الأميركيون والمحكمة الجنائية الدولية..
هل يتحول الجفاء الى عداوة؟
ليلى نقولا
كاتبة ومحللة سياسية
بعدما انتشرت أخبار تفيد بأن المحكمة الجنائية الدولية تتجه إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، من بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت رئيس الأركان هرتسي هاليفي، صدرت تحذيرات أميركية، وخصوصاً من الكونغرس الأميركي، بأن إصدار مثل تلك القرارات سوف يعرّض المحكمة وقضاتها لعقوبات أميركية. وحذّر رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون من أن خطورة "اكتساب المحكمة سلطة غير مسبوقة قد تؤدي مستقبلاً إلى إصدار قرارات مثيلة بشأن سياسيين وعسكريين أميركيين". وعملياً، فأن التهديدات والتحذيرات الأميركية للمحكمة وقضاتها ليست وليدة الساعة. ومنذ تأسيسها، تتعامل الولايات المتحدة بجفاء مع المحكمة، وتحاول أن تمنعها من التقدم في مسار تحقيق العدالة الدولية، خشية أن تصل يوماً إلى الأميركيين. وهنا نستعرض فيما يلي مسار التعامل الأميركي مع المحكمة منذ تأسيسها:
المعارضة الأميركية لتأسيس المحكمة:
بدأت المساعي الفعلية والأساسية لإنشاء "المحكمة الجنائية الدولية" عام 1993، بالرغم من المساهمات الفكرية والقانونية التي طالبت بها قبل ذلك بكثير. وبناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 50\46، الصادر بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1995، أُنشئت اللجنة التحضيرية لمناقشة مشروع النظام الأساسي الذي أعدّته لجنة القانون الدولي، ولإعداد نصّ موحد ومقبول على نطاق واسع لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
وبعد مسيرة طويلة من المؤتمرات واللجان والنقاشات التي تهدف إلى تأسيس محكمة من هذا النوع امتدت إلى أكثر من قرن من الزمن والاستناد إلى تجارب المحاكم الدولية السابقة، وانقسام دولي وقانوني بين تيار مؤيد وتيار معارض لتأسيس المحكمة تزعمته الولايات المتحدة الأميركية، تمّ الاتفاق على تأسيس هذه المحكمة في تموز/يوليو 1998 عندما تبنى المؤتمر الدبلوماسي الذي انعقد في روما برعاية الأمم المتحدة، في الفترة الممتدة من 15 حزيران/يونيو إلى 17 تموز/يوليو 1998، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأغلبية ساحقة، إذ صوَّت إلى جانبه 120 دولة. وقد صادقت عليه 60 دولة، وهو العدد اللازم لإنشاء المحكمة بتاريخ 11 نيسان/أبريل 2002، وأصبحت الولاية القضائية لنظام روما الأساسي نافذة في الأول من تموز/يوليو 2002.
القوانين الأميركية ضدّ عمل المحكمة
مباشرة بعد حرب أفغانستان، قامت الولايات المتحدة بوضع مجموعة من الأدوات القانونية والسياسية المعقدة، بهدف ضمان الحؤول دون خضوع أي من رعاياها، وكذلك أي شخص يعمل تحت قيادة أميركية، أياً كانت جنسيته، لعملية تسليم أو مقاضاة أو محاكمة من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وقد اعتمد الكونغرس الأميركي القرار رقم HR4775 الذي أصبح نافذاً بتاريخ 2 آب/أغسطس 2002 بعنوان "قانون حماية أعضاء القوات المسلحة الأميركية (ASPA)"، والذي يؤكد أنه "لا يجوز لعهد دولي أن يفرض أي التزامات على دولة ليست طرفاً فيه". يتضمن هذا القانون أحكاماً تتناول إجراءات أخرى لمنع التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. وبالرغم من ذلك القانون، فإن الولايات المتحدة ظلَّت بحاجة إلى التأكد من أن المحكمة لن تطال أياً من الرعايا الأميركيين الموجودين خارج الأراضي الأميركية، سواء كانوا من المدنيين أو الدبلوماسيين أو العسكريين.
وهكذا تمّ التفاوض على قرار صادر عن مجلس الأمن رقم 1422/2002 للحدّ من اختصاص المحكمة، بحيث لا تنطبق على الأميركيين، وبحيث تمتنع المحكمة الجنائية الدولية ولمدة سنة، بدءاً من 1/8/2002، عن التحقيق والمقاضاة في أية قضية تشمل مسؤولين أو موظفين حاليين أو سابقين لدولة مساهمة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي فيما يتعلق بالعمليات التي تنشئها الأمم المتحدة أو تأذن بها، إلا إذا قرر مجلس الأمن ما يخالف ذلك.
منع التحقيق مع أميركيين وإسرائيليين
تطور الجفاء إلى عقوبات خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ قام في 11 يونيو/حزيران 2020 بإصدار أمر تنفيذي يُجيز تجميد الأصول وحظر السفر العائلي بحق موظفي المحكمة الجنائية الدولية، والذين يُساعدون المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها. وفرضت إدارة ترامب عقوبات على قضاة المحكمة والعاملين فيها، وهددت بعقوبات إضافية في حال استمرار التحقيقات في أفغانستان وفلسطين أو إذا استمرت في التحقيق في سلوك المواطنين الأميركيين والإسرائيليين.
وبالرغم من أن إدارة بايدن عادت وألغت تلك العقوبات عام 2021، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أعلن أن "واشنطن تتخذ هذه الخطوة رغم أنها ما زالت مختلفة بشدة مع إجراءات المحكمة الجنائية الدولية المتصلة بأفغانستان والأوضاع الفلسطينية، وما زالت تعارض ما تبذله المحكمة الجنائية الدولية من جهود لتأكيد الاختصاص القضائي على الأفراد من الدول غير الأعضاء فيها، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل"، وهو ما لمسناه في التهديدات الأميركية الحالية التي أتت من أعضاء ومسؤولين من الحزبين في حال استمرت المحكمة بتحقيقاتها في الإبادة الجماعية في غزة.
في المحصلة، يستمر الإفلات الإسرائيلي من العقاب، وتمس الضغوط الأميركية بقدرة المحكمة على الاستمرار في قضية إصدار مذكرات بحق نتنياهو وغيره، ويبقى من المفيد الإشارة إلى أنه حتى لو صدرت تلك المذكرات، فإن عدم انضمام "إسرائيل" إلى نظام روما الأساسي يتيح لها عدم التعاون، لكنه يحرج دولاً أعضاء في المحكمة، ومنهم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها ممن يدعمون "إسرائيل" في حربها على غزة.