في إطار التنافس الإقليمي
كيف تسعى كازاخستان إلى تعزيز دورها في أفغانستان؟
الوفاق/ كانت دول آسيا الوسطى فاعلة بشكل مستقل في المجالين الميداني وحتى الدبلوماسي خلال فترة تحول أفغانستان الجديدة بعد انسحاب الولايات المتحدة. وهذا في الوقت الذي كانت فيه جمهوريات هذه المنطقة قبل ذلك تلعب دورًا ثانويًا في التعاون مع القوى الدولية أو الإقليمية في القضايا المتعلقة بأفغانستان. لذلك، يُعد تعزيز دور هذه الجمهوريات وقدراتها افتراضًا أساسيًا للعديد من التحليلات. وفي هذا الصدد، كان لثلاث دول وهي أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان باعتبارها جيران أفغانستان ودول لها مصالح حيوية مرتبطة بهذا الجار الجنوبي، أكبر دور وتفاعل في القضية الأفغانية، وتم تعميم وجودها إلى آسيا الوسطى بأكملها. ومع ذلك، يبدو أن كازاخستان أيضًا، على الرغم من عدم وجود حدود مشتركة مع أفغانستان وانخفاض مستوى التورط في القضايا المتعلقة بتلك البلد، قد بدأت في اللعب دور معين تجاه أفغانستان. وهذا الدور مختلف جوهريًا عن الجمهوريات الثلاث الأخرى من حيث الأهداف و الدوافع، وقد يؤدي إلى نموذج سلوكي مختلف واستجابات متمايزة من حكومة طالبان.
النهج الكازاخستاني
كانت كازاخستان مثل أوزبكستان واحدة من أولى الدول التي بدأت تفاعلها مع طالبان، وأقامت مستوى من العلاقات شبه الرسمية دون الاعتراف الرسمي. احتفظت هذه الدولة بسفارتها في كابول، وعيّنت خلال هذه الفترة سفيرًا جديدًا في هذه السفارة، مما يشير إلى تغير النهج الاستراتيجي لهذا البلد بعد تمكن طالبان.وفي الوقت نفسه، بعد فترة وجيزة من تمكن طالبان، وضعت كازاخستان سفارة أفغانستان في أستانة تحت تصرف قوات طالبان للحفاظ على قنوات الاتصال.وقد شهد العام الماضي أيضًا مستوى عاليًا من التفاعل بين الجانبين. وركزت هذه التفاعلات بشكل مكثف حول المجال الاقتصادي.
ومن مؤشرات هذا النهج التجاري نمو التجارة الثنائية خلال العام الثاني لوصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان. ففي عام 2022، مقارنة بعام 2021 (الأشهر الأولى من وصول طالبان إلى السلطة)، شهد حجم التجارة الثنائية بين كازاخستان وأفغانستان نموًا بنسبة 100٪ تقريبًا، حيث سجلت قيمة 987 مليون دولار. وهذا في الوقت الذي لم تتجاوز فيه التجارة الثنائية بين البلدين 600 مليون دولار خلال عهد الرئيس الأفغاني السابق، أشرف غني، في السنوات السابقة.وخصص جزء كبير من التجارة الثنائية لعام 2022 لواردات أفغانستان من كازاخستان، ولا سيما الدقيق. حيث تُعد أفغانستان، التي تستهلك 1.3 مليون طن، أكبر مشتر للدقيق الكازاخستاني، حيث يمثل ذلك 70٪ من صادرات الدقيق, ومع ذلك، انخفضت هذه التجارة الثنائية في عام 2023 إلى ما يقرب من 600 مليون دولار، مُسجلة انخفاضًا كبيرًا. ويرجع جزء كبير من هذا الانخفاض إلى حظر زراعة خشخاش الأفيون واستبدالها بزراعة القمح في أفغانستان، مما أضعف سوق الدقيق الكازاخستاني في تلك البلد.
كما نظم البلدان في أبريل 2023 منتدىً تجاريًا كبيرًا في كابول، أدى إلى افتتاح مركز التجارة الكازاخستاني في كابول. كما عُقد الحدث التجاري الثنائي الرئيسي الثاني بين البلدين في أغسطس 2023.وشملت محاور هذا الحدث الاقتصادي المشترك اللوجستيات والتعدين والقطاع المصرفي. كما وُقِّع عدد من الوثائق ومذكرات التفاهم التجارية في نهاية الاجتماع من قبل ممثلي البلدين.ومع ذلك، لا تزال القضايا السياسية وخاصة الأمنية تلقي بظلالها على هذه العلاقات. فخلال زيارة وفد طالبان إلى أستانة, طرحت العديد من الانتقادات حول وجود شخصيات مرتبطة بمجموعة إرهابية في البلاد. وكان حجة الحكومة الكازاخستانية أن طالبان لم يتم تصنيفها كمجموعة إرهابية في الأمم المتحدة، وإنما تم وضع أسماء العديد من أعضائها وقادتها فقط على قائمة العقوبات من مجلس الأمن.
وأكدت في الوقت نفسه أن أيا من هؤلاء الأشخاص المدرجين في قائمة العقوبات لم يكن موجودا في الوفد التجاري الأفغاني، وبالتالي لا يشكل أي خطر على كازاخستان.غير أنه وبالنظر إلى القرارات الرسمية للحكومة الكازاخستانية بإدراج اسم طالبان على قائمة المجموعات المحظورة في البلاد، لا تزال هناك تناقضات في هذه المواقف.
وفي أواخر ديسمبر 2023، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الكازاخستانية "آيبيك صمدياروف" في مقابلة مع وكالة الأنباء الحكومية الكازاخستانية أن طالبان لا يتم تصنيفها كمجموعة إرهابية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأنه في ضوء التطورات الأخيرة "أزالت كازاخستان حركة طالبان من قائمة المجموعات المحظورة".
وفي توضيح هذا القرار، أكدت وزارة الخارجية الكازاخستانية أن هذا الإجراء يمكن أن يساعد أفغانستان على الخروج من العزلة الدولية.
الدوافع والأهداف
تختلف دوافع وأهداف كازاخستان من تطوير التفاعل مع أفغانستان اختلافًا واضحًا عن بقية دول آسيا الوسطى. ويرجع هذا الاختلاف الرئيسي إلى الاختلاف في الموقع الجغرافي وانعدام الترابط الجيوسياسي بين البلدين.
وبناءً عليه، يمكن تلخيص أهم الدوافع والأهداف للبلد على النحو التالي:
-منذ بداية الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا، كان أحد النهج الاستراتيجية الرئيسية لدول آسيا الوسطى في مجال السياسة الخارجية هو التوجه نحو الجنوب وتنويع السياسة الخارجية. وعلى هذا الأساس، يُعتبر تطوير العلاقات مع أفغانستان بمثابة مقترح استراتيجي يشكل جزء من السياسة الخارجية لهذه الدولة. ويتم طرح هذا المنظور في الإطار السياسي والاقتصادي والجيوسياسي وخاصة الجيواقتصادي.
- ترى العديد من التحليلات أن مقاربة كازاخستان تجاه أفغانستان تتأثر بالسوق والرؤية الاقتصادية لهذا البلد، ويركزون أقل على العوامل السياسية والأمنية. وقد أكد معظم المحللين الكازاخ تقريبًا في آرائهم الخبيرة على مدار العام الماضي أن أفغانستان لا تشكل في الواقع تهديدًا خطيرًا لكازاخستان.
غير أن المنظور الاقتصادي البحت لم يكن هو المقصود أيضًا. فالرؤية الكازاخستانية تجاه أفغانستان تتجاوز الاقتصاد لتركز على الفرص السياسية. كما تبلورت هذه الرؤية في اختيار لا مفر منه. فمن بين الخيارين، قطع العلاقات وتجاهل الوضع، أو تطوير علاقات غير رسمية، اختارت كازاخستان الخيار الثاني وفقًا لمنظور عملي.
- غياب التهديد الأمني يُعتبر حافزًا رئيسيًا بالنسبة لكازاخستان. نظرًا لعدم وجود حدود مشتركة وانعدام الأقليات البشتونية الكبيرة أو المهاجرين الأفغان في كازاخستان، فإن التهديدات الناجمة عن هذه التفاعلات تكون أقل بكثير بالنسبة لكازاخستان مقارنةً بدول مثل أوزبكستان وطاجيكستان. ونتيجة لذلك، تأتي الأمن القومي كأولوية ثانوية في تفاعلات كازاخستان مع أفغانستان، وهو ما يمثل ميزة نسبية لأستانة. فعدم التبعية الأمنية يتيح مرونة سلوكية في التعامل مع طالبان، ويمكن أن تكون هذه الميزة النسبية فعالة بشكل خاص في سياق المبادرات الوساطية الغربية وحتى الروسية والصينية. إذ حال المحافظة المفرطة لأوزبكستان بسبب اعتبارات الأمن القومي دون لعب مثل هذا الدور. وبناءً عليه، من المحتمل أن نرى زيادة دور كازاخستان مقارنةً بأوزبكستان على المستوى الدولي في المستقبل القريب.
- ظهرت آسيا الوسطى خلال السنوات الأخيرة باعتبارها منطقة مستقلة صاعدة. والسمة الأبرز لهذه المناطق هي وجود أقطاب إقليمية وديناميكيات تنافس بينها. وتُعتبر كل من كازاخستان وأوزبكستان قطبين إقليميين، وعلى الرغم من مستوى التعاون المرتفع بينهما إلا أن هناك ديناميكيات تنافسية، لا سيما في التطورات الإقليمية. ويشكل هذا الأمر جزءاً من الحافز والأهداف لكازاخستان من المشاركة في قضية أفغانستان. حيث يتجلى هذا التنافس على المستوى الإقليمي من خلال التفاعل مع طالبان وقدرة هذا البلد على السيطرة وكبح جماح طالبان من خلال أدوات استراتيجية. كما أن تبعية أوزبكستان لأفغانستان في مجال الأمن، ولا سيما رافعة المياه مع إنشاء قناة قوش تبه، حالت دون تقديم المزيد من الخدمات لهذا البلد. وفي هذا السياق، ترغب كازاخستان في ملء هذا الفراغ.
كما تسعى كازاخستان، خاصًة في عهد توكاييف ، إلى إشراك نفسها في قضية أفغانستان. لقد شددت هذه الدولة أكثر من أي بلد آخر في العالم على أهمية الأمن الغذائي في أفغانستان. كما سعت كازاخستان إلى تشكيل علامتها التجارية باعتبارها بلدًا نشطًا في المجال الإنساني من خلال تقديم الحصة الأساسية للمواد الغذائية إلى أفغانستان. إذ قدمت أكثر من 10 آلاف طن من المساعدات الإنسانية الغذائية ووفرت أكثر من مليون طن من الأغذية اللازمة لأفغانستان، الأمر الذي صعّب المنافسة مع كازاخستان في هذا المجال.
- كما هو الحال مع أوزبكستان، يتمثل جزء من الرؤية الاستراتيجية لكازاخستان تجاه أفغانستان في مجال النقل العابر والاقتصاد الجغرافي بشكل عام. إذ تعتبر كازاخستان من داعمي ممر ترانس أفغان، كما ترى أفغانستان خيارًا محتملاً للوصول إلى المياه الدولية جنوبًا. وتشارك الشركات الكازاخستانية في بناء وإعادة تأهيل البنية التحتية السككية الحديدية في أفغانستان، فضلاً عن العقد الكبير لبيع قاطرات الديزل، مما يدل على هذا الاهتمام.
ومع ذلك، ما زال من غير الواضح ما إذا كان هذا النهج المشترك بين أوزبكستان وكازاخستان وحتى تركمنستان يمكنه التغلب على الظروف الأمنية والمخاطر في أفغانستان أم لا. وعلى أي حال، ينبغي ألا ننسى أن كازاخستان تمثل خيارًا مهمًا للمشاركة في توفير رأس المال لهذا المشروع.
آفاق المستقبل
نهج كازاخستان في الوقت الراهن أساسا اقتصادي. غير أن الأبعاد السياسية لهذا النهج آخذة في التعزز أيضًا. فكازاخستان ليس لديها تأثير كبير على الأقليات العرقية في أفغانستان، وعلى عكس طاجيكستان وأوزبكستان، فهي لا تتمتع على المستوى الميداني بالكثير من الإمكانات لجمع المعلومات أو اتخاذ إجراءات تشغيلية أخرى. ومع ذلك، تتمتع كازاخستان بالكثير من القدرات والمزايا على المستوى الدولي. فأفغانستان تعتمد اعتمادًا كبيرًا على كازاخستان في مجال الصناعات الغذائية، و التركيز على المجال الاقتصادي وتطوير العلاقات التجارية في الفترة الحالية، فهو استراتيجي من ناحية بناء الأصول المؤثرة.كما تتمتع كازاخستان على الصعيد الدولي، وخاصةً في إطار منصات سياسية متعددة الأطراف بمشاركة القوى الكبرى، بخبرة وقدرات سياسية أكبر من أوزبكستان.
وبالتالي، من المحتمل أن تحاول التركيز على هذه الميزة النسبية من أجل نقل مركز صنع القرار بشأن أفغانستان من طشقند وسمرقند إلى أستانة وألماتي.وطبعًا سيكون هذا الاتجاه مكلفًا بالنسبة إلى أوزبكستان، وقد يتحدى العديد من النواتج السياسية لإجراءات هذا البلد في السنوات الأخيرة. وبالتالي، من المحتمل أن نشهد على مستوى معين تغيّر سلوك أوزبكستان كنتيجة لاعتماد هذه الاستراتيجية من قبل كازاخستان. وقد يكون تبني سياسات أكثر تشددًا من قبل أوزبكستان تجاه طالبان واحدة من مؤشرات هذا التغير في السلوك.