رفح وأخواتها.. كذبة العدل الدولي
أحمد فؤاد
كاتب ومحلل سياسي
كتبت مجزرة رفح المأساوية، يوم 26 أيار/مايو، خلاصة نحو 8 أشهر من الصراع مع العدوّ الصهيوني، حفرت بنيران القذائف الحارقة ولهب القنابل ووحشية الصواريخ خطوطًا على الوجه العربي، لا يمكن نسيانها مهما امتد بنا العمر. لقد كثف العدوّ من سلاحه الأول "الصدمة والرعب"، عبر القتل العشوائي الواسع، وممارسة العنف المجرد، العنف أولًا، والعنف دائمًا، ومع ذلك يمكننا الخروج بنتيجتين مباشرتين من ليلة الجحيم في رفح، هما أن روح الصمود لدى هذا الشعب الجبار لم تهتزّ وقلبه لم يلِن أمام عواصف الدمار، ومحور المقاومة قد أثبت من جديد لجمهوره، ومن هم خارج ساحاته، أن فعل الجهاد هو كلّ ما تبقى لهذه الأمة، إن أرادت الحياة.
ثمانية أشهر من القتال على جبهات العز والشرف، قد أنتجت مباشرة معادلة استراتيجية جديدة في المنطقة، طوت نهائيًا وتمامًا فكرة "صفقة القرن" أو مشروع الشرق الأوسط القادم بزعامة "تل أبيب"، بما فيه أن يكون الكيان ركيزة طرق التجارة العالمية وخطوط الغاز الطبيعي ومركز القيادة الإقليمية التابع مباشرة للولايات المتحدة الأميركية. هذه الأفكار والمشروعات باتت خيال بائس، ليس لها محل من الواقع مع الضربة العسكرية التي عرّت وكسرت "الرادع الصهيوني". أهم ما قدمه طوفان الأقصى أنه كشف هشاشة هذا الكيان الوهمي، وفقدانه لعوامل أساسية لازمة للبقاء، لا عمق استراتيجي لديه ومساحته الصغيرة وسط محيط عربي كاره هي الحقيقة الواضحة الآن، دون جدال.
فشل العدوّ طوال الحرب في انتزاع أي هدف، يمكن أن يبني عليه قصص نصر ملفقة. غزّة تلقت من الذخائر – على الأقل - 4 أضعاف قنبلة هيروشيما النووية - 15 ألف طن متفجرات - والتي كسرت إرادة اليابان وأجبرتها على الاستسلام، منهية أوسع صراع في التاريخ الإنساني، الحرب العالمية الثانية. غزّة الصامدة تحملت كلّ هذا الدمار والموت، لكن الفارق المذهل أنها لم تهتزّ ولم تنكسر، ولا تفكر حتّى في غير الانتصار.
كان منطقيًّا بالنسبة لوحشية العدوّ وشرّه وحقارته وجبنه وحقده أن يلجأ في مواجهة هذا الصمود المعجز إلى رفع مستوى إجرامه إلى شكل جديد يفوق حدود تصورنا، وحتّى ما يتصوره غيرنا، بإقدامه على المجزرة البشعة في رفح؛ نازحين في خيام بلاستيكية، تلقوا جرعة حادة من الإجرام الناري الصهيوني. لجأ الصهيوني إلى النار لرمزيتها وثقلها الشديد على النفس السوية، أنت لا تقتل فحسب، أنت تحرق بشرًا حتّى الموت. يعيد الصهيوني بوعي أو بغير وعي استنساخ أقذر سيناريوهات الشر التي عرفها الإنسان، وكلّ هذا في مواجهة لاجئين مدنيين ضعفاء جوعى، وفوق كلّ هذا الغدر فإنها منطقة أعلنت آمنة من قبل العدوّ ذاته.
جريمة رفح ليست جديدة، ولا هي الأولى من نوعها، ولن تكون قطعًا الأخيرة. إنها أقرب إلى كونها "التجربة المعتادة" في المواجهات العربية الصهيونية، بدءًا من دير ياسين وبحر البقر وقانا الأولى وقانا الثانية وصولًا إلى مستشفيات غزّة، الشفاء والمعمداني وكمال عدوان. إنها التصرف الوحيد الثابت والعقيدة الراسخة لجيش الكيان الصهيوني في الحرب، لكن الفارق في رفح أنها مجزرة منقولة على الهواء مباشرة، لأهداف عدة.
مع الفشل العسكري الكامل اختار الكيان سياسة إعلامية جديدة، لاقت بفعل مخطّطاته والمؤامرات الأميركية، نصيبها من النجاح السهل، ودون حتّى أن يطلق رصاصة واحدة، واستطاع عبر وسائل إعلام عربيةِ الاسم صهيونية الهوى أن يزرع فينا الخوف والهلع من المواجهة، وكرّس صورة ذهنية لدى الشعوب العربية بالذات، أنها دولة تملك الكفاءة والقدرة، وتعليمًا هو الأرقى في المنطقة، وسلاحًا فتاكًا لا نحلم حتّى بمضاهاته، ومع كلّ هذا، راية منتصرة ترتفع بعد كلّ مواجهة عسكرية، ومدن تضج بالحياة وتشبع لهوًا واحتفالًا، فيما تئن مدننا وقرانا المقصوفة بموتاها وتلملم دماءها وجرحاها.
لكن هذه المرة لا يبدو أن مدننا العربية فقط هي التي ستدمر في هذه الحرب؛ اليوم شمال فلسطين المحتل يقصف ويضرب يوميًا، والجيش اليمني يفرض حصاره ويرسل مسيراته إلى أم الرشراش المحتلة في الجنوب، والمقاومة العراقية تواصل عملياتها ذات الآثار النفسية والمادية الهائلة على المعركة، ثمّ رجال الله الذين وقفوا وقفة لله وللحق، وأصبحوا اليوم أصحاب اليد الطولى في المنطقة، وأهم سلاح يعمل له العدوّ ومَن وراء العدوّ ألف حساب.
سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، قال في خطابه يوم 28 أيار/مايو، إن "الدم الذي سفك في رفح يجب أن يحرك كلّ الساكتين حتّى اليوم، وهذه الدماء ستكون طريق التحرير وليس أقل من ذلك"، وإن "محكمة العدل الدولية طالبت بوقف العدوان منذ أيام، فكان الرد هذه المجزرة". بالطبع يجب أن تغير فينا رفح فكرة اللجوء إلى خيار العجز، العدل الدولي أو الأميركي، فلدينا حق، ولن نأخذه بغير سلاح ودماء.