حزام النار في مقاربة حزب الله
محمد جرادات
كاتب ومحلل سياسي
تشتعل مستوطنات شمال الكيان الصهيوني، ومعسكراته وأطراف مدنه من "كريات شمونة"، حتى "نهاريا" وصفد وعكا، بنيران الغضب اللبناني، ثأراً للدماء النازفة في غزة، كما في الضفة وجنوب لبنان، وتنتشر العشرات من فرق الإطفاء، مدعومة بكتائب من "جيش" الاحتلال، ولا يتوقف مستشفى صفد عن استقبال الإصابات بين الجنود والمستوطنين.
كيف حصل ذلك؟ وما المقاربة التي نجح فيها حزب الله، وهو يزحف بحزام ناره بثبات تدريجي من شبعا والمطلة حتى تخوم طبريا وحيفا؟
كان الشمال الفلسطيني دخل منذ الثامن من أكتوبر، في آتون مواجهة بين مقاربتين؛ تلتزمان بقواعد اشتباك حذرة، على وقع الحرب الدموية التي شنها كيان الاحتلال ضد غزة، مواجهة تجاوز فيها الكيان الصهيوني هذه القواعد، مرات عديدة، بتصعيد اغتيالاته في العمق اللبناني، فيما حافظ حزب الله ومعه قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، على وتيرة تصعيد متدحرجة بثبات، يمكن رؤيتها في ثلاثة مسارات؛ نوع السلاح ومدى الإطلاق وكثافة النيران، كالآتي:
المسار الأول؛ تمثل في استخدام أنواع معينة من الصواريخ والمسيرات، ظلت تتطور تباعاً، بحسب متطلبات الميدان، ولكن وفق استراتيجية قتالية، لم تخضع لقفزات نوعية تناسب ما يطلبه المشاهدون، أو ما يتوقعه الراصدون.
وكان حزب الله استهل هجماته بقذائف الهاون والكاتيوشا والصواريخ المضادة للدروع، حتى أدخل صواريخ ثقيلة مثل فلق، وصواريخ الماس المصحوبة بكاميرا رأسية، وصواريخ بركان هائلة التفجير، وآخرها صواريخ عماد مغنية التي دمرت قواعد عسكرية كبيرة.
المسار الثاني؛ خضع ميدان الإطلاق في شمال فلسطين، لدحرجة جغرافية في العمق الإسرائيلي تباعاً، فكان استهداف جبل الجرمق، وتعلوه قاعدة ميرون العسكرية، بما تضمه من قاعدة استراتيجية للتجسس والرصد، على مستوى الساحل برمته، تطوراً نوعياً كبيراً، جاء بعد اغتيال القائد صالح العاروري، بداية هذا العام، وتبعد هذه القاعدة نحو 10 كم، عن الحدود اللبنانية.
المسار الثالث؛ تصاعدت كثافة نيران حزب الله، ضمن آلية تعميق حزام النار، بشكل مطرد، إذ بلغ مجموعها بحسب المعطى الإسرائيلي؛ نحو 4800 قذيفة وصاروخ وطائرة مسيرة، وجاءت في الأشهر الخمسة الماضية ضمن وتيرة متسارعة؛ من 334 صاروخاً في شهر كانون الثاني/يناير، إلى 534 في شهر شباط/فبراير، و746 في شهر آذار/مارس، و744 في شهر نيسان/ أبريل، حتى 1000 في شهر أيار/ مايو، فيما دخل شهر الصيف اللاهب حزيران/ يونيو، لتتفاعل قوة حزب الله النارية أضعافاً مضاعفة في أيامه الأولى، تأثراً بالحرّ الشديد، الذي أشعل مئات الحرائق، حول "كريات شمونة" وصفد، حتى صار لكل قذيفة تطلقها القبة الحديدية الإسرائيلية، أثر عكسي يتسبب بحرائق وأزمات أمنية مضاعفة.
جاءت المقاربة الإسرائيلية في مواجهة نار حزب الله، ضمن مسارات مغلقة متأرجحة، رغم التفوق الناري التقليدي، بشكل لا مقارنة فيه، ورغم نجاح حزب الله في كبح جماح القوة الإسرائيلية النارية، تبعاً لما أظهره بداية من التزام بقواعد اشتباك منضبطة. وكان أبرز مسارات المقاربة الإسرائيلية: أولاً؛ نجاح عدة اغتيالات في قلب بيروت، بعد شهرين من المواجهة، واستهداف عشرات الكوادر من نخبة حزب الله، لا سيما في قلب الميدان، في ظل تعتيمه التام على خسائره البشرية، بما أظهره أمام الجمهور وكأنه يقتل قادة المقاومة وشبابها، في ظل عجز المقاومة عن المسّ بجنوده
وضباطه.
كان لسياسة الاغتيالات الإسرائيلية في لبنان مردود عكسي على المدى البعيد، في ظل احتدام المواجهة كل هذه الشهور، خاصة أن نجاح الاغتيالات لا يتوفر كل يوم، بينما وتيرة ضربات حزب الله ظلت في تصاعد، بما جعل المشهد يميل تباعاً لصالح مقاربة حزب الله.
ثانياً؛ ضرب البنية التحتية والمراكز المدنية في القرى اللبنانية المحاذية للشريط الحدودي، مثل عيتا الشعب وميس الجبل ومارون الراس، وأحياناً في بنت جبيل وبعلبك، وهو ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين بالعشرات.
ثالثاً؛ قصف العمق السوري، وخاصة دمشق وحلب، مع استهداف قوات حزب الله، والمستشارين الإيرانيين، وهو ما أدى إلى رد إيراني واسع في منتصف نيسان/ إبريل، كبح الاندفاعة الإسرائيلية ضد إيران، بما حدّ من هامش الانتقام الإسرائيلي.
رابعاً؛ الضغط الدولي، عبر النفوذ الأميركي-الفرنسي -الغربي في لبنان، وهو ما فشل تماماً، أمام إصرار حزب الله على ربط المواجهة بوقف الحرب على غزة.
خامساً؛ التهديد بالحرب وإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وهو ما تكرر على لسان كل القادة السياسيين والعسكريين عشرات المرات، ففي الوقت الذي أعلن وزير الحرب غالانت بداية هذا العام عن الانتقال من الدفاع إلى الهجوم مع لبنان، نجد رئيس أركانه هليفي يتحدث مع نهاية الشهر الثامن للمواجهة، عن قرب الوصول إلى نقطة التحوّل مع لبنان، بما يضع كل التهديدات السابقة في مكب الاستهلاك.
حصدت مقاربة حزب الله نتائج متضافرة بالنقاط، بما عمّق حزاماً نارياً، يكاد يفصل شمال الكيان عن وسطه، خاصة مع تعزيز موجات النزوح لما يزيد عن مئتي ألف صهيوني، باتجاه الاستقرار في الوسط، مع اتساع نطاق صفارات الإنذار الإسرائيلية وهي تقرع فوق رؤوس عشرات الآلاف في تخوم حيفا وطبريا، بما أضاف كمّاً بشرياً هائلاً مضطراً للاختباء في الملاجئ.