المضائف العاشورائية في لبنان.. تكافل اجتماعي ووحدة إنسانية ومقاومة العدو
غدت ذكرى عاشوراء ظاهرةً احتفاليّةً شعبيّةً تحمل أبعاداً دينيّةً واجتماعيّةً وسياسيّةً، تظهر بأساليب ترتبط بالتُّراث الشعبيّ، كما برهنت عبر العصور المتلاحقة على قدرتها الفائقة على استنهاض الأفراد والشعوب من غفلاتهم أو خنوعهم للباطل، واستطاعت أن تحوّل واقعة كربلاء منهج متجذّر في أعماق التاريخ، تقتفي أثره المجتمعات الإنسانية كافة بمختلف مِللها وأديانها. إعتاد الشيعة في لبنان وفي سائر البلدان على استقبال شهر الأحزان بمظاهر عاشورائية متنوعة، قد تختلف في طبيعتها وفي حجمها من بلدٍ إلى آخر وفق الظروف المحيطة بأبناء الطائفة في هذه البلدان، وإحدى هذه المظاهر إقامة المضائف العاشورائية والتي تجمع بين العمل التطوعي من جهة، والعطاء المادي والروحي اللامحدود، ودون مقابل من جهة أخرى، وهي تبلغ بذلك ذروة التكافل إذ من أهم السمات التي يكتسبها الإنسان في إقامتها هي سمة العطاء، الذي يورث بدوره خصالًا أخلاقية وإنسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والإيثار وتغييب البخل والأنانية والحب المفرط للذات، فكيف إذا كان ذلك كله على حب الإمام الحسين(ع).
الوفاق/ خاص
عبير شمص
في هذا السياق تجمع المضائف العاشورائية عدة عناوين وفق الباحثة الاجتماعية الدكتورة نزيهة صالح ويأتي أهمها العناوين الاجتماعية والتكافل بين الناس والتي تقوم على تعزيز التلاحم والترابط والتكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد إلى أي مذهب وطائفة انتمى، وهذا ما لمسناه في لبنان مشاركة أبناء الطائفة المسيحية في المضائف إما تنظيماً أو مشاركةً بالخدمة، فشكل تواجدهم هذا لحمة اجتماعية حول الإمام الحسين(ع) وجسراً للتعرف على ثورته المباركة ومفاهيمها وأصبح الناس من طوائف مختلفة يقصدون هذه المضائف للتبرك من طعامها، وكل هذا يخلق أواصر من الترابط واللُحمة الاجتماعية بين الناس الذين جمعهم حب الإمام الحسين(ع)". هذا وقد غدت ظاهرة مضائف الإطعام العاشورائية ظاهرة ثابتة ومتزايدة عامًا بعد عام، إذ يكاد لا يخلو حي أو طريق من مضيف يُقدم ما تيسر له على حب الإمام الحسين(ع) في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت كما كل المناطق اللبنانية التي تُحيي ذكرى عاشوراء.
إطعام الطعام على حب الإمام الحسين(ع) عادة متجذرة عند شيعة لبنان
يُعدّ توزيع الطعام وإعداده في ذكرى عاشوراء عادة قديمة في المناطق اللبنانية، إذ كان الناس يطبخون ما يصطلح عليه بالهريسة، وهي الأكثر شهرة وارتباطاً بهذه المناسبة، وينتظرها الناس من عامٍ لعام، فيوزعونها على الجيران أو الأهل، بالإضافة إلى إعداد بعض الحلويات الخاصة بالمناسبة، مثل "البسكويت والراحة"، و"كعك العباس"، ويوزعون هذا الطعام بعد إقامة المجالس العاشورائية في المنازل.
ومع ازدياد الرحلات الدينية إلى العراق، انتقلت عادات عراقية عاشورائية إلى لبنان، وكانت المضافات وشكلها من بين هذه العادات، إذ توضع طاولات مغطاة بالقماش الأسود، علامة على الحزن والعزاء، ولافتات لذكرى عاشوراء والإمام الحسين(ع). ويرافق العمل في هذه المضائف ندبيّات لرواديد لبنانيين أو عراقيين عبر مكبرات الصوت. فيقف المارة بسياراتهم أو الماشين على الأقدام ويتناولون ما حُضّر من أجلهم على هذه الموائد. ويعبّر الناس عن دوافع كثيرة لإقامة هذه المضائف، أبرزها أنهم يرغبون بإحياء مراسم العزاء عبر تقديم الطعام "على حبّ الحسين" (ع)، وأيضاً من أجل التكافل الاجتماعي في هذه الفترة، فيستفيد الناس جميعهم من خير المضائف، خصوصاً الفقراء.
وفي هذا السياق يؤكد صاحب مضيف الأمير(ع) في أحد أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت بأنه: "اعتاد الشيعة في مختلف المناطق اللبنانية على إقامة المجالس الحسينية في منازلهم يتبعها تقديم الضيافة على حب أبا عبد الله الحسين (ع) وهذا ما تربينا ونشأنا عليه، أمّا إقامة المضائف خارج المنازل فقد استلهمناها من أهلنا في العراق خلال زيارة الأربعين وبدأناها في لبنان منذ سنوات عديدة. الكثير من هذه المضائف تقام بمبادرة فردية ويؤكد أن ما نقدمه محبة للإمام الحسين (ع) يعود الينا اضعافاً مضاعفة وهذا ما لمسته شخصياً طيلة خمسة عشر عاماً من تقديم الطعام في مضيفنا الذي بدأ متواضعاً ليصبح ما هو عليه الآن".
إحياء رغم الحرب
تأتي ذكرى عاشوراء هذه السنة بطريقة مغايرة عن السنوات الفائتة، فبعد أن كان إحياؤها ينتشر في المناطق التي تقطنها الطائفة الشيعية، جاءت الحرب في الجنوب لتحدّ قسراً من إمكان ذلك في المناطق الحدودية، لكن هذه الأوضاع الأمنية الاستثنائية لم تمنع النازحين من إحيائها في المناطق التي لجأوا اليها.
يشرح الأستاذ أحمد سلامة المشرف على مضيف الامام الحسين(ع) في بلدة قانا جنوب لبنان سبب إقامة المضيف في الجنوب بأنه :"يقع ضمن مشروع إحياء مناسبات أهل البيت(ع)، وبدأنا بيوم الغدير وشهادة الإمام الجواد(ع) ووسعنا عملنا حتى نستطيع الخدمة طيلة أيام عاشوراء والحمد لله كان العمل موفقاً وميسراً توفيقنا بشكلٍ غير متوقع، فعلى الرغم من خطورة الوضع والحرب استطعنا وبحمد الله (سبحانه وتعالى) ومساعدة الإمام الحسين(ع) تقديم ولو القليل في محبة أهل البيت(ع) ونرجو من الله قبول هذا العمل المتواضع وكان العمل ميسراً وناجحاً ويعود الفضل بذلك إلى الدعم والمساعدة من الجهات المختصة وقيادة المقاومة".
ويتابع حديثه بالقول:" بدايةً، كان لدينا تخوف من عدم وجود جموع من الزوار لزيارة المضيف كما تعودنا في بلدتنا في السنوات السابقة ولكن الإمام الحسين(ع) يصنع المعجزات وكانت المفاجأة أنه على الرغم من خطورة الحرب والقصف على القرى الجنوبية كانت إرادة أهلنا وعزيمتهم أقوى من قبل وصدقاً كانت أعداد زوار المضيف أكثر من ذي قبل وكانت الأيادي الخيرة كثيرة وشرع الكل يُساهم بتقديمات للمضيف من ماء وعصير وهريسة وحلويات وكان كرم الإمام الحسين(ع) لا يوصف وكان الوافدين من مختلف القرى المجاورة من قضاء صور ومن زوار مضيفنا الشهيد على طريق القدس حسن مهنا، وكانت حماسة الناس للمضائف هذه السنة أكثر من ذي قبل وشرع الجميع بإقامة المضائف الصغيرة بالقرب من منازلهم ولكن مضيفنا كان الأكبر وتابع للمجلس المركزي في
حزب الله".
نمو متسارع وحضور لافت
شهدت بعض المناطق ازدياداً في إقامة المضائف بعد أن كانت الحركة خجولة سابقاً، ففي مدينة الشهداء "الهرمل" في البقاع اللبناني أقامت جمعية سبع سنابل الخيرية مضيف سيد الشهداء(ع) الذي تفاعل الناس معه بشكل كبير كما أخبرتنا المشرفة عليه الأخت ربيعة مدلج، والتي أشارت إلى انتشار المضائف العاشورائية بكل مكان ولكن تفاوتت النسبة بعددها، وما لفتني الحركة الخجولة للمضائف في منطقة الهرمل في الأعوام السابقة، أما هذا العام فمن اللافت كان عدد المضائف بإزدياد والتفاعل معها بشكلٍ أكبر، هذا ولم يقتصر عمل المضائف على البعد الاجتماعي فقط بل تعداه ليشمل أبعاداً ثقافية، فشهد مضيف سيد الشهداء(ع) في الهرمل دروساً ثقافية عن عاشوراء ومضيف الأمير(ع) في الضاحية الجنوبية ومجالس عزاء حسينية وندبيات".
الإمام الحسين (ع) يجمعنا
"من فلسطين إلى كربلاء .. تحية لسيد الشهداء " بهذه العبارة أسس الإخوة الفلسطينيون مضيفاً عند أبواب مخيمهم، وجادوا بما يملكون عن روح الإمام الحسين(ع) وعن روح شهداء الإسلام، ليجسدوا ما بذله الإمام الحسين(ع) في طريق الحق والنصر.
" إنما المؤمنون إخوة " .. شكلت هذه الآية الكريمة المبدأ لإنشاء مضيف "فلسطين" في مخيم برج البراجنة في العاصمة بيروت، والذي جاء تكريساً للوحدة الإسلامية التي حارب من أجلها الإمام الحسين (ع) الذي "لم يسأل عن عطش بل سأل عن موقف وعن الإسلام ضد الكفر ".
وهكذا جسدت عاشوراء هذا العام ككل عام وحدة إسلامية مترابطة، هدفها الوقوف في وجه الظلم ونصرة المظلوم. فهذه الوحدة هي التي دفعت المقاومة الإسلامية في لبنان الوقوف إلى جانب غزة من أجل إسناد الجبهة دعماً للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة. كما لم تقتصر المشاركة في المضائف هذه السنة على طائفة واحدة، إنما شهدت بعض المضائف في بعض المناطق اللبنانية حضور عدد من الفعاليات المسيحية من رجال دين ومواطنين كانت لهم كلمات فيها". والجدير ذكره أنه بات حضور الشباب المسيحي في مجالس عاشوراء أمراً من المسلمات، بل وتؤكد مصادر مواكبة للإحياء، أنه يتوسّع عامًا بعد آخر، وينم هذا الحضور على أبعاد دينية وروحية عديدة، وبذلك يربط المشاركون المسيحيون بين "واقعة الفداء في كربلاء" ومثيلتها على "درب الجلجلة" وآلام النبي عيسى (ع).
ختاماً يُعد الانتشار الكبير لهذه الشعائر الحسينية وازديادها بمثابة إعلان لكل شعوب العالم أن قضية الإمام الحسين(ع) إنما هي قضية إنسانية عالمية، وهي قضية كل شعب يعاني القهر والظلم فتتجسد كربلاء كأعظم مدرسة لمواجهة طواغيت العالم والوقوف بوجههم والمعادلة الإلهية أن الله (سبحانه وتعالى) لا يخذل أهل الحق وما يجعل ثقافة عاشوراء ومدرسة كربلاء أكثر انتشاراً لما فيها من عمق وجداني وروحي وعاطفي خاصةً في الحرب القائمة مع العدو الصهيوني وأعوانهم، تصبح كربلاء الشهادة ومدرسة أبي عبدالله الحسين(ع) هي الكلمة والسلوك للوقوف بوجه كل ظالم ومستبد وليبقى صدى صوت زينب(س) " والله لن تمحوا ذكرنا ولن تميتوا
وحينا".