رئيس ملتقى النجف الأشرف الثقافي للوفاق:
زيارة الأربعين فرصة لتوحيد طاقات المقاومين والثوّار في العالم
زيارة الأربعين شعيرة عظيمة لا نظير لها في العالم، والأسباب التي تقف وراء عظمة هذه الشعيرة المقدسة كثيرة؛ لكن أكثرها تأثيراً هو قدرتها على مسايرة التطور والنمو الحضاري المعاصر، حيث يمارس الزوّار مراسيم هذه الشعيرة بما يتوافق مع حداثة العقل والفكر والسلوك، والهدف من ذلك هو تطوير الإنسان عقلاً وتفكيراً وسلوكاً. يقترن بأداء هذه الشعائر الكثير من الأهداف، أهمّها وأوّلها تصاعد الوعي، وفهم القضية الحسينية بحذافيرها، ومن ثم إدراك العمق الحقيقي للنهضة الحسينية، وتوظيفها لصالح بناء الشخصية والمجتمع معاً، لأن القيم والمبادئ التي قامت عليها عاشوراء سعت ولا تزال تسعى إلى تنقية العقل البشري من الشوائب الفكرية القديمة، وجعل المعاصرة والتحضر قرينا ملاصقا لهذه النهضة، حيث تتم تنقية الأفكار من الجوانب السلبية التي قد تعلق بها كالتعصب والتطرف والكراهية وغيرها من الأفكار السوداوية التي لا تليق بالإنسان. وفي هذا الصدد، أجرت صحيفة الوفاق حواراً مع سيد أحمدرضا المؤمن رئيس ملتقى النجف الأشرف الثقافي، فيما يلي نصه:
الوفاق/ خاص
سهامه مجلسي
المسيرة الأربعينية.. تاريخ طويل
في البداية، يشرح لنا السيد المؤمن بأن مسيرة الأربعين بدأت مباشرة بعد إستشهاد الإمام الحسين(ع) عندما كان يحرص المسلمين على زيارة قبره الشريف في كربلاء المقدسة سراً بعيداً عن عيون السلطات الظالمة آنذاك. ورغم المنع والعقوبات القاسية التي فرضتها السلطات الأموية والعباسية إلا أن الزيارة إستمرت وكبرت؛ لكن الزيارة بشكلها الحالي المنظم والعلني حصلت في القرون المتأخرة حيث بدأ الزوار ينطلقون كل عام في شهر صفر بالتزامن مع أربعينية إستشهاد الإمام الحسين(ع) من مدينة النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة على شكل مجاميع وأحياناً بشكل إنفرادي، وتطورت هذه الشعيرة الحسينية حتى تأسست المواكب الخدمية الخاصة بها واصبحت شعيرة المشي إلى كربلاء المقدسة مصدراً لقلق سلطات النظام البائد والشيوعيين فقرر الرئيس الرابع لجمهورية العراق أحمد حسن البكر عام ١٩٧٧ منع إنطلاقها، وهدد أصحاب المواكب والمشاة بالسجن والإعتقال في حال المخالفة؛ لكن أهالي النجف الأشرف كان لهم رأي آخر، فقد انطلقت الجماهير الحسينية النجفية إلى كربلاء المقدسة صبيحة يوم ١٧ صفر ١٣٩٧ه ( 1967م) متحدّين النظام الذي حشّد دباباته وطائراته وقواته الأمنية لمنع واعتقال الزوار المشاة فإندلعت إثر ذلك ما عُرف بـ"إنتفاضة صفر" الإسلامية قام خلالها النظام بقمع المشاة ومواكبهم بقوة السلاح واعتقل الآلاف منهم، ثم أعدم مجموعة من خيرة الشباب الحسيني المؤمن.
وهكذا بقيت الزيارة ممنوعة في عهد البكر ثم صدام المقبور منذ ذلك التأريخ حتى جاء المرجع الشهيد آية الله العظمى السيد محمدباقر الصدر عام ١٩٩٨م، ودعا إلى إحياء شعيرة المشي إلى كربلاء المقدسة، وهو ما أدى إلى تجدد الإصطدامات مع النظام البعثي البائد واعتقال المئات وإعدام البعض منهم. وبعد سقوط نظام صدام البائد في نيسان ٢٠٠٣م ، عادت الجماهير لإحياء هذه الشعيرة مجدداً؛ لكن هذه المرة بشكل واسع جداً ومنظم وعلني شمل جميع محافظات العراق لتأخذ بعد ذلك حالة من التطور والتنظيم أكثر فأكثر كل عام.
رسائل المسيرة لأعداء الأمّة الإسلامية
ويقول السيد المؤمن: يقوم الإعلام الغربي والصهيوني بالتعتيم على «الماراثون المقدس»، لأن هذه الشعيرة لو أخذت حقها الإعلامي فإنها ستؤثر في كل سكان العالم وتجذبهم إلى القضية الحسينية وشخصية الإمام الحسين(ع) الثائر مع أهل بيته وصحبه ضد الفساد والظلم والطغيان. وهذا ما لا يصب في مصلحة هؤلاء، بل نجد العكس تماماً وهو أنهم يحرصون في كل عام، إضافة إلى التعتيم والتجاهل الإعلامي، على نشر أخبار أو تقارير مسيئة تحاول تشويه رسالة هذه الشعيرة العظيمة.
فهذه الأجهزة الإعلامية الغربية ومن وراءها ومن يتبعها من الطائفيين يعلمون جيداً بأن رسالة الإمام الحسين(ع) في معركة الطف هي رسالة ملهمة لكل الأحرار وفي كل زمان وبإمكانها توحيد طاقات المستضعفين في أي مكان وتحويلهم إلى طاقة خلاّقة في الإصلاح والتغيير.
فالمسيرة الحسينية تحمل أبعاداً استثنائية دينية وعاطفية وسياسية تختص بها عن غيرها، وتحمل في روحها ذلك الانتماء العظيم إلى الإمام الحسين(ع) باعتباره رمز البقاء والثبات والانتصار الكبير للإسلام المحمدي الأصيل. إننا نفهم التعتيم الإعلامي الغربي والصهيوني، لما تحتويه مسيرة الأربعين من رؤية عالمية جديدة وأصيلة قوامها مقاومة الظالمين والمفسدين والمعتدين على الإنسان وعلى الفطرة الإنسانية الإيمانية. إن جميع الظالمين ينظرون إلى هذه المسيرة الحسينية المليونية بصفتها تهديداً حقيقياً لوجودهم. فهي مظهر متجدد لوحدة المستضعفين من عشاق العدل والقسط ولقدرتهم على مواجهة جميع عوامل الإحباط واليأس.
وكل متابع للتكامل والرقي الذي تشهده هذه المسيرة المليونية يلحظ بكل يسر آفاقها المنتظرة، فالمشاركون فيها والساهرون عليها يحملون في قلوبهم الإيمان العميق الحاسم بالظهور القريب لإمام عالمي رباني، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ويُنهي كل ظلم وجور. فهي تتحول تدريجياً لتصبح الملتقى العالمي السنوي لبناء العالم الجديد، عالم الرحمة والمحبة والعدالة.
ويرى السيد المؤمن أن أبرز معالم الوحدة والتقارب بين المسلمين خلال الزيارة الأربعينية هو مشاركة أعداد كبيرة من جميع أبناء المذاهب الإسلامية في الزيارة وخدمة الزوار في المواكب سواء من العراق أو من خارجه، بل أكثر من ذلك هو ما نشاهده في كل عام من مشاركة رمزية جميلة لأبناء الديانات الأخرى كالمسيحية والصابئية.
توحيد الصفوف لتحریر القدس
ويقول السيد المؤمن: إن الإمام الحسين(ع) ملهم الأحرار والمستضعفين والمقاومين والثوار في العالم وقضيته المؤلمة يصلح الإقتداء بها في كل زمان لتحقيق الإنتصار بالقضية والمبدأ مهما كانت إمكانات العدو الظالم الفاسد. وما أشبه ما يحدث منذ قرابة العام في غزة من مقاومة أسطورية ضد العدوان الصهيوني الجبان بما حدث في كربلاء المقدسة من حيث الصمود بوجه الباطل مهما كانت التضحيات.
لذلك فإني أقولها بصراحة ووضوح أن أي فئة مظلومة ومستضعفة في العالم ومنها أبناء الشعب الفلسطيني إذا أرادوا الإنتصار وإنتزاع حقوقهم فإن عليهم أن يكونوا حسينيين لينتصروا ويحققوا مطلبهم.
المسيرة الأربعينية.. رمزاً للمقاومة
ويقول السيد المؤمن: عندما نستحضر قول الإمام الخميني(قدس): «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء» فالقضية الحسينية لا تقتصر على بقعة كربلاء المقدسة وتختص بها ولا بزمن واحد، وبذلك فإن الزيارة الأربعينية هي فرصة لتوحيد طاقات المقاومين والثوار في كل أنحاء العالم ليعالج كل منهم «كربلاءه» في بلاده، إن صحّ التعبير. وأكد السيد المؤمن أنه يمكن من خلال قراءة القضية الحسينية قراءة واعية معمقة عارفة بعيدة عن الأجواء الطائفية الضيقة والممارسات الخرافية التي تساهم بتحويل القضية الحسينية إلى دكان صغير تسترزق منه فئة سطحية، لابد لنا من أن نتعامل مع القضية الحسينية وشخصية الإمام الحسين(ع) بما يناسب مستوى الطموح في المشاركة والتمهيد بإقامة دولة العدل الإلهي، وهو ما يتطلب منّا أن نحرص على عالميتها وعدم جعلها مختصة ومحصورة بجغرافيا مدينة كربلاء المقدسة. وقد اكتسبت زيارة الأربعين أهمية كبيرة في الثقافة الحسينية ومتعلقاتها وكذلك في البناء العقائدي للإنسان المسلم والمؤمن. وانطلاقاً من هذا وتجسيداً له وإيماناً بالخالق العظيم ومبادئ الاسلام الحقيقي الحنيف، يندفع ملايين المسلمين كل عام في حشود بشرية مؤمنة هائلة قل نظيرها لأداء شعائر هذه الزيارة سيراً على الاقدام، والتي كانت ومازالت تشكل تحدياً كبيراً للظلم والطغيان وبيعة متجددة ونصرة دائمة لمبادئ الإمام الحسين(ع) وعهداً له على السير على خط الإيمان والكرامة والتضحية والفداء الذي رسمه أثناء ثورته الانسانية الرسالية الكبرى.
وقد أثبتت الزيارة الأربعينية ومازالت تثبت أن الإنطلاق لتجديد الإنسان يمر عبر قناة التصور العقلاني، والنظرة الواقعية للشعائر التي تمثل «تقوى القلوب»؛ ذلك لأن الإفرازات الإجتماعية لهذه الزيارة تقود إلى حالة وجدانية حضارية. فحين نعمد لتأصيل العلائق الإنسانية في هذه الزيارة لابد أن ننظر لهذه الإفرازات؛ لأن الصور التي نشاهدها خلال أيام المسیرة ليست خيالات تأملية، أو مناهج تدريس تُدرّس لفترة محددة، إنما هي مشاهد تتجلى فيها الروح الإيمانية المتذوقة لحلاوة اليقين.
ويقول السید المؤمن: يمكن تحقيق التكامل الإنساني من خلال التمسك بنهج الإمام الحسين(ع) وسيرته وجعلها منهاج عمل وبرنامج لإدارة حياتنا الشخصية والعامة وبذلك نكون في أمان وإطمئنان لأننا شربنا من ماء عين صافية نقية، والعودة إلى الفطرة الإنسانية السليمة وأخلاقها وفضائلها وحضارتها الخالية من التشويه والتحريف. إن رحلة البحث عن جذور الانسانية لا تتم إلا من خلال العودة الى منابع الحكمة وأصل الإنسانية وحقيقة الاخلاق والفضائل التي أوضحتها الأديان السماوية، إذ إن كل ما يحتاجه الإنسان في مسيرته الإنسانية، ورحلته التكاملية وحياته اليومية، من سلامة روحه وجسمه، وسعادة حياته، ورغد عيشه، وأمن سفره وحضره، وصلاح دنياه وآخرته، كل ذلك وأكثر يجده في كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أهل البيت(ع) والتوحد حول قضية خالدة تجسدت فيها معاني الإنسانية وطبيعتها وقيمها وأهميتها، مثلما توحد الناس حول قضية «النهضة الحسينية» الخالدة بكل معانيها وتفاصيلها، وبالتالي القدرة على إحداث الفرق في السلوك الإنساني على المستوى الفردي والجمعي من خلالها، وبناء القيم السليمة للفرد داخل المجتمع وتحقيق تكامله الإنساني، من أجل خلق جيل انساني عارف وواعي. ويتحقق هذا البناء عن طريق التغذية المعرفية والعلمية السليمة، وتعزيز القيم والعادات والممارسات والأخلاق الحسنة في المجتمع، والتحصين ضد الآفات الاجتماعية، والعدوى التي تصيب المجتمعات الإنسانية نتيجة للتقليد الأعمى لها من خلال استهلاك القيم والأخلاق المعلبة الجاهزة للاستخدام، والمستوردة من مجتمعات تعاني من أزمات أخلاقية ونفسية خطيرة بحجة التطور ومواكبة العصر. فمن الضروري توسيع دائرة الاستفادة من محرم الحرام ومعنوياته الهائلة ومبادئه النبيلة وأهدافه السامية لخدمة الإنسانية ولتحقيق السلام والرفاه في العالم، ولا يحتاج المرء إلى أدلة أو براهين من أجل معرفة أهمية الإرث الحضاري والإنساني والقيمي الذي تركه لنا الإمام الحسين(ع) خلال سيرة حياته الشريفة عامة، وتحديداً خلال مسيرته الخالدة نحو النهضة الإنسانية العظيمة التي قام بها، وأعطت بكل تفاصيلها أروع الأمثال وأصدقها، من أجل إنقاذ الإنسان ومنعه من السقوط تحت رحمة براثن العبودية والخضوع، والانحلال الأخلاقي، والتجرد من قيمته الإنسانية، لتحقيق مكاسب آنية زهيدة لا تتناسب وأهميته كانسان.