر، فإن بيان هابرماس، رغم كونه تجلياً لانحطاط الأخلاق الغربية، يتماشى تمامًا مع سياسات الحكومة الألمانية لدعم إسرائيل والمشاركة العملية (التسليحية والمالية والسياسية) في قتل الفلسطينيين.
في هذا العام، "استيقظ العالم من نوم الفلسفة القومية الأوروبية". اليوم، نحن مدينون بهذه الحرية لمعاناة شعوب تعاني في فلسطين. الفلسطينيون، بشجاعتهم وتضحياتهم، كشفوا عن همجية الحضارة الغربية. لكن ماذا حدث لمنظمة الأمم المتحدة وأهدافها وآمالها والمؤسسات المنبثقة عنها بسبب الإبادة المستمرة في غزة والاعتداء على لبنان ودول المنطقة الأخرى؟
مكانة الأمم المتحدة تعرضت لتآكل غير مسبوق
على مدار العام الماضي، تم التشكيك بشكل غير مسبوق في مصداقية منظومة الأمم المتحدة بأكملها، وهيكلها ومؤسساتها، والأنظمة والقواعد والمعايير المنبثقة عنها.
لقد تعرضت وظيفة ومكانة منظمة الأمم المتحدة كمنظمة قائمة على مجموعة من المبادئ والأهداف السامية لإحياء المدنية المفقودة نتيجة حربين عالميتين لم يكن لهما مصدر سوى الغرب، والنظام القانوني الدولي المنبثق عن ميثاق الأمم المتحدة لتآكل غير مسبوق.
هذا الأمر واجه كلاً من الكلية ووظيفة المنظومة القانونية الدولية والمؤسسات ما بعد الحرب العالمية بسؤال كبير.
في هذا العام، تم السخرية من مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، ومبدأ منع التهديد أو استخدام القوة، ومبدأ دعم حقوق الإنسان وجميع المعايير والأسس المنبثقة عن هذه المبادئ والأهداف من قبل أحد أعضاء منظمة الأمم المتحدة، بينما ظهر اللاعبون المؤثرون فقط في دور المتفرج أو حتى المؤيد.
استشهاد أكثر من 230 موظفًا للأمم المتحدة
حيث أعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني عن قراره باستخدام القوة والإبادة الجماعية للفلسطينيين والاعتداء على لبنان بشكل وقح غير مسبوق في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهدد الدول الإقليمية باستخدام القوة، وأصدر أوامر الهجوم والاغتيال من مقر الأمم المتحدة.
أهان سفير الكيان الصهيوني الأمين العام للأمم المتحدة ومزق ميثاق الأمم المتحدة كعلامة على عدم احترام المنظمة، ووصف وزير خارجية الكيان الأمين العام للأمم المتحدة بأنه عنصر غير مرغوب فيه، وبالطبع قام العسكريون في الكيان بمهمة إهانة والتقليل من شأن منظمة الأمم المتحدة واستشهد اثر جرائمهم أكثر من 230 موظفًا من موظفي الأمم المتحدة خلال عام واحد.
آخر إجراء في سلسلة إجراءات الكيان المحتل لمحو الفلسطينيين من أرض الآباء والأجداد، هو قرار الكنيست الإسرائيلي بمنع كامل لعمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي يعد بمثابة حرمان الشعب الفلسطيني من الفرصة الوحيدة المتاحة للاستفادة من أبسط حقوق الإنسان.
2