ما بعد عاصفة «الوعد الصادق»
أحمد فؤاد
كاتب ومحلل سياسي
الحرب كونها فعلًا محدّدًا باستخدام السلاح، ومشحونة ببريق البارود والنار والدم، هي وسيلة ضمن وسائل تلجأ إليها الأمم في صراعاتها، أو كما يشرح كلاوزفيتز: «الغرض السياسي هو الهدف من كلّ حرب، والحرب هي وسيلة للوصول إليه، ولا يمكن أبدًا عدّ الوسائل بمعزل عن أغراضها». من هذه النقطة أو المستوى تحديدًا يمكن مناقشة ما جرى في منطقة الشرق الأوسط ليلة الرابع عشر من نيسان، مع انطلاق عملية «الوعد الصادق» المباركة، كعاصفة هائلة مدمرة من الجمهورية الإسلامية إلى قلب كيان العدوّ وواقعه، وربما مستقبله.
الشكل العسكري للضربة وأهدافها الآنية ونتائجها المباشرة ليست من صلب القضية – الآن على الأقل - لم يشأ كاتب الرسالة أن يبوح بتفاصيلها، وتركها كجرس إنذار معلق فوق رؤوس الجميع، وعلى رقابهم. لكن هناك نقاط لا يمكن تفويتها في الرسالة الإيرانية المذهلة. وطبقًا للمتاح من معلومات أكيدة، طهران اختارت أن تقوم بـ»هجوم تاريخي» غير مسبوق على كيان العدو، بعدد صواريخ ومسيرات شكّل صدمة فارقة ومروعة للصديق قبل العدو، وترك انطباعًا محسوسًا بأن غرس جهد وعرق وآلام الثورة الإسلامية طوال 45 عامًا كان شجرة طيبة أصلها في الأرض وفرعها صار اليوم في السماء، وأن ما حققته إيران من تطوّر لافت في مجالات التصنيع العسكري وتفوق علمي، وريادة في سباق التكنولوجيا المتطورة، وإنجازات فريدة في سبيل حيازة عوامل القوّة، وبصيرة إيمانية تتكامل مع رؤية ثاقبة للجمهورية تتمتع بفضائل الجرأة والشجاعة، كلها إشارات إلى بزوغ فجر جديد على هذه المنطقة، باتت معه فرض أنها غنيمة باردة للأجنبي فصلًا منتهيًا، وافتتحت به عصرًا جديدًا دخل فيه محور المقاومة لاعبًا أساسيًا في ميدان الصراع على المنطقة وفيها، وختم فيه بعزة فعل «الوعد الصادق» ومغزاها العميق المحفور في الوجدان والضمير العربي والإسلامي، في أكمل وأروع انتصار عربي معاصر، أزمان التبعية والرضوخ والهوان.
ما هو متحقق بالفعل وعلى الأرض من نتائج جديدة تمامًا هو أن الكيان للمرة الأولى منذ نشأته يعيش ليلة رعب كامل، في انتظار مرور دويّ الانفجارات والصوت العذب لصفارات إنذارها – في قلوبنا - ثمّ أن الأهم هو أن الكيان اضطرّ إلى ارتداء القناع العربي المذل وابتلاع الضربة، كأي نظام عربي مثير للاشمئزاز والاحتقار، عبر تبني رسالة «أن 99% من الصواريخ تم إسقاطها»، ومنع الإعلام الإسرائيلي من نشر أي أنباء أو أرقام عن الخسائر، وحتّى عن نسبة الـ 1% التي يدعيها.
من المهم أيضًا أن تخاصم طريقة تفكيرنا لائحة أهداف أعدائنا، من المؤسف أن الأبواق العربية الخائنة الناهقة الناعقة ليل نهار بقلب عبري ولسان عربي، كانت تردّد قبل الضربة أن إيران لن ترد على الجريمة الصهيونية باستهداف قنصليتها في دمشق، ثمّ صعقتها المفاجأة وزلزال الرد المخيف، وعادت بعدها لتردّد من جراب الحقارة أن ما جرى كان «مسرحية» متفقًا عليها بين أطرافها، وهو طرح ساقط من نفوس رخيصة، قبلت على نفسها الذلة، وتريد أن تصبغ العالم حولها بروثها، حتّى تشبع قلوبهم العمياء بفرية أن الجميع ملوثون.
الحقيقة الوحيدة التي يجب تعميمها أن ما حدث ليلة الرابع عشر من نيسان كان المشهد الثاني لطوفان الأقصى المبارك، مهما بلغت خسائرهم ومهما طال مدى كذبهم بشأنها، فإن طهران كسرت ركيزة الكيان كـ «ملجأ آمن» لكل يهودي في العالم، وكسرت خرافة التفوق الإذلالي للعدو في اللحظة التي تركوا فيها بيوتهم إلى الملاجئ تحت تهديد الصواريخ القادمة من إيران.
ليلة «الوعد الصادق» هي أقرب ما تكون لليلة قدر، قد تغيرت فيها أقدار المنطقة وأوزان الفاعلين الاستراتيجيين فيها، مرة واحدة وإلى الأبد. بعد «الوعد الصادق» لم يعد الكيان حرًا في توجيه الطعنات إلى أي مكان وقتما يريد وحيثما يرغب، عرفت المنطقة أخيرًا معنى «العقاب»، وفي شهر نيسان بالذات، الذي تمرر فيه الذاكرة العربية أحداثًا مفجعة وأليمة، وتاريخ كامل من القهر والموت، في بحر البقر يوم 8، وقبلها في دير ياسين يوم 9، الليلة حصل أطفال العرب على ثأرهم، أو حتّى على جزء معتدّ منه، حين أسقط الحرس الثوري بصيحة «يا رسول الله» المقدسة أسطورة أسوار خيبر الجديدة والقبة الحديدية ومقلاع داوود، إلى مآلها الطبيعي في سلة قمامة النسيان.