تم الحفظ في الذاكرة المؤقتة...
صوت الأمة الأقوى والتمسك بالحق
الزيارة الأربعينية حدثٌ عالمي تحت راية الإمام الحسين(ع)
وإن اتسمت الزيارة بالطابع المذهبي الشيعي إلا أنها تعبّر عن تجذر القضية الحسينية في الوجدان الإيماني للمسلمين عمومًا والضمير الإنساني للعالم أجمع، فهي عمليًّا نبض حياة متجدد للفكر الثوري الجهادي الباحث عن الحرية من سلطة الظالمين، وانعتاق الروح من قيود مفاهيم الخضوع والذل والإنكسار.
الإمام الحسين(ع) في مواجهة منظومة الفساد
إن الإمام الحسين (ع) أسّس للنهضة، وأراد أن يخلّص الأمة من إطار الشر إلى إطار الرحمة والحرية، ولهذا كانت رسالته إلهية إنسانية، وكذلك أراد أن يحارب منظومة الفساد، الذي استشرى في المجتمع ويحرره من ذلك الإنهيار الأخلاقي، لهذا لا يمكن أن نقول نحن حسينيون ما دمنا نقبل بالظلم والفساد والاستبداد، فهذا الامتداد العاشورائي هو امتداد للحرية الحسينية، وقد رفع أهل بيت رسول الله راية الحسين(ع) كدليلٍ للكفاح من أجل الحرية الحسينية وطلب الإصلاح في أمة رسول الله (ص) ومكافحة الفاسدين.
على مر التاريخ كان الطغاة يخافون من كل تجمع أو مظاهرة، وقد حاربوا هذا الامتداد العاشورائي؛ لأنه يمثل كفاح الحرية ضد المستبدين لكنهم لم ينجحوا، لأنه كلما كانت القضية كبيرة في معانيها كان المجتمع متمسكًا بها بقوةٍ أكبر، ومنهم نظام صدام البائد، الذي منعها أكثر من ثلاثين سنة، ولكن هل انتهت؟ لم تنتهِ، لأنها قضية قائمة على مبادئ إلهية عظيمة تعبر كل الحقب التاريخية والأجيال المتعاقبة، فالطغاة زالوا لكن الإمام الحسين(ع) بقي، وهذه أعظم عبرة لا بدّ أن يقف عندها الجميع ليتعلموا أن الأنظمة المستبدة لا تستطيع أن تسلب معاني الحرية الحسينية.
الإطار الثقافي المنهجي في الفكر الحسيني
إن الزيارة ليست طقسًا جامدًا من مراسم العزاء والحزن والبكاء، وإنما هي عملية تأمّل في كيفية مواجهة الظلم ولو ببذل الأرواح والأموال. إن ثقافة انتصار الدم على السيف أو انتصار النهج هو جوهر القضية الحسينية التي تجسد الزيارة الأربعينية أبرز مصاديق الالتزام بأهدافها وتطلعاتها ونشر رسالتها. إن من معالم هذه الثقافة أن النصر السياسي الاستراتيجي أهم من النصر المادي الآني. كما أن أداء التكليف هو الواجب بعد تأمين العوامل ورفع الموانع، وبمعزل عن النتيجة، كما إن الثمن لا بد وأن يتناسب مع الهدف والغاية، وأن لا خوف في صرخة حق ضد جائر.
وتشكل الزيارة فرصةً لا غنى عنها لنشر مبادئ النهضة الحسينية، وإيصال تعاليمها وزيادة الوعي حول مبانيها ورفع الشبهات حولها. وإن من التكليف الواجب هو استثمار هذا الحدث في العمل التثقيفي بالاستفادة من الجموع الغفيرة بإختلاف ألوانها ولغاتها سواء عبر تقديم الصورة الأمثل للزيارة على الصعيد الفردي والجماعي أو على صعيد المؤسسات المختلفة في المجال الثقافي لتنظيم الفعاليات والنشاطات المناسبة. وهنا يأتي دورها الإعلامي، فتؤمِّن الزيارة الأربعينية المنصة الإعلامية الأكبر التي لا يمكن لأضخم محطات الإعلام الإتيان بمثلها. ويبعث الزوار من كافة أنحاء العالم وبلغات مختلفة رسالة الاجتماع حول العدل والتمسك بالحق والكُفر بالباطل وأتباعه. وذلك أصبحت الزيارة الأربعينية منصة صوت الأمة الأقوى لنقل همومها وتطلعاتها وأهدافها التي تتلخص في الوحدة والإصلاح والتكافل والتنظيم والإيمان والقوة والبأس.
ظاهرة اجتماعية لا مثيل لها
أصبحت الزيارة الأربعينية بحق أكبر التجمعات الدينية في جميع أصقاع العالم، وأكثرها تنوعًا من حيث الانتماءات والقوميات؛ وأهم نتائجها هو التلاقح الفكري والتواصل المعرفي. ففيها فرصة لإلتقاء شتى الحضارات، بما يكفل لكل زائر اكتساب حصيلة معرفية ومبدئية متنوعة المصادر، ففيها تجد الشرقي والغربي ومن شتى الأديان والمذاهب والإتجاهات الفكرية في حالة من التواؤم والتعايش، كما أنها تُمثل نقطة تلاق بين الشيعة أنفسهم ومن شتى بقاع العالم، وبين مبادئهم الإنسانية التي تتمحور حول نهضة عاشوراء.
يُعد تكريس ثقافة العمل التطوعي أهم نتائج زيارة الأربعينية وذلك بما لها من خلفية دينية عاطفية فكرية تملك الدوافع والحوافز الاجتماعية على العمل التطوعي قدرًا يفوق كل الإمكانات المؤسساتية العالمية في هذا المجال. فعلى مدى آلاف الكيلومترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى مدينة كربلاء المقدسة ولعدة أيام تجد الشيبة والشباب، الرجال والنساء في حركة متواصلة يبذلون جهودًا جبّارة وأموالًا طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمّر أو إحباط، وبدون أي أجر مادي دنيوي في قبال ما يبذلونه، وتتجلى أجمل النتائج للزيارة أنها تجمع بين هذا العمل التطوعي من جهة، والعطاء المادي والروحي اللامحدود ودون مقابل من جهةٍ أخرى، فتبلغ بذلك ذروة التكافل التي لم تبلغها المؤسسات الدولية فضلًا عن غيرها؛ إذ من أهم السمات التي يكتسبها الإنسان في زيارة الأربعين هي سمة العطاء، الذي يورث بدوره خصالًا أخلاقية وإنسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والإيثار وتغييب البخل والأنانية والحب المفرط للذات.
زوار الأربعينية من كل بقاع الدنيا
يعد التمييز العنصري على أساس اللون والعرق والجنسية والانتماء الفكري والديني من أبرز المشاكل والمساوئ الاجتماعية التي أصابت المجتمع البشري بصورة عامة، ولكن زيارة الأربعين بما تستمده من الإمام الحسين(ع) من قيم دينية ومبادئ إنسانية ورصيد فكري رصين، تمكنت من إذابة جميع الفوارق العنصرية بين الحشود المليونية الزاحفة إلى مدينة كربلاء المقدسة؛ إذ تجد فيهم شتى الجنسيات والقوميات والأديان والاتجاهات الفكرية والأعراق، ويسيرون جنباً إلى جنب في أجواء زاخرة بالأخوة والمحبة والتضحية والعطاء، وكأنهم تخلوا عن جميع الفوارق وأصبحوا جسداً واحداً.
الإطار الاقتصادي للزيارة الأربعينية
الزيارة الأربعينية تنشّط الدورة الاقتصادية؛ لأن التجمعات المليونية لا بدّ أن تلد تبادل فكري وثقافي واقتصادي، عبر تبادل السلع والمنتجات من زائري دولة لزائري دولٍ أخرى، بل داخل العراق نفسه، عندما يلتقي الزائرون من بغداد والموصل وواسط وسامراء وغيرها.
إن أعداد الزائرين لمدينة كربلاء المقدسة لأداء الزيارة الأربعينية تزداد من سنةٍ إلى أخرى، هذا الرقم الهائل من الحشود البشرية يترك أثارًا كبيرة على صعيد الإنفاق الكلّي (الطلب العام على السلع والخدمات) عبر المداخيل التي يحصل عليها أصحاب الخدمات التي يوفرونها للزائرين، مثل قطاع النقل والمواصلات، الفنادق والمطاعم، والمحلات التجارية، والكتب الدينية والتاريخية، وبذلك تنشط الدورة الإقتصادية، لأن زيادة الطلب على المنتجات الزراعية من قبل أصحاب المواكب الحسينية، سوف يؤدي إلى زيادة الطلب على زراعة هذه المنتجات، وزيادة الطلب على أماكن المبيت، يزيد الطلب على بناء فنادق جديدة، وعلى استخدام أراضي جديدة لهذا الغرض، وزيادة الطلب على المواصلات سوف يجبر الحكومات في الاستثمار بتأسيس طرق وجسور ومعابر حدودية ومطارات جديدة وإيجاد وسائط نقل سهلة للزائرين مثل خط قطارات متقدم وأساطيل باصات جديدة.
وهكذا إن الزيارة الأربعينية وإن كان هدفها تجديد البيعة لرسول الله (ص) والولاء إلى أهل بيته (ع) من قبل الملايين من المسلمين، إلا أن لها أيضًا مناخ اقتصادي واجتماعي وفكري، في كل الأطر المختلفة، ولكن يبقى الأهم هو الجانب الروحي، وهو بالطبع مقدمة
باقي الأطر.
ختاماً تُترجم زيارة الأربعين قيمًا إنسانية وحضارية خلودها خلود الدهر عبر تجديد الأجيال المتعاقبة العهد والبيعة على القدرة على الصمود وحمل راية المظلومية ومقارعة الظالم، وانتصار القيم والمبادئ والأهداف التي خطتها النهضة الحسينية. وتوفر الزيارة فرصة للتفاعل مع القضية وأهدافها وتحويلها إلى واقع عملي مُعاش في جميع مجالات الحياة، وعدم اختزال القضية الحسينية بأمور جزئية أو طقوس شكلية؛ فالمطلوب الحفاظ على جوهر النهضة الحسينية، والامتداد المنهجي للفكر الحسيني بجانب البشرية والشعوب المستضعفة التواقة لنيل الحرية، وتجسيد مبدأ مقاومة الظلم والطغيان ومواجهة الطاغوت في أي زمان ومكان، ليصبح شعار الأمة والعالم أجمع "هيهات منّا الذلّة".