الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • ملحق خاص
  • الثقاقه و المجتمع
  • طوفان الأقصى
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون - ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون - ٢٧ أبريل ٢٠٢٤ - الصفحة ٦

هذا ليس معرضاً... إنّه انتفاضة لوحات

مئات من اللوحات عبرت حدوداً قسريّة بين مدن فلسطين، حدوداً لا معنى حقيقيّاً لها لأنّها لم تنل يوماً من الامتداد الفطريّ، ما بين غزّة والقدس وبيت لحم وعكّا. لوحات وُلِدَت في مراسم تفتّحت على طول القطاع، وغادرت بيوتها كفتية بلغوا سنّ الرشد، فراحوا يبحثون عن بيوتهم الخاصّة، وتمكّنوا بجمال الشكل وقوّة المعنى من أن يغادروا مدناً محاصرة بالاستعمار، فانطلقوا في رحاب فلسطين أحراراً، وزيّنوا جدراناً عدّة، ثمّ نزلوا عنها، وشدّوا الرحال نحو قاعة متحف توسّطها جسد الخراب، فتحلّقوا حوله يرثون مَنْ دُفِنوا، ويواسي بعضهم بعضاً.
هذا ليس معرضاً، بل انتفاضة ألوان، لمّ شمل مع الذكريات ومع الغائبين ومع المستشهدين، إعادة تركيب للتاريخ منذ نكبته، مروراً بفقرات شكّلت عمود ثباته ووقوفه في وجه الاستعمار والاعتداءات المتواصلة، رزنامة أفراحنا وأحزاننا وأعيادنا، ومواسم زيتوننا وبرتقالنا، ’كتالوج‘ لأثوابنا، وغرز إبرنا، وتكسُّر خيطاننا، ونسيج كوفيّاتنا، استعراض لإكسسوارات رؤوسنا وأيدينا، هذا ليس معرضاً، بل هو تكرار لا يملّ لتدرّجات الأزرق في سمائنا، وتموّجات البنّيّ في أرضنا.
شرود في بحر المجاز
هذا ليس معرضاً، بل شرود في بحر المجاز، وانتهال من أنهار القماش المزيّن بالأحداث والشخوص، واستشعار لبرودة العرق الّذي جفّ على جباه الفلّاحين، واستعادة لروائح الرماد والغبار المتفجّر من الأبنية الّتي كانت في ما مضى بيوتاً. هذا ليس معرضاً، بل اصطدام حادّ مع المفاجآت في التفاصيل، وصفعة تذكّرنا أنّنا نقف أمام لوحة قد يكون صاحبها الآن شهيداً نقل صوراً للحياة الحقيقيّة والمتخيّلة، وقد يكون حيّاً مشاغباً مشاكساً مختلفاً يراوغ الطائرات المسيَّرة، ويبقى مختبئاً خلف ريشته الّتي لا تزال ترسم رموزاً تدفع بنا نحو المزيد من البحث في اجزاء الركام.
في حضرة هذه التظاهرة الفنّيّة، الّتي أبت أن تكون معرضاً اعتياديّاً، تتجمّع اللوحات بكثافة وكأنّها حالة نزوح، ومحاولة للبقاء، وأمل في الاستمرار. نقف متقابلين مع بعضنا بعضاً من إرث الشهيد فتحي غبن، وما تركته لنا الشهيدتان هبة زقّوط وشهد نافذ، وكأنّ هذا التجمّع الفنّيّ المهيب صلاة على أرواح الراحلين المتمّمين لواجباتهم الإنسانيّة. أمام هذه الأعمال الّتي أنتجها أصحابها على مدار سنوات، عرف بعضها الحرب والحصار، وعرف بعضها الآخر ظروفاً أفضل، لكنّ كلّ تفصيل في كلّ لوحة يبدو الآن حاضراً قويّاً، مناسباً، مهمّاً، معبّراً محدّثاً عن التاريخ والحضارة والموروث والنضال والأمل.
أكله الذئب
استوقفتني في هذا الفضاء الّذي يفوق القدرة على الاحتواء ثلاث لوحات، اللوحة الأولى للفنّان محمّد السمهوري، وأيقظت في ذهني الآية القرآنيّة "قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُون" (سورة يوسف: آية 14). هذه اللوحة الّتي تحمل على راحتيها بعضاً من الأطفال بملابس ملوّنة لطيفة، وكأنّهم خارجون توّاً من فرح اللعب والقفز بعيداً عن جدران المنازل، لكن على طرف اللوحة الآخر يتربّص بهم ذئاب ذوات أقدام بشريّة تلوّنت بالضبابيّة والعتمة. يقف هؤلاء الأطفال سدّاً بين الذئاب والبيوت، ويدفعون الناظر إلى السؤال عن مصيرهم "أكلهم الذئب".
وإن كان الذئب ذو القدم البشريّة قد أكل أطفالاً فإنّا، إذن، لخاسرون، وعاجزون، نتابع مصير هؤلاء الأطفال، ومثلهم عشرات الآلاف عبر البِكْسِلات الملوّنة المتدافعة المعزّزة بصوت المراسل الصحافيّ. ذئاب كثيرة حاصرت أطفالاً، وتحلّقت حولهم آتية من البرّ والجوّ والبحر، حاصرتهم ولم يعودوا في مأمن قطّ. قد أتت من قِبَل بعض الذئاب في قصص القطاع السابقة، وإن كانت قد غادرت فقد تركت وراءها ظلّاً رماديّاً خانقاً جاثماً فوق صدور الأطفال الناجين، فكبروا محاطين بالعتمة.
قطعت حرب الإبادة الهواء عن مدن القطاع ومخيّماته، قطعت الأوكسجين عن حيوات لا تُحْصى، وكان من بينهم الفنّان فتحي غبن.
في اللامعرض تقف إحدى لوحات غبن حاملة ذكراه الجماليّة الخالدة، تصوّر فتًى مصاباً حاملاً حجراً علّه يدافع به عمّن شكّله وجعل له قضيّة يعيش ويتألّم من أجلها. في هذه اللوحة الّتي تفيض ناراً، يضع الشهيد غبن فتاه الحيّ في مقدّمة النضال، جنديّاً صغيراً ساحراً يقف فوق رمال شقّتها آثار همجيّة المركبات العسكريّة، بقدمين عاريتين، وثياب تشي بالصيف، ويد مكسورة. في هذه الحالة من العناد تورّث المقاومة، حينما لا تكسر الإصابات نفوس الصامدين، في هذه الحالة من الفنّ توثيق لموروث متناقل بين الأجيال متّفق عليه. أمّا في الخلفيّة فقد اختار الفنّان وجهاً آخر للحياة، رجل وامرأة قد يكونان شريكين في حلقة دبكة، ينظر كلٌّ منهما نحو الآخر، غير مكترثين لما يدور في مقدّمة اللوحة، وكأنّهما يحتميان بعنفوان جارف للجيل الجديد، ولربّما ينفعلان لمرأى عدوّ يتراجع منكسراً أمام الإصرار بعد أن أعاد المقاتل الصغير يده  المتكوّرة حول الحجر إلى مكانها، وكأنّه نال مراده، عدوّاً هم يرونه ونحن لا نراه، فيغتبطان، وقد تكون هذه رقصة الموت حين يراوغ الحيّ قدره، محاولاً التشبّث بالقليل المتبقّي من الهواء في الرئتين المتهالكتين، وقد تكون رقصة النار عندما يقف التراث هو الآخر سدّاً منيعاً، يستعرض قواه أمام خصم تداعت قواه.
"هذا ليس معرضاً" – لوحات فنّانين غزّيّين في المتحف الفلسطينيّ، بالتعاون مع "محترف شبابيك للفنّ المعاصر"، و "مجموعة التقاء للفنّ المعاصر" في قطاع غزّة.
البحث
الأرشيف التاريخي