بعد فشلها في السابق
ما هي العوامل التي مكنت طالبان من السيطرة على الوضع في أفغانستان؟
الوفاق/ انهيار نظام الجمهورية في أفغانستان وانتصار طالبان مرة أخرى ليس حدثًا بسيطًا، بل يجب النظر إليه على أنه ظاهرة مهمة ولها اثر على الصعيد الأفغاني والإقليمي والدولي. على الرغم من أن القضايا الأمنية والعسكرية لعبت دورًا لا يمكن إنكاره في انتصار طالبان، إلا أن التفاعلات والمتغيرات السياسية الأخرى على المستوى الإقليمي والدولي لعبت دور العامل الرئيسي في انتصار طالبان. وكان نطاق وحجم هذه التطورات والمتغيرات بحيث لم يتمكن نظام الجمهورية في أفغانستان من إدارتها لصالحه أو الاحتماء من عواقبها. في مثل هذه الظروف، أصبح انتصار طالبان أمرًا لا مفر منه وسريعًا.
ومع ذلك، فإن حركة طالبان لم تكن مستعدة بالقدر الكافي سياسيًا وإداريًا لإدارة أفغانستان. كما أن مقاتلي طالبان لم يكتسبوا أبدًا الخبرة ونظام المؤسسات الوطنية مثل الجيش والشرطة.ومن هذا المنظور، كان من المرجح جدًا في البداية أن يكون استقرار واستمرارية حكم طالبان في أفغانستان بعد عام 2021 أمرًا متقلبًا وغير مؤكد. ولكن على خلاف التوقعات، استقر حكم طالبان في أفغانستان بسرعة واستقر إلى حد ما.
عوامل استقرار حكم طالبان
مع مرور أكثر من عامين على حكم طالبان، ثبت زيف العديد من الفرضيات والتوقعات، وفي الوقت نفسه، أُثبت دور بعض العوامل الحاسمة في تثبيت حكم طالبان. ومن هذا المنظور، فإن العوامل والعناصر التي ساهمت حتى الآن في تأسيس وتثبيت حكم طالبان هي:
منع الاختلافات الداخلية
في بداية سيطرة طالبان وحكمها مجددًا في أفغانستان، كانت توقعات المحللين ومعارضي طالبان أنه ستنشأ اختلافات مدمرة بين الفصائل المختلفة لطالبان أثناء عملية توزيع السلطة وتقاسم المكاسب السياسية. وفي ذلك الوقت، كان الكاتب لهذا النص يعتقد أنه يتم المبالغة في وسائل الإعلام حول الاختلافات الفصائلية داخل طالبان وأنه لا ينبغي للمحللين أن يتأثروا بالمناخ الإعلامي والمجرد. من ناحية أخرى، كان من الواضح تمامًا أن زعماء المقاومة المعارضين لطالبان كانوا يقارنون أنفسهم تمامًا بهذه القضية ويعتبرون نموذج الاختلافات الداخلية بين زعماء المجاهدين في السبعينيات الشمسية نموذجًا سائدًا سيفتت طالبان أيضًا إلى أجزاء. في حين أن ظروف كل مرحلة والبشر في كل من الفترتين لها اختلافاتها الخاصة، كما أن لكل تحول سياسي متغيراته الخاصة.وبطبيعة الحال، لا يمكن إنكار وجود أرضية للاختلافات بين المجموعات المختلفة لطالبان تمامًا، ولكن لا يمكن أيضًا إنكار هذه الحقيقة أنه تم أخذ الدروس من اختلاف السبعينات،و إن أحد أهم العوامل التي ساهمت حتى الآن في تثبيت حكم طالبان هو المحافظة على الوحدة ومنع الانقسامات داخل الأجنحة في حكومة طالبان.
خلق الأمن النسبي من قبل حكومة طالبان
تثبت بيانات الدراسات الاجتماعية الشاملة لعلم اجتماع الحرب وعلم النفس الجماهيري في أفغانستان، نقطة واحدة بوضوح وهي أن الشعب الأفغاني بشكل عام يشعر "بالإرهاق والاشمئزاز من الحرب والعنف".
كان التوقع العام أنه مع تشكيل النظام الجمهوري والدعم الدولي، يتم تأمين الأمن العام في أفغانستان إلى الأبد، لكن لسبب ما، لم يتمكن النظام السابق من توفير الأمن العام في أفغانستان. وعلى النقيض من ذلك، تمكنت حكومة طالبان من توفير الأمن العام في أفغانستان، رغم فرضها قيودًا على الحريات العامة. ساهم هذا الوضع في زيادة ثقة طالبان بنفسها وكسب الدعم الشعبي لحكم طالبان، مما أثر بدوره تأثيرًا كبيرًا في تثبيت حكم طالبان.
دعم العشائر لحكومة طالبان
تثبت الدراسات والتجارب السياسية في أفغانستان أن السلطة السياسية في أفغانستان ذات طابع قبلي. منذ العقد الثاني من القرن 14 الشمسي، بالتزامن مع نمو الأفكار القومية في المنطقة بما في ذلك فكرة التركية في تركيا، حاول حكام أفغانستان آنذاك تعزيز وتثبيت سلطتهم السياسية في أفغانستان على أساس الهوية العرقية والقبلية. على الرغم من أن هذا النوع من السياسات أرسى انقسامات قبلية حادة في أفغانستان، إلا أنه أوجد نوعًا من الوحدة والتضامن الخاص بين السلطة الحاكمة والقومية البشتونية. لهذا السبب تُعتبر فترة حكم كل من الملك ظاهر شاه وداود خان بمثابة فترة السلطة السياسية المطلقة للقومية البشتونية في أفغانستان، في حين تُعتبر التطورات خلال نصف القرن الماضي وخاصة العقدين الماضيين من النظام الجمهوري بمثابة تراجع السلطة السياسية للقومية البشتونية. حتى أن بعض الشباب المثقف البشتون العلماني يدعم حكومة طالبان، جذور هذا الدعم تكمن في ذاك الشعور النوستالجي نفسه لدى البشتون تجاه السيطرة المطلقة للبشتونيين في عهد الملك ظاهر شاه وداود خان. يَرى نخبة البشتون أن طالبان بطريقة ما هي مُحيية للسلطة المطلقة والتاريخية للبشتون.
كان يُنظر إلى حكومة برهان الدين رباني في السبعينيات الشمسية من قِبل نخبة البشتون على أنها انحراف تاريخي ونقل السلطة السياسية من البشتون إلى الطاجيك. ولهذا السبب، فإن جماعة طالبان قامت من بين السكان الريفيين البشتون من المناطق النائية في أفغانستان وأسقطت حكومة رباني. وخلال فترة حكم حامد كرزاي وأشرف غني، تم توزيع السلطة السياسية بين المجموعات العرقية المختلفة إلى حد ما بموجب مبدأ المشاركة السياسية في النظام الجمهوري. وبالتالي ضاع السلطة المطلقة للبشتون. لهذا السبب مَثَّلَ سقوط النظام الجمهوري والعودة مُجدداً لحكم طالبان الانفرادي البشتوني دون مشاركة بقية القبائل والمذاهب الأخرى، استعادة السُلطة البشتونية المطلقة.
إن ما يستحق الملاحظة هو أن هذا الحكم البشتوني الاستبدادي لا يفتقر فقط إلى الأعداء والمعارضين، كما هو الحال في العقود الثلاثة الماضية في مناطق القبائل، ولكن أيضًا طالبان لديها قاعدة استراتيجية وداعمة بين تلك القبائل الريفية التقليدية، وتستمد طالبان وجودها من تربة تلك المناطق نفسها. الانتباه إلى هذه النقطة مهم للغاية في فهم مسار التطورات اليوم وفي المستقبل في أفغانستان. السبب وراء عدم تمكن تنظيم (داعش) الإرهاتبي من التغلغل في تلك المجتمعات القبلية البشتونية الريفية مثل طالبان، يعود بالضبط إلى هذا المنظور البشتوني تجاه السُلطة وتأويلهم لها. يعتقد البشتون أن حكومة طالبان تعمل على استعادة السلطة المطلقة وتعزيز الطابع الملكي البشتوني، في حين أن "خلافة داعش" يمكن أن تهضم وتمتص تلك السُلطة البشتونية المطلقة في إمبراطورية إسلامية مختلفة. وبالتالي، يُعد أحد عوامل تثبيت حكم طالبان هو الدعم القبلي لحكومة طالبان.
ضعف المعارضين السياسيين والعسكريين لطالبان
في بداية عودة طالبان إلى الحكم، كان من المرجح جدًا تشكيل جبهة مقاومة عسكرية قوية ، الأمر الذي كان من شأنه أن يثير تساؤلات خطيرة بشأن استقرار حكم طالبان. ولكن مرور الوقت أثبت أن العديد من الزعماء الجهاديين السابقين فقدوا مكانتهم السابقة في ذاكرة الشعب الأفغاني وفقدوا قدرتهم على تعبئة الرأي العام. وبقدر ما تضاءلت فرص قوة ونجاح المعارضين السياسيين لطالبان يومًا بعد يومٍ، زادت فرص وظروف طالبان المواتية في تثبيت سُلطتها وشرعيتها في الرأي العام الأفغانستاني. من ناحية أخرى، كان نمو تنظيم داعش الإرهابي في أفغانستان بمثابة عقبة رئيسية في طريق توطيد سلطة طالبان، ولكن بسبب عدم انتماء هذا التنظيم إلى أي مجموعة عرقية أفغانية محلية، تمكنت طالبان بسهولة من وضع حد لنمو وانتشار داعش بين القبائل و منعها من امتلاك جبهة محددة أو جغرافيا معينة في أفغانستان.على الرغم من أن كلا من تنظيم الدولة وجبهات مقاومة المعارضين لطالبان لم يختفيا تمامًا، إلا أنهما غير قادرين حاليًا على مواجهة توطيد واستقرار حكم طالبان في المدى القريب.
توافق حكومة طالبان مع النظام الإقليمي
إن النصر العسكري بدون الشرعية السياسية لا يؤدي أبدًا إلى تثبيت الحكم السياسي لأي جماعة. كما أن انتصار طالبان العسكري في تسعينيات القرن الماضي، أدى إلى هيمنة طالبان عسكريًا على أفغانستان ولكنه لم يؤد إلى تثبيت الحكم السياسي لطالبان هناك. وكان ذلك لأنه باستثناء باكستان، لم تعترف أي دولة أخرى بالشرعية السياسية لحركة طالبان، لا الإمارات العربية المتحدة ولا المملكة العربية السعودية.ولكن مع عودة حكم طالبان مرة أخرى بعد انسحاب الولايات المتحدة، تعاملت دول المنطقة بشكل جماعي سياسيًا وقنصليًا مع حكومة طالبان ،وأقامت معها علاقات سياسية. حتى أرسلت الصين رسميًا سفيرها إلى كابل واستقبلت سفير طالبان بمراسم رسمية.ومن هذا المنظور، ساهم التعامل التفاعلي لدول المنطقة والجيران مع طالبان في تثبيت الحكم السياسي لطالبان. وفي المقابل، لم يتمكن معارضو طالبان الذين هم في معظمهم من بقايا النظام السابق في أفغانستان، من كسب أرضية أو دعم إقليمي لتشكيل جبهة ضد طالبان.
الظروف تخدم طالبان
إن الواقع أن شعب أفغانستان قد ملّ من الحرب والصراع. إن استقرار حكم طالبان وعدم وجود قاعدة شعبية للمعارضة السياسية لها، يرتبط أكثر من أي شيء آخر بهذه الحقيقة النفسية والاجتماعية. الواقعة الأخرى هي أن الشعب الأفغاني وقع في براثن الفقر والبؤس حتى أصبح يفكر أكثر في "العمل والخبز" من الأفكار والقيم الديمقراطية. ينظر الشعب الأفغاني في مثل هذه الظروف إلى العدالة بنفس المفهوم الأفلاطوني وبنفس المعيار "التوزيعي". في مثل هذا الوضع، إذا استطاعت حكومة طالبان أن توفر فرص العمل والخبز للناس بعدالة نسبية، فسيتم الاعتراف بها في تاريخ أفغانستان كالحكومة الوحيدة لـ "العدل والرفاهية" التي سيدعمها في المدى المتوسط جزء كبير من الشعب، بينما لن يكون لدى الجزء الآخر حافز قوي لمعارضتها. في هذه الظروف، لن يكون هناك مجال لوجود فعال للمعارضة
البارزة لطالبان.