إعلامي وفنّان تشكيلي فلسطيني للوفاق:
البوستر المقاوم يملأ جدران المخيمات الفلسطينية
يلعب الفن التشكيلي دوراً هاماً في خدمة المقاومة الفلسطينية بنقله الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون، إضافة إلى اضطلاعه بدور تعبوي. ولا تكاد تخلو لوحات أي من التشكيليين الفلسطينيين من اللون الأحمر إشارة إلى دماء الشهداء أو الكوفية إشارة إلى الهوية الفلسطينية، وكذا القيد وشجر الصبّار وغيرها مما له صلة مباشرة بمعاناة ذلك الشعب. وقد كان الفنانون الفلسطينيون ولوحاتهم هدفاً للاحتلال، فتعرضوا للاعتقال وصودرت لوحاتهم ومنعوا من السفر لنقل الواقع الأليم للمجتمع العربي والدولي، ولكن ذلك لم يمنع ريشة الفنان الفلسطيني من تسجيل ألوان المعاناة والعذاب للتاريخ، وفي هذا الصدد أجرت صحيفة الوفاق حواراً مع عضو الاتحاد العام للفنانين التعبيريين الفلسطينيين محمود خليلي وفيما يلي نصه:
سهامه مجلسي
ترجمة قضية الشعب الفلسطيني عبر لغة الألوان
يذكر الفنان محمود خليلي: لا يمكن للفنان أن يعيش بمعزل عن شعبه، فكيف إذا كان وطنه محتلاً، هنا تكبر المسؤولية ويزداد اندماجه الحقيقي بقضيته، ويتحتم عليه أن يكون فاعلاً في مؤازرة شعبه وثورته في مسيرة النضال والتحرير..
والفن هو الطريقة التي نبرر بها وجودنا وأداة فاعلة في ظروف الاحتلال والحروب، يقول بيكاسو:(إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف، إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء) وأنا أضيف باستطاعة اللوحة أيضاً أن تكون فاعلة في المواجهة، وليس في الدفاع فقط. ولكل فنان أسلوبه وطريقته في تطويع الألوان والخطوط ليستطيع تحميلها الأفكار والمضامين المناسبة لكل مرحلة، لا أقصد هنا تحميل اللوحة الأفكار المباشرة، باستثناء البوستر السياسي الذي يعتمد الأفكار الواضحة والمباشرة، القابلة للفهم السريع من الإنسان العادي والمختص على حد سواء.. أعود للوحة، فلا يكفي للفنان أن يحمّل اللوحة رسالته للمتلقي بالأفكار والمضامين، وإنما عليه أن يقدم منتجه الإبداعي محملاً أيضاً بقيم جمالية تشكيلية عالية المستوى، فاللوحة تحقق التوازن البنّاء بين الفكرة والجمال.
من جهتي كانت البداية بالألوان المائية، ثم انتقلت لممارسة فن البوستر السياسي عدة سنوات، وبعدها انتقلت للوحة الزيتية، واستقرت تجربتي أخيراً مع معاركة ألوان الأكرليك.. أحاول أن أقدم الموضوع الفلسطيني من جانبيه: الوطني والإنساني.. ومن مراحل تجربتي المختلفة أتوقف عند إحداها: «يوميات وطن تحت الاحتلال» عدة سنوات قدمت فيها مجموعة من اللوحات تجسد الوطن كما أراه، وكانت قريتي المحتلة «الجش» والتي تقع على سفح جبل الجرمق في الجليل الأعلى قرب مدينة صفد، ملهمي الأول.. حاولت أن أقدمها شامخة، بيوتها تطال عنان السماء، تواجه الرياح العاتية، نوافذها المضاءة مضرجة بدماء الشهداء، ثابتة على سفح جبل وجذورها مغروسة في العمق، ولا يمكن النيل منها. وعلى الصعيد الفني حاولت أن أجعل منها آية من الجمال في الصياغات اللونية، التي تجعل من أي مشاهد يعجب بجمالها، ويتمنى زيارتها، هذا المتلقي، فما بالك بابن هذه القرية وصاحب الحق بها.. إنها محاولة بزج كل المواصفات التي تجعلني أزداد تمسكاً بها، ولا أفرط بذرة من ترابها.
الفن التشكيلي الفلسطيني عَكَس قضية الشعب الفلسطيني
وعن قضية الشعب الفلسطيني قال محمود خليلي لم يكن الفنان التشكيلي الفلسطيني في يوم من الأيام هامشياً تجاه قضيته، واكب مسيرة شعبه في الأفراح والأتراح، في الانتصارات والانكسارات، في انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة عام 1965، وفي الانتفاضة الأولى 1987، والثانية عام 2000، وما تلاها من انتفاضات ومواجهات، ونحن نعيش أهمها الآن في ملحمة طوفان الأقصى، وكان خير ممثل لشعبه، في المعارض والملتقيات، وعمل على تثبيت حقه التاريخي بأرضه، مستنداً على التراث الفلسطيني المغرق في القدم منذ آلاف السنين، وما أنتجته الحضارة الكنعانية من تراث ثري في الأزياء الشعبية الفلسطينية المطرزة، وما تحمله من وحدات زخرفية ذات دلالات مرتبطة بعمق الحياة الاجتماعية الفلسطينية وتفاصيلها من عادات وتقاليد، وما يميزها من خصوصية جمالية في التصاميم والألوان. تلك الملابس التي حاول العدو أن ينسبها لنفسه، كما اعتمده لباساً رسمياً لمضيفات شركة طيران العال، على سبيل المثال، لكن محاولاته باءت بالفشل.
الفرق بين الصعوبات التي تواجه التشكيليين الفلسطينيين سابقًا وحاليًا
وهنا يقول خليلي عندما ينتهي الفنان من إنجاز لوحته ويضع توقيعه عليها تصبح ملكاً للناس، ولا قيمة لها وهي أسيرة داخل جدران المراسم، الفن رسالة خطها ولونها الفنان، وما عليه إلا أن يعمل على إيصالها لأصحابها، للناس، في أقرب الأماكن وأبعدها، ولا يدخر جهداً لتحقيق ذلك، هذه العملية ليست فردية، وإنما تحتاج إلى مؤسسات داعمة تفتح قنوات التواصل، وإلى جهات ودول داعية لاستقبال وعرض هذه اللوحات. في السابق كانت توجه لنا الدعوات لإقامة المعارض في العديد من الدول، وشاركنا وأقمنا المعارض في ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفييتي سابقاً، وبولونيا وهلسنكي وقبرص وفينا وجنيف.. والعديد من الدول العربية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية طبعاً.. لكن بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. أغلقت الأبواب أمامنا كفنانين فلسطينيين في سورية، وأصبحت الدعوات توجه لمؤسسات السلطة الفلسطينية في رام الله، التي حرمتنا من الاستفادة منها، ولا أبالغ إن قلت أن نشاطاتنا حالياً تقتصر على المدن السورية، وبعض الدعوات من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تأثير الفن التشكيلي على الجماهير الفلسطينية بتحريضهم على العودة
ويقول خليلي الفن التشكيلي أحد وسائل التحريض، ويجب ان يكون في خدمة المقاومة الفلسطينية، وقد يكون فن البوستر السياسي، وفن الكاريكاتير، الأكثر والأسرع تأثيراً من اللوحة والمنحوتة، وقد نشط البوستر السياسي الفلسطيني في الثلاثين سنة التي تلت انطلاقة الثورة الفلسطينية، كماً ونوعاً، وحقق حضوراً كبيراً في مواكبة النضال، وبتنا نرى البوستر المقاوم يملأ جدران المخيمات الفلسطينية، وظهرت أسماء لفنانين كثر نذكر منهم على سبيل المثال: جمال الأبطح، غازي انعيم، عدا عن اللوحات الكثيرة التي طبعت كبوسترات للعديد من الفنانين كـ إسماعيل شموط وعبد الرحمن المزين وسليمان منصور وغيرهم... وواكب تلك المسيرة فنانون عرب وأجانب قدموا نتاجاتهم في البوستر دعماً للقضية الفلسطينية، من هم من سورية: نذير نبعة وبرهان كركوتلي، ومن سويسرا جهاد منصور، ومن إيطاليا أبو مانو، وفنانون آخرون كثر.. ولأن فن البوستر ينشط في الظروف المتسارعة والأحداث والملتهبة، التي تحتاج التفاعل المباشر مع الناس، نرى حضوره الطاغي في مواكبة ملحمة طوفان الأقصى، ونرى حضوراً لأسماء كثيرة
واكبت الملحمة.
على صعيد فن الكاريكاتير لابد وأن نتوقف عند تجربة الفنان الكبير ناجي العلي، صاحب الـ 40 ألف رسم كاريكاتوري، التي واجهت المحتل والمتخاذلين على حد سواء، وكانت تلك الرسوم بمثابة منشورات سياسية ينتظرها المواطن العربي صباح كل يوم لقراءة الأحداث وواقع الحال. ناجي الذي قالت عنه صحيفة نيويورك تايمز ذات يوم في أحد مانشيتاتها (إذا أردت أن تعرف رأي العرب بأمريكا ما عليك إلا أن تنظر إلى رسومات ناجي العلي) ناجي كان مرشداً للمواطن العربي، دالاً على الحقيقة، محرضاً ومواجهاً
كحد السيف.
مساهمة التشكيليين الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال من خلال الفن
وذكر خليلي لم يتراجع الفنان التشكيلي الفلسطيني ولم ينكسر أمام وحشية العدو، وبقي حاضراً في المشهد الفلسطيني كحضور الطلقة، متأثراً ومستجيباً لنداءات شعبه، ولم تتوقف ريشة الفنان عن معاركة الألوان لتنتج لوحات مقاومة، ولم يتوقف الإزميل عن معاركة الحجر لينتج تماثيلاً للبطولة ونصباً للشهداء.. ولم ترهبه دبابات العدو ولا أسلحته الفتاكة، وبقي وفياً لشعبه يواكب معاناته وبطولاته، ويقارع العدو بسلاحه الإبداعي.. أذكر أنه في الانتفاضة الأولى عام 1987 قاطع العديد من الفنانين التشكيليين البضائع الصهيونية ومنها الألوان وأدوات.
المساندة العالمية لفلسطين
واما عن المساندة فقال خليلي الفنان دائماً بحاجة لقنوات التواصل، وأماكن للعرض. في ملحمة طوفان الأقصى كانت الكثير من ساحات العالم ممتلئة بالجموع المؤيدة للقضية الفلسطينية وكانت الجدران جاهزة لعرض اللوحات الأصلية، والشاشات المنصوبة جاهزة لعرض اللوحات الإلكترونية، إنها الفرصة الذهبية، التقطها الفنانون بسرعة وعرضت اللوحات الفلسطينية بريشة فنانين فلسطينيين وعرب وأجانب، ووقفت اللوحة إلى جانب الأغنية والشريط السينمائي لتحقق عرساً فلسطينياً حقيقياً في الكثير من ساحات العالم.. وعلى الفنان أن يبني على هذه الظاهرة وهذا التضامن بالبحث الدؤوب وابتكار أشكال جديدة لتقف فيها اللوحة موقف المساند الحقيقي لمن حملوا الراية عنا جميعاً، هناك في غزة العزة، في نابلس وطولكرم والخليل وجنين، وفي كل مساحة الوطن المحتل، لمن يسطرون الملاحم اليومية في مواجهة العدو، على طريق النصر والتحرير المؤكد.