خبير تربوي لبناني للوفاق:
المناهج الدراسية العربية... تغييب للقضية الفلسطينية وتسويق لصورة العدو
الوفاق/ خاص
عبير شمص
شكلت القضية الفلسطينية العنوان الأساسي لاهتمامات العالم العربي، فمنذ نكبة فلسطين عام 1948، اعتبر العرب فلسطين قضيتهم المركزية وتقدمت لتحمل رأس سلم أولويات الخطاب الرسمي العربي. وكان طبيعياً أن تواكب البرامج التعليمية هذه التوجيهات، وأن تضج صفحات الكتب المدرسية بالحديث عن القضية الفلسطينية وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ومقاومته البطلة. إلاّ أن تغليب منطق التسوية السياسية والمفاوضات الخفية، خفف من حدة اللهجة في معالجة القضية الفلسطينية، فانخفض مؤشر الاهتمام بها والتركيز عليها وخف تناولها في المناهج والكتب المدرسية إلى أن انطفأ تماماً ولم يترك له أثراً يُذكر.." وفي سياق التعرف على واقع القضية الفلسطينية الحالي في المناهج الدراسية العربية والمعوقات والتحديات التي تعوق تضمينها وسُبل التغلب على تلك التحديات، التقت صحيفة الوفاق مع الخبير اللبناني التربوي والسياسي الدكتور ماجد جابر وكان الحوار التالي:
صورة الفلسطيني المقاوم في الكتب الدراسية العربية
تراجع تقديم صورة المقاوم الفلسطيني بشكلٍ كبير في الكتب الدراسية العربية، مقارنةً عما كانت عليه الأمور حتى سبعينات القرن الماضي، وفق الدكتور جابر:" إذ أن دول عربية متعددة، سيّما تلك التي أبرمت اتفاقيات مع العدو الاسرائيلي، أو أنها تُمهد لفعل ذلك، لا تتطرق في كتبها الدراسية إلى صورة المقاومة الفلسطينية في الحق المشروع باستعادة أرضها، واستعادة حرية شعبها، بل أن البعض يكاد يصورها على أنها فصائل خارج شرعية الدولة المتمثلة بالسلطة الفلسطينية المطبعة مع الكيان الإسرائيلي. أبعد من ذلك، حتى الدول العربية التي تعتبر أن قضية فلسطين القضية المحورية الأولى، فإنها تمر على هذه القضية، وَعلى ذكر الفلسطيني المقاوم بشكلٍ وصفي موجز، وكأنه نوع من رفع العتب".
"أمّا الدول التي ما زالت تُقدم لمحة عن صورة الفلسطيني المقاوم في مناهجها الدراسية، فيتم ذلك عبر تعليم التاريخ والثقافة الفلسطينية في الكتب المدرسية عبر استعراض التضحيات والنضالات التي قام بها الشعب الفلسطيني للحفاظ على هويته واستعادة حقوقه المشروعة، وذلك عبر النصوص الأدبية والشعرية لإبراز الصورة المقاومة للشعب الفلسطيني. فمن الممكن استخدام قصائد وقصص تحكي عن المقاومة والصمود الفلسطيني وتُعبر عن رغبة الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة، وعبر تضمين المحتوى التعليمي معلومات جغرافية عن الأراضي الفلسطينية والمناطق المحتلة والمستوطنات وتسليط الضوء على العلاقات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الفلسطيني ودورها في المقاومة، كما تُقدم صورة الفلسطيني المقاوم عبر ذكر أسماء الشخصيات التاريخية والرموز الفلسطينية المهمة لتعريف التلامذة بدورهم في المقاومة والدفاع عن الحقوق الفلسطينية"، يشرح الدكتور جابر.
غياب شبه كامل لتاريخ قضية فلسطين
يوضح الدكتور جابر إلى أن اهتمام جميع الدول العربية في مناهجها الدراسية، بقضية فلسطين لا يرقى إلى الحد الأدنى المطلوب لإبقاء هذه القضية حيةً في وجدان وضمائر الشعوب أو الأجيال العربية، ولولا وجود بعض حركات المقاومة مصحوبة مع إعلام يواكبها، لربما أصبحت هذه القضية منسية ومطموسة، لذا يُمكن القول أنه لا يوجد تمايز كبير بين الدول العربية في نشر قضية فلسطين، رغم أن بعض الدول، بحكم اعتبارات مرتبطة بوجود لاجئين فلسطينيين على أراضيها، فضلاً عن الحدود المشتركة مع فلسطين المحتلة، مما ولّد نضالاً مشتركا مع الفلسطينيين تجاه هذه القضية، كالأردن ولبنان وسوريا، وأيضَا قطر تتطرق الى هذه القضية أكثر من بعض الدول كما ظهر في مناهجها الأخيرة، هذا دون إغفال دور المناهج الدراسية في قطاع غزة والتي تبرز بشكلٍ قوي هذه القضية، وحث الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي". ويشرح الدكتور جابر واقع المناهج الدراسية في البلدان العربية فق المعلومات المتوفرة ففي الأردن، هناك شبه غياب لقضية فلسطين في المناهج، سيّما بعد توقيع معاهدة السلام (وادي عربة ١٩٩٤)، أمّا في الضفة الغربية فقد حذف الاحتلال الاسرائيلي كل ما له علاقة بقضية فلسطين َوالهوية العربية من المناهج. وفي لبنان حازت قضية فلسطين على نسبة 0.3 % من منهاج التاريخ (٣ صفحات من اصل ١١٥٥صفحة)، وهي في الصف التاسع وكانت ملغاة لفترة، قبل أن يتم العمل بها بعد ضغوط لتحقيق ذلك.
ويتابع الدكتور جابر حديثه :" تراجعت في كثير من الدول العربية اللغة الثورية لقضية فلسطين، وحُذفت غالبية مواد القضية الفلسطينية في المناهج الجديدة، سيّما في مرحلة التعليم الابتدائي، في مصر تقلص تناول هذه القضية منذ عام ٢٠٠٢، حتى أن المناهج المصرية، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد عام ١٩٧٨، تجنبت استخدام المصطلحات التي تشير إلى حقيقة الكيان الصهيوني، كمصطلحات الاستعمار الصهيوني، أو الإرهاب الصهيوني أو العصابات اليهودية، لصالح مصطلحات أخرى كالعناصر العسكرية، بدلاً من العصابات المسلحة على سبيل المثال، وفي العراق تقلص تناولها في الكتب المنهجية خصوصاً بعد العام ٢٠٠٣، وفي الجزائر لا تُركز المقررات الدراسية على قضية فلسطين بالشكل المطلوب، رغم ارتباطها بالنضال الوطني الجزائري للتحرر من الاستعمار وما قد تتناوله المناهج، في أفضل الأحوال هو الإشارة الوصفية إلى حق الفلسطينيين بالتحرر من الاستعمار".
لا يختلف هذا الواقع في بلدان الخليج الفارسي، يقول الدكتور جابر:" ففي الكويت بعد تعديل المناهج الأخيرة، والتي تم وضعها بالشراكة مع البنك الدولي، لا تتم الإشارة مباشرةً الى قضية فلسطين، أو إلى أي شخصية فلسطينية، بل يتم التطرق الى الصراع العربي الاسرائيلي كتحدٍ يواجه الوطن العربي، وفي سلطنة عمان غُيبت قضية فلسطين عن المناهج الأخيرة، ويعود السبب إلى موقفها من المسار السلمي في حل قضية فلسطين، وهو مسار اتخذته السلطنة منذ عام 1979، إذ لم تقطع علاقاتها مع مصر حين قاطعها العرب جميعاً. ونتيجةً لهذا التوجه، حُذفت بعض الفقرات والمصطلحات المتعلقة بقضية فلسطين من المناهج التي أُقرت بعد عام 1979، أمّا في قطر فنرى إضاءة في منهاج اللغة العربية على قضية فلسطين عبر بعض نصوص الشعر والنثر، والتعامل معها كإحدى قضايا العالم الإسلامي في منهاج العلوم الاجتماعية".
معوقات وموانع إدخال القضية الفلسطينية في الكتب الدراسية
هناك العديد من المعوقات التي تحول دون إدخال القضية الفلسطينية في الكتب المدرسية العربية، يُعددها الدكتور جابر، أولاً: التأثيرات والضغوط السياسية الدولية، لا سيّما الاميركية، والضغوط المحلية من قبل مسؤولي السلطة في الدول والموالين للغرب والولايات المتحدة، ثانياً تخوف بعض الأنظمة العربية من تأثيرات سلبية قد تدفع دول خارجية أو جماعات داخلية الى زعزعة الاستقرار السياسي، وإثارة القلاقل والتوترات في الشارع والمجتمع، ثالثاً: تأثيرات اللوبي الصهيوني عبر الأجهزة والجمعيات للضغط على صناع القرار التعليمي لتحييد موضوع قضية فلسطين عن المناهج التعليمية.
وأخيراً إملاءات البنك الدولي الذي يقوم بتمويل العديد من الدول العربية لوضع مناهج جديدة، إذ يفرض تحييد موضوع قضية فلسطين من المناهج تحت طائلة حرمان الدول العربية من الدعم المالي، وذلك على منطق: من يدفع يأمر qui donne, ordonne
نجاح محدود في التسويق لصورة العدو
يشير الدكتور جابر إلى أن العدو الصهيوني وتاريخ تواجده في المنطقة العربية في الكتب المدرسية يُعرف عبر الإشارة الى وضع بلفور عام 1917، ونكبة 1948 ، إلى جانب بعض الحروب في أعوام 1967 ، و1973 واجتياح لبنان عام 1982، وبالتالي، فإن الاضاءة على وجود الكيان الصهيوني ليست واسعة، وإنما إضاءة على بعض المحطات التي شن فيها الكيان حروبه على العرب، إذ تغفل المناهج عن الحديث على المخططات والحركات والتي مهدت لها الصهيونية لاحتلال فلسطين عام 1948، وما سبق ذلك من مؤامرات كبيرة".
ويكمل حديثه بالقول:"هذا وقد نجح العدو الصهيوني بشكلٍ جزئي، في بعض الدول في التسويق لصورته، وفشل بشكلٍ كلي في دولٍ أخرى. ففي بعض الدول التي نجح فيها عبر اعتماد مصطلح دولة "إسرائيل" في الكتب، وكتابة كلمة "إسرائيل" بدلاً من فلسطين على الخارطة، فضلاً عن تناول قضايا السلام والحل السلمي، مع هذا العدو، أو الإشارة إلى التجارة والصادرات والواردات بينه وبين بعض الدول العربية، خصوصاً الدول التي وقعت اتفاقيات سلام معه، وتربطه فيه علاقات التطبيع، ووضع صورة العلم الإسرائيلي إلى جانب الأعلام المرفوعة على مباني الأمم المتحدة أو السفارات الصهيونية في بعض الدول العربية، بيد أن بعض الدول العربية الأخرى، ورغم أن موضوع قضية فلسطين في مدارسها لم يرق الى المستوى المطلوب، إلاّ أنها في المقابل، تمنع كل ما يدل على حق هذا العدو بشبرٍ واحد من فلسطين، أو حتى الاعتراف باسمه على أرض فلسطين، أو كل ما من شأنه التمهيد للتطبيع".
التاريخ الفلسطيني المقاوم في الكتب الدراسية
يلفت الدكتور جابر إلى أن:" تقديم التاريخ الفلسطيني المناهض للصهيونية في الكتب العربية يتفاوت بين بلدٍ إلى آخر ومن منهج تعليمي إلى آخر. في بعض الدول العربية، يتم تضمين وجهات نظر معادية للصهيونية في المناهج التعليمية والكتب المدرسية، بينما يتم توضيح التاريخ الفلسطيني والتركيز على قضية فلسطين كنزاع تاريخي وسياسي مستمر مع الاحتلال الصهيوني في دولٍ عربية أخرى"، ويقدم الدكتور جابر مثالاً على ذلك": قد تتضمن الكتب المدرسية في بعض الدول التي ما زالت تؤمن بحياة قضية فلسطين وجوهرها في الصراع العربي مع الكيان الصهيوني، ما يلي: التركيز على المطامع الصهيونية في الوطن العربي، والسعي الحثيث للصهيونية العربية بتفتيت الوحدة العربية، وإثارة الشقاق والفتن بين الدول العربية، وبين أفراد مجتمعاتها. وكذلك الإضاءة على التاريخ الفلسطيني القديم وتاريخ الشعب الفلسطيني في المنطقة قبل تأسيس الكيان الصهيوني الغاصب، إذ يُعرض تاريخ المدن الفلسطينية القديمة والحضارات والثقافات التي ازدهرت في الأراضي الفلسطينية على مر العصور. وتسليط الضوء على تطور الهوية الوطنية الفلسطينية والحركات الوطنية التي نشأت لدعم حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومة الاحتلال الصهيوني. كما يتم تسليط الضوء على النزاع الفلسطيني-الصهيوني عبر تقديم تفاصيل حول الصراعات التي نشأت نتيجة لهذا النزاع، بما في ذلك الهجمات العسكرية والتهجير والاستيطان الصهيوني. وكذلك على المجازر التي قام بها الكيان المحتل في حروبهم على البلاد العربية، وكذلك الإضاءة على الحروب-الصهيونية تجاه بعض الدول العربية والهجمات العسكرية على مصر وسوريا واجتياح لبنان، وأخيراً تسليط الضوء على حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حق العودة للاجئين الفلسطينيين وإنهاء الاحتلال الصهيوني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة".
بناء سلوك معرفي معارض للتطبيع
يوضح الدكتور جابر إلى أنه لبناء سلوك مؤسس على إطار معرفي واضح ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، يمكن للمدارس في الوطن العربي اتخاذ عدة إجراءات في هذا المجال:
- تضمين المحتوى التعليمي النصوص والمفاهيم التي تعزز الوعي حول قضية فلسطين ويشرح تاريخ الصراع والاحتلال الصهيوني، وتقديم معلومات دقيقة وموثقة عن حقوق الشعب الفلسطيني والانتهاكات التي ترتكب ضدهم.
- تثقيف سياسي شامل للتلامذة حول قضية فلسطين والصراع الصهيوني. إذ يجب تعزيز الوعي بالقيم والمبادئ العادلة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية للفلسطينيين، وحق الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي بشتى الوسائل الممكنة على تشكيل أندية ومنظمات طلابية تهتم بالقضية الفلسطينية والمشاركة النشطة في الأنشطة والفعاليات ذات الصلة، وإتاحة المجال للتلامذة والطلاب المشاركة في مناقشات وأنشطة وحملات وندوات وورش عمل وفعاليات ثقافية تُسلط الضوء على التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض التطبيع".
- تعاون المدارس مع المجتمع المحلي والمؤسسات الثقافية والسياسية ذات الصلة لتنظيم نشاطات وحملات توعية حول التطبيع وتأثيره على قضية فلسطين.
- توفير وتقديم المدارس لنماذج قوية من القادة والشخصيات العربية التي تعارض التطبيع وتدعم حقوق الشعب الفلسطيني وتساند قضيته ، كذلك يُمكن تضمين قصص وسير ذاتية للأفراد الذين قاوموا التطبيع وعملوا من أجل العدالة الفلسطينية، وقاوموا وناضلوا من أجلها.
- تشجيع الطلاب على النقاش والتحليل النقدي لقضية فلسطين والتطبيع، وتشجيعهم على البحث عن مصادر موثوقة وتقييمها بشكل مناسب، وكشف الأساليب الخفية التي يمكن بواسطتها التسلسل لتحقيق التطبيع الخفي عبر المناهج".
إبقاء قضية فلسطين حية رغم التبدلات السياسية
لإبقاء مفهوم القضية الفلسطينية حيًا في بُعده المعرفي، بغض النظر عن التبدلات السياسية والتغيرات في منطقة الشرق الأوسط، يجب اتخاذ الإجراءات التالية التي يُعددها الدكتور الجابر كالتالي: التعليم والتوعية المستمرة بقضية فلسطين في المدارس والجامعات والمراكز الثقافية، اذ ينبغي توفير فرص تعلم مستمرة للطلاب والشباب حول التاريخ والثقافة والهوية الفلسطينية، بالإضافة إلى التوعية بالقضايا السياسية والحقوق المستمرة للشعب الفلسطيني، وتشجيع البحث والتحليل النقدي لقضية فلسطين والتطورات السياسية المحيطة بها. إذ يجب تعليم الطلاب كيفية البحث عن مصادر موثوقة والتحليل النقدي للأحداث والتغيرات الجارية في المنطقة لمعرفة حقيقة الأهداف الصهيونية، وإن محاولات التطبيع والسعي منها لتوقيع اتفاقيات مع الدول العربية، يهدف بالدرجة الأولى إلى قتل القضية وإنهاء مبررات النضال لأجلها، كذلك استخدام الفن والأدب والشعر والموسيقى والسينما كوسائل للتعبير عن القضية وتعزيز وعي الناس بها، عبر تنظيم فعاليات ثقافية ومعارض فنية وعروض أفلام تُركز على القضية وتعكس صوت الشعب الفلسطيني، العمل الجماعي والتضامن مع الشعب الفلسطيني والحركات النضالية الفلسطينية عبر تنظيم حملات تضامنية ومظاهرات سلمية وفعاليات لدعم الحقوق الفلسطينية والضغط السياسي لتحقيق العدالة، استخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إذ يمكن استخدامها لنشر الوعي بقضية فلسطين وتوضيح الحقائق والأحداث الجارية. كما يُمكن إنشاء مواقع وصفحات إلكترونية وإطلاق حملات توعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الرسائل والمعلومات الصحيحة حول القضية، وأخيراً العمل مع المجتمع الدولي والمنظمات والهيئات الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني والتأثير في صنع القرارات السياسية ذات الصلة، إذ يجب العمل على تعزيز الوعي العالمي والضغط الدولي لتحقيق العدالة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي".