خبير تربوي وسياسي لبناني للوفاق:
تكريس ثقافة الهزيمة والتفاهة.. سياسة غربية صهيونية ممنهجة
في عصر تتسارع فيه الأحداث وتتداخل فيه المصالح، تبرز استراتيجية الإلهاء كأحد الأساليب الأكثر استخدامًا من قبل الدول الغربية لتحويل انتباه الدول العربية والإسلامية عن قضاياها الجوهرية، وتحتل هذه الاستراتيجية المرتبة الأولى من بين الاستراتيجيات العشر للتحكم بالشعوب والتي أشار اليها المفكر والفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه (أسلحة صامتة لحروب هادئة ). هذه الاستراتيجية ليست مجرد أداة إعلامية بل هي منهجية متكاملة تهدف إلى إبقاء المجتمعات مشغولة بقضايا ثانوية ومخاوف مصطنعة، مما يعيق قدرتها على التفكير بعمق حول أولوياتها وهمومها الحقيقية. إستراتيجيات الإلهاء قديمة، وفِي التاريخ الحديث تبناها الزعيم النازي «أدولف هتلر» صاحب المقولة الشهيرة «إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر»، وحول هذه الثقافة الإلهائية للمجتمعات العربية حاورت صحيفة الوفاق الخبير التربوي والسياسي اللبناني الدكتور ماجد جابر، وفيما يلي نص الحوار:
الوفاق / خاص
عبير شمص
تجريد الوعي العربي للسيطرة الغربية
يؤكد الدكتور جابر أن سياسة واستراتيجية الإلهاء تهدف إلى تجريد أو تقليل الوعي السياسي لدى الشعوب العربية والإسلامية، وذلك "كي تضع وتنفذ الحكومات الغربية خططها واستراتيجياتها وتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية دون أي مقاومة، كفرض اتفاقيات تجارية أو عسكرية، كما أن هذا التجريد من الوعي يسهم في تعزيز بقاء الأنظمة الحاكمة التي قد تكون متواطئة أو غير قادرة على تلبية احتياجات شعوبها. كما تهدف إلى إبقاء الشعوب في حالة من الخوف والقلق من الأعداء أو من جهات خارجية لتشتيت الإنتباه عن القضايا الداخلية عبر تعزيز فكرة وجود تهديدات خارجية، مثل الإرهاب أو الصراعات الإقليمية، إذ يتم إشغال الناس بمخاوف وهمية في أغلب الأحيان، لمنعهم من التركيز على مشكلات مثل الفقر والبطالة والحقوق السياسية والاجتماعية، مما يتيح للحكومات تمرير سياسات قمعية دون مساءلة. ومن الأهداف المرسومة لهذه السياسة تكمن في تعزيز الثقافة الاستهلاكية لدى الشعوب لتحويل اهتمامها عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية، إذ تقوم الدول الغربية بالترويج لمنتجاتها بشكل مستمر، مما يُعزز من انشغال الأفراد بالاستثمارات في الكماليات بدلاً من التفكير في قضايا التنمية الحقيقية. هذا الأمر يُساهم في تعزيز الاعتماد على الآخرين، ويُقلل من قدرة المجتمعات على تحقيق استقلالها الاقتصادي. كما تعمل استراتيجية الإلهاء على إحداث انقسامات داخل المجتمعات عبر التركيز على قضايا مثل الهوية والتمييز، مما يُعزز الانشغال بالمشاكل الداخلية، وتآكل الوحدة الوطنية ويصعّب على المجتمعات مواجهة التحديات المشتركة، هذا فضلاً عن استخدم وسائل الإعلام لتوجيه النقاشات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجادة نحو مواضيع تافهة أو مثيرة للجدل. كما تتوخى الدول الغربية عبرها فرض ثقافتها وقيمها لتقويض الهوية الثقافية للدول العربية والإسلامية، وذلك لإضعاف الروابط الاجتماعية وجعل المجتمعات أكثر عرضة للتأثر بالثقافات الأجنبية، هذا إلى جانب تأجيل وتعطيل الإصلاحات الداخلية لإتاحة المجال للأنظمة الحاكمة التابعة لها بالاستمرار في سياساتها، وتعزيز الفجوة الاقتصادية لهذه المجتمعات عبر تركيز انتباهها على الاستهلاك والترفيه، وحرمان المواطنين من التفكير في كيفية تحسين أوضاعهم الاقتصادية وتطوير بُنى اقتصادية مستقلة. كما تهدف هذه السياسة إلى التأثير على كيفية تشكيل السياسة الخارجية للدول العربية والإسلامية كي تتجاهل مصالحها الاستراتيجية في العلاقات الدولية، إلى جانب استغلال مواردها الطبيعية دون مقاومة أو رقابة فعالة لمنعها من تحقيق التنمية المستدامة، إلى جانب تأجيج النزاعات والانقسامات الداخلية عبر خلق مشاكل وهمية أو تضخيم بعض القضايا الاجتماعية، وكذلك إلى إضعاف المؤسسات المدنية لتقليل قدرة المجتمع المدني على التعبير عن قضاياه والمطالبة بحقوقه، مما يسمح للأنظمة الحاكمة بإدارة الأمور دون رقابة، إذ يشير نعوم تشومسكي في هذا الصدد على أن سياسة الإلهاء هي عمل لإبقاء "الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، من دون وقت للتفكير، للعودة إلى المزرعة مثل الحيوانات الأخرى"".
نشر ثقافة التفاهة والاستهلاك
تعتمد الدول الغربية لا سيّما الولايات المتحدة الأميركية وحكومات الدول العربية أو الإسلامية الخاضعة لها على العديد من الوسائل لتنفيذ سياسة الإلهاء كجزء من استراتيجيتها الأوسع في المنطقة لتحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة والتغييرات الحاسمة، عبر تقنية الطوفان أو غمر المشتّتات المستمرة والمعلومات غير المهمة، لا سيّما عبر وسائل الإعلام الموجّه ووسائل التواصل الاجتماعي إذ تُستخدم الأخبار السطحية والمثيرة لتشتيت انتباه الجمهور، وفق الدكتور جابر، فتُركز بعض القنوات ومنصات التواصل على الفضائح والأحداث الترفيهية بدلاً من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة. على سبيل المثال، نجد أن القنوات الإخبارية الغربية أو الأنظمة التابعة لها، المنتشرة كالفطريات، غالبًا ما تُبرز قصصًا تافهة عن مشاهير أو أحداث رياضية، ما يساهم في صرف الانتباه عن قضايا مثل الفقر والبطالة، وكذلك تعزيز الثقافة الاستهلاكية عبر الترويج والبرامج للمنتجات الغربية، لإشغال الناس في عالم الموضة والكماليات، هذا إلى جانب أسلوب تأجيج المخاوف من التهديدات الخارجية وترويج نظرية المؤامرة، فضلًا عن استغلال الأحداث الرياضية الكبرى مثل كأس العالم أو الألعاب الأولمبية كوسائل فعالة لصرف وتشتيت وحرف الإنتباه عن القضايا الداخلية، وتسليط الضوء على القضايا الهامشية، والتحكم في المعلومات المتداولة حول القضايا الحساسة، والتدخل في المناهج التعليمية للدول، وكذلك العمل على نشر الشائعات وتزوير الواقع عبر دوائر المخابرات ووسائل الإعلام ومنظمات في المجتمع المدني لتشتيت الانتباه ولإحداث انقسامات داخل المجتمع".
تراجع الاهتمام بالقضايا الضرورية للمواطن
يعتبر الدكتور جابر أن :"مؤشرات نجاح سياسة الإلهاء التي تُمارسها بعض الدول الغربية تجاه الدول العربية والإسلامية يُمكن أن تتكشف عبر رصد الانخفاض الملحوظ في الوعي الاجتماعي والسياسي بين الأفراد، وزيادة الانشغال بالمحتوى الترفيهي وبالتفاهات، والتوجه نحو الاستهلاك الرقمي مثل زيادة استخدام التطبيقات والألعاب الإلكترونية كوسيلة للهروب من القضايا الحقيقية، وتراجع المناقشات والمداولات الفكرية حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية الحرجة، فضلًا عن تزايد الاستهلاك المفرط للسلع عبر تعزيز فكرة النجاح المرتبطة بالقدرة على الشراء، وازدياد الانقسامات الاجتماعية، وتزايد الانعزالية للأفراد وتراجع الاهتمام بالحقوق المدنية".
استراتيجية غربية في تحييد العقل العربي عن قضاياه المركزية
تُعتبر استراتيجية الإلهاء أداة فعالة تستخدمها الدول الغربية، وغالبًا بالتعاون مع قوى صهيونية، لتوجيه انتباه المجتمعات العربية والإسلامية بعيدًا عن قضاياها الجوهرية، وإشغالها بقضايا تافهة ومخاوف مصطنعة، تهدف إلى تحييد العقل العربي، وخلق قضايا وصراعات جانبية تؤثر على التفكير النقدي، ويؤكد الدكتور جابر بأن هذه الدول الغربية تسعى إلى تعزيز صورة نمطية سلبية عن المجتمعات العربية والإسلامية، مما يُشغلها في الدفاع عن نفسها عبر تعزيز صور الإرهاب والتطرف، تُجبر هذه المجتمعات على التركيز على مكافحة هذه الصور بدلاً من معالجة قضاياها الداخلية، الاجتماعية والتنموية، وفي استخدام وتسليط الضوء على النزاعات الداخلية، سواء كانت سياسية أو دينية، كوسيلة لصرف الانتباه عن القضايا الأساسية عبر إحداث الفوضى وتعزيز الانقسامات، والصراعات الداخلية، لإعاقة توحيد الجهود نحو القضايا المشتركة. تبرز السياسة الغربية وصهيونية الممنهجة عبر التحكم في الرواية الإعلامية العالمية عبر وسائل الإعلام الكبرى والتلاعب بالخطاب الإعلامي واعتماد التغطية الانتقائية للأحداث بما يخدم السردية الغربية وتضليل الرأي العام في تضخيم الأزمات المحلية، وتعزيز الفوضى السياسية للدول مثل الاحتجاجات أو الاضطرابات، بشكل يُظهر المجتمعات العربية والإسلامية غير مستقرة وغير قادرة على إدارة شؤونها، إذ تُبرز هذه القوى الغربية القضايا التي تخدم مصالحها، بينما تُهمل القضايا التي تُعزز من حقوق المجتمعات العربية. كما تدأب على ترويج الفوضى لتعزيز هيمنتها، وجهود إعادة تشكيل الهوية الثقافية عبر ترويج القيم الغربية، لإبعاد المجتمعات العربية والإسلامية عن قيمها وتقاليدها الأصلية ومعتقداتها. لبنان على سبيل المثال يتعرض لعواصف مستمرة من تشتيت العقل وحرفه عن مكامن الخلل والخطر الحقيقي، وأهمها الممارسات الغربية لتشويه صورة المقاومة وشرعيتها في حرب تموز في العام 2006، وتُستتبع حاليًا في الحرب الهمجية التي يشنها الكيان الصهيوني في لبنان".
دور النخب الإعلامية والثقافية المحلية
يُشير الدكتور جابر بأن: "النُخب الإعلامية والثقافية تلعب دورًا مهمًا في دول العالم الثالث لمواجهة سياسة الإلهاء التي تمارسها القوى الخارجية. ومع ذلك، يتفاوت نجاحها وتأثيرها بناءً على عدة عوامل، منها تعزيز الوعي الاجتماعي والسياسي عبر التثقيف والإعلام حول القضايا الجوهرية التي تهم الشعوب، وتقديم محتوى تحليليا وتثقيفيا يساهم في فهم الأحداث بشكل أعمق، وفي تحفيز النقاشات العامة والمبادرات الثقافية عبر تنظيم الندوات والفعاليات الثقافية لتشجع الأفراد على التفكير في قضاياهم الحقيقية. كما يتوجب على النخب الإعلامية والثقافية مهام مواجهة المعلومات المضللة عبر تحسين جودة المحتوى الإعلامي ورفع مستوى جودة الأخبار والمعلومات المقدمة للجمهور، وتوعيته وتعزيز مهارات التحليل والتفكير النقدي لديه عبر برامج تعليمية وورش عمل، فضلًا عن ضرورة بذل الجهود في تعزيز الهوية الثقافية عبر إبراز القيم المشتركة، وتعزيز الهوية الوطنية عبر الفنون والأدب، لتقوية شعور الانتماء والتضامن بين أفراد المجتمع، وكذلك مواجهة الانقسامات الاجتماعية وفي تعزيز الحوار بين الفئات المختلفة في المجتمع، لبناء مجتمع متماسك أكثر وعيًا وقدرة على مواجهة التحديات، مما يُعزز من فرص تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. ولكن للأسف هناك بعض النخب العربية تعمل لصالح الغرب ويتجلى ذلك بوضوح عبر توجيه الخطاب الإعلامي الذي يحقق ويخدم مصالح الحكومات، وفي إلهاء الجمهور عن القضايا الجوهرية عن طريق تسليط الضوء على قضايا جانبية أو أحداث ترفيهية، وكذلك عبر إنتاج محتوى ثقافي متحيز يدعم الروايات الرسمية لتعزيز السلطة القائمة عبر الفنون، والأدب، وحتى التعليم، وفي بعض الحالات، تُستخدم الثقافة كوسيلة لتلميع صورة الحكومة أو تعزيز الانقسام بين الفئات المختلفة، فضلًا عن ترويج الأحداث الزائفة وهو حدث يتم تنظيمه وتقديمه لعامة الناس بطريقة تجعلهم يرونه حدثاً ذا أهمية كبيرة ".
تغيير العقل الجمعي إلى عقل فردي مصلحي
يعتبر الدكتور جابر أن سياسة الإلهاء تهدف إلى تغيير العقل الجمعي للمواطنين نحو عقل فردي مصلحي، وتتمثل آلية هذا التحويل من العقل الجمعي إلى الفردي عبر تسليط الضوء على القضايا الفردية مثل قصص النجاح الفردية أو التحديات الشخصية، والترويج للقيم الفردية عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام التي تُعد أدوات فعالة لتعزيز الثقافة الفردية وعبر الإعلانات والدعايات، مما يُشغل الناس عن القضايا الجماعية، وعبر تحفيز التنافسية بين الأفراد بدلًا من التضامن، مما يُعزز من عقلية "كل واحد لنفسه"، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع روح الجماعة، وتفكيك الروابط الاجتماعية، وتغيير الأولويات الاجتماعية، وإبعاد الأفراد عن القضايا الجوهرية مثل حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، وفي إضعاف المشاركة السياسية والاجتماعية لدى المواطنين لانشغالهم بمصالحهم الشخصية" .