رمز للصمود والإرادة الصلبة التي لا تنكسر
حتى الحجر يأبى إلاّ أن يكون مقاوماً
الوفاق/ خاص
د. رُلى فرحات
تتسارع اليوم في العالم الأحداث وتتعاظم فيه التحديات، والإنسان يبقى مستمرّاً بالبحث عن معاني العزيمة وأسس الإرادة ليسطر أجمل آيات الصمود. ومن بين هذه المعاني تبرز قصة الحجر الفلسطيني الذي يقف شامخاً في وجه الإحتلال، متحديّاً آلة القمع والقتل والخراب والتدمير.
كيف يمكن لحجر أن يكون رمزاً للمقاومة؟ وكيف يمكن لهذا الحجر الصّلب أن يحُرك مشاعر الملايين ويجعلهم يؤمنون بقضية عادلة مُحقّة، لا يختلف فيها إنسان عاقل ذو ضمير!؟ دعونا نتأمل في هذا المشهد الذي ينسج خيوط الأمل ومدى بطولات التحدي في آنٍ واحد.
إنّ الحديث عن الحجر الفلسطيني هو في الحقيقة حديث عن الإنسان الفلسطيني. فمنذ عقود طويلة، يعيش الشعب الفلسطيني تحت وطأة الإحتلال الصّهيوني الغاشم، هذا الكيان الغاصب الذي لم يُرهب يوماً الشعب الفلسطيني أو يدفعه للإستسلام. بل على العكس، وجد هذا الشعب الفريد في صموده وعزيمته في كل زاوية من زوايا وطنه المحتل أداة للنضال والمقاومة. والحجر هو أحد هذه الأدوات التي تجسد روح الصمود والتحدي.
يتحول الحجر إلى سلاحٍ في يد الطفل الفلسطيني والشاب الفلسطيني والأنثى الفلسطينيّة والكهل الفلسطيني، في وجه جنود الإحتلال المدججين بشتّى أنواع الأسلحة الحديثة والمدعومين من كل الدول العظمى في العالم. و أضحى هذا الحجر رمزاً للصمود والتّحدي ، متجاوزاً في هذه اللحظات كونه مجرد قطعة صخريّة صامتة ليصبح رمزاً للمقاومة والإرادة الحرة.
إن الحجر الذي يستخدمه الفلسطينيون في مواجهتهم مع الاحتلال ليس مجرد أداة دفاعية هزيلة وضعيفة، بل هو تجسيد لمعاني
العزة والكرامة.
إنه رمز للصمود والإرادة الصلبة التي لا تنكسر. وإن استخدام الحجر في مواجهة الاحتلال ليس مجرد رد فعل عفوي، بل هو يحمل رسالة واضحة لكل من يسعى لفهمها. فعندما يرفع الفلسطيني الحجر ويلقيه نحو جندي الإحتلال، فإنه يُعبّر بذلك عن رفضه للظلم والقمع، وينطقُ بكلمة الحق، رافض للإستسلام والذّل.
إنهّ يصرخ فيقول للعالم إنّ الحق لا يموت، وإن الإرادة الحرّة لا يُمكن قهرها. الحجر هذا الجماد في المادة هو فعل رمزي يحمل في طيّاته الكثير من البلاغة في المعنى رغم عدم تفوهه بحرف واحد.
في الأساطير القديمة، كان الحجر يعتبر رمزاً للقوة والثبات. وفي الثقافة الفلسطينية، أخذ الحجر هذا الرمز وأضفى عليه بعداً جديداً، حيث أصبح يعبر عن المقاومة والصمود في وجه الاحتلال.
على مر التاريخ، كانت المقاومة دائماً تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من الكفاح المسلح وصولاً إلى المقاومة السلميّة. وفي الحالة الفلسطينية، نجد أن الحجر قد لعب دوراً محورياًّ في هذه المقاومة.
إنه يعكس روح الإبداع في استخدام الموارد المتاحة للدفاع عن الحقوق والأرض. ففي ظل الحصار المـُحكم من الجيران والإخوان والأقران وما بعدهم وغياب الأسلحة المتطورة، كان الحجر هو الوسيلة التي يمكن للفلسطينيين إستخدامها للتعبير عن رفضهم للإحتلال ومقاومتهم له.
هذا الإستخدام البسيط للحجر يحمل في طياته بعداً فلسفيّاً وطنيّاً روحيّاً، يُترجم برسالة قوية، وهي أن المقاومة ليست بحاجة إلى أسلحة متطورة لتكون فعّالة، بل هي بحاجة إلى إرادة صلبة وعزيمة لا تلين وإيمان قوي بأحقية الحق في الأرض والعرض والوطن.
تاريخياً، لعب الحجر دوراً مهماً في الكثير من الثقافات كرمز للقوة والإستمرارية. في فلسطين، أخذ الحجر بعداً إضافياً ليصبح جزءاً من الهويّة الوطنيّة والنضاليّة.
إن الحجر الذي يلتقطه الطفل أو الشاب الفلسطيني من الأرض ويرميه باتجاه جندي مدجج بمختلف أنواع السلاح، وعلى الدّبابات والجّرافات الصهيونيّة الغاصبة، هو في الواقع تعبير عن التحدي والرفض لكل أشكال الظلم والإستبداد. إنه إعلان واضح بأن الشعب الفلسطيني، رغم كل الصعوبات، متمسك بحقه في أرضه وحريته منذ يوم النّكبة 15 أيّار/مايو عام 1948، ذاك اليوم الذي يحمل في طياته ذكرى الآلام والقتل والجوع والتّهجير القسري، حيث نزح مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم وأراضيهم، ودمّر الكيان الصهيوني الغاشم قرى بأكملها وهجّر وقتل من فيها... لكنّ هذا الفلسطيني العنيد أخذ معه مفتاح الدّار ومازال يحتفظ به ويورّثه لأبنائه ولأحفاده بعد مرور أكثر من 76 سنة.
الحجر الفلسطيني لم يكن مجرد أداة دفاعية في الإنتفاضات الفلسطينيّة، بل أصبح رمزاً ثقافياً يعبّر عن تاريخ طويل من النضال. في الشعر والأدب الفلسطيني، في الموسيقى والغناء والأناشيد، تجد أن الحجر يرمز إلى العزة والكرامة، ويظهر في الكثير من الأعمال الأدبية كرمز للتحدي والصمود. فالكاتب والشاعر الفلسطيني يستخدم الحجر كرمز لتجسيد قوة الإنسان وإرادته في مواجهة القهر والظلم وإصراره أنّ الأرض له وعنده كامل الحق في "العودة".
بعد إنتصار القوات البريطانية على تركيا في الحرب العالمية الأولى بقيادة الجنرال «ألنبي» دخلت فلسطين عام 1917 تحت الإنتداب البريطاني حتى عام 1948، حيث انسحبت مفسحة المجال أمام اليهود لإقامة دولتهم في فلسطين التي سميّت "إسرائيل" (لن ندخل في تفاصيل وعد بيلفور وما قبله وما تبعه).
بدأت الإنتفاضة يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، وكان ذلك في جباليا، في قطاع غزة. كانت شرارة إندلاعها دخول زعيم المعارضة الصهيونية آنذاك أرئيل شارون إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه، الأمر الذي دفع جموع المصلين إلى التجمهر ومحاولة التصدي له، فكان من نتائجه إندلاع أول أعمال العنف في هذه الإنتفاضة ، التي خفّت وطأتها عام 1991 وانتهت عند عقد اتفاقية أوسلو عام 1993.
يعود سبب الشرارة الأولى للإنتفاضة لقيام سائق شاحنة صهيوني بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز "إريز"، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية منذ سنة 1948.
شهيد أطفال الحجارة
فارس فايق عيسى حمدان عودة (3ديسمبر 1985 – 8 نوفمبر 2000) ، طفل فلسطيني قتله جيش الإحتلال الصهيوني قرب معبر المنطار (حاجز كارني) شرق قطاع غزة بينما كان يرمي الحجارة خلال الشهر الثاني من الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، ويُذكر بكونه تصدى لدبابة صهيونية بحجارته الصغيرة وأثارت هذه الصورة المجتمع الدولي وتصدرت صفحات الصحف...
الإنتفاضة الأولى التي بدأت في عام 1987، كانت نقطة تحول كبيرة في تاريخ المقاومة الفلسطينيّة. كانت عبارة عن ثورة شعبيّة واسعة النطاق شارك فيها جميع فئات المجتمع الفلسطيني، من الأطفال إلى الشيوخ، من الذكور والإناث. الحجر كان سلاح الإنتفاضة البسيط لكنّه فعال. هذا الحجر أصبح رمزاً للثورة والنضال، وصورة الطفل الذي يرمي الحجر أصبحت أيقونة للمقاومة الفلسطينية.
الحجر ليس فقط أداة في يد الشباب، بل هو أيضاً رمز يستخدم في الفنون البصرية والنحت. الكثير من الفنانين الفلسطينيين يستخدمون الحجر في أعمالهم للتعبير عن القوة والصمود. المنحوتات الحجرية واللوحات التي تصور مشاهد من المقاومة، تساهم في إبقاء الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني حية. هذه الأعمال الفنية تساهم في تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ فكرة أن المقاومة جزء لا يتجزأ من الكينونة الفلسطينيّة.
وفي الوقت نفسه، نرى كيف أن الحجر يُستخدم في التظاهرات والإحتجاجات ليس فقط في فلسطين، بل في أماكن أخرى من العالم كتعبير عن رفض الظلم والقمع. من خلال مشاهدة التظاهرات التي تحمل فيها الحجارة كشكل من أشكال الاحتجاج، يمكننا أن ندرك مدى تأثير المقاومة الفلسطينيّة على حركات التحرر العالميّة. الحجر أصبح رمزاً عالمياً للمقاومة الشعبيّة ضد الإحتلال والظلم والاستبداد.
علاوة على ذلك، فإن استخدام الحجر يعكس فلسفة المقاومة الشعبيّة التي تعتمد على البساطة والإبداع في مواجهة قوى متفوقة من حيث العتاد والتكنولوجيا والحشد الدولي والدعم والمساندة الدائمة وعلى كافّة الصّعد. في هذا السياق، يبرز الحجر كأداة يمكن لأي شخص إستخدامها، مما يجعل المقاومة فعلاً جماعياً يمكن أن يشارك فيه الجميع بغض النظر عن أعمارهم أو قدراتهم. إن هذا الطابع الجماهيري للمقاومة يعزز الوحدة والتلاحم بين أفراد الشعب الفلسطيني، ويؤكد على أن المقاومة ليست حكراً على النخب أو الفصائل المسلحة، بل هي حق وواجب لكل فلسطيني، كلّ بقدر قدراته وإمكانياته.
وعلى الرغم من كل الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون، فإنهم يواصلون إستخدام الحجر كرمز للمقاومة. في كل مرة يرمي فيها طفل أو شاب حجراً على أحد جنود الإحتلال، يتجدد الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني بأن الحريّة قادمة لا محالة. هذا الأمل يتجسد في الإرادة الصّلبة التي لا تنكسر، والتي تتحدى كل محاولات القمع والإبادة.
أحد أبرز الأمثلة على صمود الشعب الفلسطيني هو أحداث الأقصى عام 2000، المعروفة بإسم الانتفاضة الثانية. كان الحجر أيضاً أداة مركزيّة في هذه الإنتفاضة، حيث شهدت مواجهات يوميّة بين الشبان الفلسطينيين وجنود الإحتلال الصهيوني الغاصب. هذه الإنتفاضة كانت رمزاً لعدم قبول الشعب الفلسطيني بأي حلّ لا يضمن حقوقه الكاملة في أرضه، وظهر الحجر مرة أخرى كرمز للصّمود والتحدّي والنّضال المستمر.
في السياق الإجتماعي، يعكس إستخدام الحجر التلاحم الأسري والمجتمعي في فلسطين. في كل مواجهة، ترى أفراد العائلة يتكاتفون معاً، يدعمون بعضهم البعض في وجه الإعتقالات والإعتداءات. هذا التلاحم يُعطي للحجر بُعداً إنسانياً يعبّر عن الرّوح الجماعيّة للشعب الفلسطيني، ورفضهم القاطع لكل أشكال الظلم والإحتلال. وفي المجال التّعليمي، نرى أن الحجارة أصبحت جزءاً من الذّاكرة الجماعيّة للأجيال الشّابة. في المدارس والمناهج التعليميّة، يتم تدريس تاريخ النّضال الفلسطيني وإستخدام الحجارة كرمز للمقاومة.
هذا التّعليم يغرس في نفوس الأطفال والشباب قيم الصّمود والإصرار على الحقوق، ويعزز فهمهم العميق لتاريخهم وهويتهم. من ناحية ثانية نرى هذا الأمر واضحاً وجليّاً في فلسطين الإنتشار وليس فقط في داخل فلسطين المحتلة.
وفي المجال الديني، يظهر الحجر في الكثير من النصوص والرموز الدينيّة كرمز للصّمود والتمسك بالأرض. في الإسلام، يُعتبر المسجد الأقصى رمزاً مقدساً، وحوله تدور الكثير من الحكايات والنصوص التي تُعزز من مكانة الحجر في الصمود والمقاومة. هذه النّصوص تعطي للحجر بُعداً روحياً يجعل منه رمزاً مقدساً في النّضال من أجل الحق والعدالة وضمانة حق العودة.
وعليــــــــــه، يُمكننا القول إن الحجر الفلسطيني هو في ظاهره قطعة صخرية تُستخدم في المواجهة. وفي جوهره وأبعاده السّياسيّة والإجتماعيّة والتربويّة والثقافيّة المجتمعيّة والأسريّة هو رمز للمقاومة والصمود، وتجسيد لمعاني العزة والكرامة.
من خلال هذا الحجر الصّغير الذي يصل صوته إلى كل أرجاء المعمورة، يُعبّر الفلسطينيون عن رفضهم للإحتلال وعن إيمانهم بحقهم في الأرض وفي الحريّة والإستقلال والعيش بسلام.
إن قصة الحجر الفلسطيني هي قصة الإنسان الذي يرفض الظلم ويقاومه بكل ما أوتي من قوة، وهي قصة الأمل الذي لا يموت والإرادة التي لا تنكسر.
إنّه يحمل في طياته رسالة قويّة للعالم بأسره يُذكّرُنا بأنّ النّضال من أجل الحرية هو حق مشروع عربيّاً وغربيّاً، وأن كل شعب له الحق في مقاومة الظّلم والقمع. هذه الرسالة هي التي تجعل من الحجر الفلسطيني رمزاً عالمياً للمقاومة، وتجعل من القضية الفلسطينية قضية إنسانيّة عادلة تحظى بتضامن ودعم الملايين من الأحرار حول العالم، وهكذا يأبى الحجر الفلسطيني إلّا أن يكون مقاوماً.