«طوفان الأقصى»… بين الاستمرار والانفجار
أحمد الدرزي
كاتب ومحلل سياسي
تعاطى القادة الصهاينة ومعهم الإدارة الأميركية مع عملية «طوفان الأقصى» بشكل مختلف عن كل حروبهم السابقة منذ التأسيس، فقد أدرك الطرفان منذ الساعات الأولى التي تلت العملية بأنهم أمام متغيّر استراتيجي مختلف، ويحمل جعبة هائلة من التهديدات على بقاء الكيان بعد أن تهشّمت صورته التي رسَّخها خلال خمسة وسبعين عاماً في محيطه الإقليمي والدولي، وكذلك الأمر بالنسبة للإدارة الأميركية التي اعتبرت تضعضع الكيان مسألة تصيب مكانة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على العالم في الصميم.
فالفراغ الذي سيتشكّل نتيجةً للهزيمة في منطقة غرب آسيا سيُملأ من قبل محور المقاومة ومن خلفها خصماهما الاستراتيجيان «الصين وروسيا»، ما دفعهما للتعاطي مع الحرب البرية بمنطق الحرب الوجودية والتي لا يُسمح فيها بالهزيمة، ومؤشرات
ذلك متعدّدة.
المؤشّر الأول هو الاصطفاف الموحّد للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بشكل كامل مع الكيان رغم بعض الاعتراضات الخافتة، ابتداءً من الحشد الأكبر للقطع البحرية في شرق المتوسط منذ الحرب العالمية الثانية في بداية الحرب البرية، ومروراً بالدعم العسكري اللوجستي المباشر والمستمر، بما في ذلك مشاركة خفية في إدارة الحرب، إضافة إلى الدعم المالي الكبير، والتغطية الوقحة على الجرائم الكبرى على مرأى من البشرية جمعاء، ومنع وقف إطلاق النار قبل أن يحقّق الكيان نصراً يحميه. المؤشّر الثاني هو تجاوز «الجيش» والمجتمع الإسرائيلي قدرته على تحمّل الحروب زمنياً، حيث بنى حروبه السابقة على العامل الزمني القصير والمحدود، وكانت بعض التوقّعات تعتقد بأن هذا «الجيش» لن يستطيع تجاوز الشهرين في قدرته على الحرب وعليه أن يحسم حربه البرية خلالها، فإذا به قد قارب أشهراً خمسة في حرب لم تتوقّف سوى في هدنة قصيرة. أما المؤشّر الثالث فهو قدرته على تجاوز حجم الخسائر المحتملة حتى الآن في ظاهرة غير مألوفة للمجتمع الإسرائيلي، وهذا ما دفع بوزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت للتصريح: «الخسائر المادية والبشرية التي نتعرّض لها على جبهات القتال في غزة وشمال البلاد (على الحدود مع لبنان) باهظة جداً، إلى حد أننا لم نتعرّض لها منذ تأسيس الدولة قبل 75 عاماً»، وهذه ظاهرة لم تكن مسبوقة في الكيان من قبل.
المؤشّر الرابع هو غياب الانقسام الاجتماعي والسياسي حول أهداف الحرب في غزة حتى الآن، والواضح أن الغالبية الاجتماعية والسياسية تقف خلف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع خيارات استمرار الحرب ومنع وقف إطلاق النار.
قوى المقاومة وحربها الوجودية
تخوض قوى المقاومة حربها المديدة من واقع موازٍ من حيث اليقين بأنها تخوض حرباً وجودية، فوحدة الساحات التي عملت على إطلاقها قبل معركة «طوفان الأقصى» تحقّقت من الناحية الفعلية بإدارتها المشتركة لمعاركها المتنوّعة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، فهي أصبحت مترابطة المصير فإما تنتصر جميعاً وإما تنهزم جميعاً، ولا يمكن فصل أي طرف من أطرافها الذي يعني الموت للجميع.
تدرك هذه القوى بأن العنوان الفلسطيني جامع ويستطيع أن يغيّب كل العناوين الداخلية، إن كان اختلافاً سياسياً أو دينياً أو إثنياً، وهي في حربها مع الكيان دفاعاً عن بقاء فلسطين كقضية مركزية ومساندة حركات المقاومة الفلسطينية بفتح جبهات متعددة، تمنع من الاستفراد بها على مبدأ «أُكلت يوم أُكل الثور الأسود». وإدراكها بأنها موجودة في بيئات منقسمة على نفسها سياسياً بين الشرق والغرب، ما يجعل ظهرها مكشوفاً بالاختراق الأميركي للمجتمعات والقوى السياسية، وهي لا يمكنها إلا الانتصار كي تدفع بالمتردّدين وغير المتردّدين للتفكير ألف مرة قبل الانقضاض عليها وحصارها. لذا تتعاظم مخاطر استمرار الحرب بمستواها الحالي، فرغم العجز الإسرائيلي والأميركي عن تحقيق الأهداف التي وضعاها في حرب الإبادة على غزة عسكرياً، فإن صفرية الحرب تدفعهما إلى استخدام سلاح التجويع والضغط على مدنيّي شمال غزة بالدرجة الأولى، لدفع حركة حماس للاستسلام وقبول تحقيق الأهداف المطلوبة مقابل لا شيء بما يحقّق الانتصار للكيان. ولا يتوقّف الأمر هنا بل يترافق بتبلور نظام إقليمي عربي محيط بالكيان بدأت ملامحه تظهر، ويضم كلّاً من الكيان ومصر والسعودية والإمارات والأردن، وهو يحمل ثقلاً مالياً وعسكرياً بغطاء أميركي يستطيع أن يفرض شروطه على المحور المقاوم المناهض للمشروع الأميركي في منطقة غرب آسيا، لا يتلقّى دعماً كافياً من روسيا والصين في هذا الصراع.