فيما يصفون حركة حماس بمؤامرة صهيونية
السلفية المدخلية.. أداة آيديولوجية في أيدي السعودية
الوفاق/ خاص
سيد هاشم رضوي
في الأسابيع الأخيرة، وفي الوقت الذي نشهد فيه ضغوط الرأي العام على رؤساء الدول العربية للمطالبة باتخاذ موقف جدي ومؤثر من جرائم "إسرائيل" في غزة، شهدنا تكثيف أنشطة بعض السلفيين، رغم مرور نحو ثلاثة عقود على ظهورهم في بعض دول المنطقة، ولكن لعدة أسباب، لم تتح لهم الفرصة للظهور بهذا الشكل.
الجاميون أو المدخليون هم مجموعة من السلفيين ظهرت في أوائل التسعينيات بعد احتجاجات ضد التعاون العسكري لحكومات الخليج الفارسي مع الغرب، وخاصةً الولايات المتحدة، وبرروا وجود قوات أجنبية في هذه الدول. وبشكلٍ عام، لعل أبرز ما يميز هذه المجموعة هو التبرير الأيديولوجي لسلوك زعمائها دون مراعاة لمبادئ وأحكام الدين والأخلاق.
تأسست الجامية (التيار الجامي) على يد محمد أمان الجامي، وهو مهاجر من إثيوبيا ومقيم في المدينة المنورة، لكن وفاته عام 1996 دفعت ربيع بن هادي المدخلي، وهو مهاجر من اليمن أيضاً، إلى مواصلة مسيرته، ومن خلال استكمال نظريات محمد أمان الجامي قام بتأسيس نظريات المدخلية.
وحتى الآن حددت هذه الحركة وأصرت على الحفاظ على الوضع الراهن في الدول الإسلامية وتجنب أي ثورات وتحولات وتغييرات في الحكومات كأحد مبادئها، ولكن في عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حملات وحشية من قبل الكيان الصهيوني على غزة وأيضاً تقاعس أو حتى تعاون بعض حكام الدول الإسلامية مع الكيان الصهيوني في الاعتداء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية كان بمثابة إنذار، مما جعل الكثيرين يتساءلون، إلى أي مدى يمكن أن تصل القدرة على تبرير السلوك الحاكم للمدخليين؟
المدخليون وعملية طوفان الأقصى
في الأيام التي أعلن فيها العديد من علماء السنة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي تأييدهم لعملية حماس الشجاعة في 7 أكتوبر وطلبوا مساعدتهم، شكك المدخليون في نتيجة عملية طوفان الأقصى، كما شككوا في شرعيتها وحكمتها.
ومن خلال تحذير المسلمين في الدول الأخرى من التورط في هذه العملية، بحجة عدم وجود فتوى من العلماء وعدم اعطاء ولي العهد الاذن بذلك، حاولوا قطع أي طريق ممكنة أمام المتطوعين للانضمام إلى المقاومين عن طريق إعلان عدم شرعية دفاع أهل غزة عن أراضيهم المحتلة.
وإن إلقاء اللوم على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية كان أحد الأساليب الأخرى التي اتبعها هذا التيار في الأسابيع الماضية. وعلى الرغم من أن حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية تعرضت دائماً لانتقادات من قبل الحركات السلفية والسلفية الجديدة بسبب ارتباطها بإيران وحزب الله، إلا أنها في ظل السلوك السلبي للدول الإسلامية الأخرى، وغياب الدعم المؤثر للمقاومة الفلسطينية، ومن ناحيةٍ أخرى، المساعدات السخية لمحور المقاومة، فقد تم تبرير هذه العلاقة بشكلٍ أو بآخر من قبل العديد من هؤلاء المنتقدين وقد أعطوها الشرعية بدافع الضرورة. ومع ذلك، ففي الأيام القليلة الماضية، ومن دون الاهتمام بالظروف الدفاعية للمقاومة الفلسطينية والحرب غير المتكافئة المفروضة عليها، لم يتهموا حماس بتنفيذ أوامر طهران فحسب، بل إنهم وفي رواية شاذة، قدموا هذه المجموعة المناهضة للکیان الصهیونی على أنها نتاج مؤامرة الكيان الصهيوني لعزل المنظمات ذات الحكم الذاتي.
إن إهمال دور الكيان الصهيوني في هذه الجريمة من قبل المدخليين والتأكيد على خطأ حماس وإيران وحزب الله وفصائل المقاومة الأخرى، بينما يدين الآلاف من الناس في مختلف البلدان الفظائع الصهيونية في غزة كل يوم، يدل على وجود خلل في النظام، وترى هذه الجماعة أنه من الضروري دراسة عقيدتهم وتنظيمهم الفكري.
وقد حاولت السعودية التي أعجبها اللعب بأوراق الدين منذ عهد محمد بن عبد الوهاب، تعظيم الاستفادة من هذه الميزة بأقل تكلفة ممكنة. وكما استخدم عبد العزيز جماعة إخوان التوحيد لتأسيس الحكومة السعودية الثالثة، فإن ابنه فيصل، في الستينيات، إبان الخلاف بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر، بهدف مكافحة موجة القومية الناصرية، قام بتجنيد قوى الإخوان الفعالة المطلوبين في مصر، وقبلهم وعهد إليهم بدين السعودية.
وفي أواخر السبعينيات، وبعد تراجع التيار القومي لعبد الناصر، كاد الإخوان يحكمون الشؤون الدينية في السعودية؛ من المساجد إلى المدارس والجامعات ووزارة الشؤون الإسلامية، وقد تم الاستيلاء على السعودية، وكانت إحدى النتائج المؤسفة لهذا النفوذ الواسع النطاق على السعودية، والذي تمثل في تهميش الوهابية وانتشار السلفية الجهادية.
إن القضاء على خطر عبد الناصر من جهة وحادثة احتلال الحرم المكي من قبل جهيمان العتيبي من جهةٍ أخرى، فضلاً عن القلق من خروج المؤسسة الدينية بشكلٍ كامل عن سيطرة الحكومة جعل السعودية تسعى للسيطرة على نهج الإخوان وسعودة هذه المؤسسة مرةً أخرى. ولذلك فإن الشباب السلفيين الجدد مثل سلمان العودة وسفر الحوالي، وهم في الأساس سلفيون، حاولوا خلط الأصولية الوهابية بمنفعة الإخوان وتقديمها للشباب المتعطش للدين وقد تم دعمهم من قبل الحكومة ووجدوا مجالاً واسعاً للنشاط.
لكن دعم السلفيين الجدد، مثل تقديم الدعم لجماعة الإخوان المسلمين، لم يكن له نتيجة سارة بالنسبة للسعودية. وقد شهدت فترة الثمانينيات في السعودية موجة من الإسلاموية تحت تأثير متغيرات مثل الجهاد في أفغانستان وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان لابد للحكومة أن تستسلم لها وترافقها لكي لا تتخلف عن المسار الخطير لتطورات تلك السنوات.
واستمر هذا الوضع حتى عام 1991 واحتلال العراق للكويت وهجوم صدام الصاروخي على المدن السعودية ولكن مع شعور قادة الرياض بالتهديد من الجار الشمالي وطلب المساعدة من الغرب، ونتيجةً لذلك، زحفت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الخليج الفارسي، وظهرت حركة بين السلفيين الجدد السعوديين بشكلٍ رئيسي، والتي تبنت راية معارضة الوجود العسكري الغربي في المنطقة، وتحولت فيما بعد إلى "تيار الصحوة".
إن الفكر الذي يعرف اليوم بـ "المدخلي" أو "الجامي" أثير جدياً لأول مرة عندما واجه محمد أمان الجامي وربيع المدخلي الصحويين بمهمة إضفاء الشرعية على تحالف الحكومة السعودية مع الولايات المتحدة وتبرير وجودهم العسكري.
الإطار الفكري للمدخلية
إن "بيت الغزل" و"خيط المسبحة" هما الفكرة الأساسية للطاعة المطلقة للحاكم والدفاع اللامحدود عنه. سواء كان حاكماً أو أميراً أو سلطاناً، أو قائداً تولى عباءة السلطة بالانقلاب العسكري واللجوء إلى القوة. إن الأرض الخصبة والبيئة المناسبة لتوسع وتطور هذه الطائفة هي في الأساس الدكتاتوريات والحكومات الأسرية أو الناتجة عن الانقلابات العسكرية ولذلك، ربما يكون أحد أسباب معارضة الديمقراطية هو استحالة العيش في مثل هذه الأنظمة الحكومية.
منذ البداية، لم يقبل هذا التيار أي نوع من النقد أو التحذير أو حتى النصيحة الرحيمة للحاكم، وعارضه بشدة وأكد على الطاعة المطلقة. ولم يكن هذا النهج الذي اتبعه الجاميون خاصاً بتيار معين، فمن حركات مثل الإخوان المسلمين والسروري إلى الحركات الجهادية وحركات التكيف مثل جماعة التبليغ والصوفية، أو حتى السلفيين أنفسهم، لم يكونوا في مأمن من الانتقادات المتواصلة وهجمات المدخلي.
هناك أمر واحد فقط يحدد بعد وقرب الأعضاء من الأفراد أو التنظيمات الأخرى، وهو بعدهم عن الحاكم، وليس درجة التدين أو التعصب الوطني! ولهذا السبب فإن هذا التيار هو الأكثر صراعاً مع الإسلاميين، ويطلق عليهم عموماً اسم الزنادقة والضلال ومن ناحيةٍ أخرى، فإنهم ينسجمون بسهولة مع العلمانيين وحتى الملحدين المقربين من النظام والمتعاونين معه.
إن المدخليون الذين يقدمون أنفسهم كممثلين وحيدين للسلفية، لا يخفون عداوتهم لأي جماعة إسلامية أخرى تتخذ منهم موقفاً مختلفاً تجاه الحاكم أو حتى تجاه المدخلي. ويقول ربيع المدخلي عمن وصفهم بالزنادقة: إن كشف عيوبهم وضلالهم من أهم الواجبات، لأن هؤلاء تستروا بزي السلفية بالحيلة، ولا هدف لهم إلا القضاء
على السلفية.
ومن وجهة نظر هذه الطائفة فإن كل واعظ أو خطيب ليس له سجل فهو إما زنديق أو متجاوز أو يعتبر من الخوارج أو الكفار. ويرى المدخلي أن تدمير غيرهم من علماء الأمة وتدنيسهم، حتى لو كانوا في مكانة عالية، ليس فقط لا يُعد عائقاً، بل يعتبرونه ميزتهم عن سائر المنكرات، ويوجبونه ويفتخرون به، وفي هذا الصدد يقدم ربيع المدخلي معياراً غريباً وخطيراً في الوقت نفسه لمعرفة العلماء. فيقول: حدثوا العالم عن ضلال وبدعة الإخوان المسلمين. ولهذا السبب، تعرض العديد من الشخصيات المشهورة والمؤثرة في العالم الإسلامي لاغتيالات شخصية وهجمات وحشية على يد المدخليين، فمثلاً تعرض أشخاص مثل أبو الأعلى المودودي، وحسن البنا، وسيد قطب وأخيه محمد قطب، وعبد الله العزام، ويوسف القرضاوي، للإهانة وعدم الاحترام بأبشع الطرق لمجرد أن أفكارهم تتعارض مع أفكار المدخليين.
فكما أنهم لا يعترفون بالحدود في رضاء الحاكم، كذلك لا يعتبرون حداً للعداء مع أعدائهم وهناك الكثير من الأمثلة على هذا فقد سمى"مقبل الوادعي"، والذي يعد قطب المدخليين في اليمن، الكتاب الذي ألفه عن يوسف القرضاوي، رئيس ومؤسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بـ "اسكات الكلب العاوي، يوسف القرضاوي". وفي قضيةٍ أخرى، هاجم شخص ربيع المدخلي سيد قطب ووجه له اتهامات لا أساس لها من الصحة، ليأتي صوت "بكر أبو زيد" من أعضاء الوفد الرفيع من علماء السعودية ويوبخ ربيع على العداء المفرط.
انتشار المدخلية في البلدان الإسلامية الأخرى
النهج المتطرف للمدخليين في دعم الحاكم بعد فترة قصيرة لاحظه ووافق عليه حكام السعودية ووجدوا أدوات واسعة لترويج خطابهم داخل السعودية وبعد الانقلابات العنيفة في الدول التي شهدت الربيع العربي تم نقلها إلى هذه الدول ثم انتشرت بعد ذلك في عدد من دول العالم الإسلامي وأصبحت أداة أيديولوجية في أيدي التنظيمات القمعية التابعة للأنظمة العسكرية الدكتاتورية.
كما أن الثورات العربية عام 2011، بالإضافة إلى تحدي شرعية الدكتاتوريات العربية، أجبرت السلفية المدخلية على لعب دور جديد لم تدخله حتى ذلك الحين.
خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى لعب دورهم الأيديولوجي التقليدي، انضم المدخليون إلى المؤسسات الأمنية القمعية وأنشأوا منظمات عسكرية وشبه عسكرية في بعض البلدان، بما في ذلك ليبيا واليمن.
وبهذه الطريقة، في بداية المظاهرات المناهضة للحكومات في الدول المشاركة في الربيع العربي، منع ربيع المدخلي قيام أي احتجاجات ومسيرات وثورات لكن مع انتشار الاحتجاجات وانتصار الثورة في بعض الدول، طلب من شباب هذه الدول تشكيل وحدات مسلحة لمحاربة تيارات الإسلام السياسي والجهاد، التي يُسميها "الخوارج" و"المتمردين".
وقد لاقت مثل هذه الفتاوى ترحيباً ودعماً من قبل الحكام العسكريين الذين سعوا إلى إضفاء الشرعية على انقلابهم. ورأى محمد سعيد رسلان، الذي وصف ثورة الشعب المصري ضد حسني مبارك بأنها من صنع اليهود والماسونيين، أن الإسلام لا يمكن أن يقوم بأدوات الشرك والكفر وهي المظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني والثورات والانتخابات. لكن التناقض الرئيسي لرسلان انكشف عندما فاز محمد مرسي وأصبح حاكما لمصر رغم رغبة هذا الشيخ المدخولي. ووفق رأي رسلان، فإن "مرسي" كان حاكماً لا ينبغي له أن يطيعه فقط، بل يجب أن يدافع عن طاعته بكل صلابة. لكن في حكومة مرسي المؤقتة، تصرف رسلان ضد تعاليم المدخولية ورفض دعم الرئيس الإسلامي في مصر مثل حسني مبارك العلماني.
لكن بعد الإطاحة بالرئيس الإسلامي على يد الفريق عبد الفتاح السيسي مدبر الانقلاب، دافع رسلان عن السيسي ووصف معتصمي الإخوان في ساحة رابعة العدوية وساحة النهضة، الذين أرادوا عودة محمد مرسي إلى السلطة، بالخوارج والمتمردين على الحاكم، وانهم معارضي الفتوى العامة وأن قتلهم مُباح.
وهذه القضية، التي تظهر التناقض في سير هذا الاتجاه في بلدان مختلفة وضد مختلف الحكام، لا تقتصر على مصر، فمثلاً خلال الخلاف بين السعودية وقطر، والذي أدى إلى حصار قطر لمدة 4 سنوات من قبل السعودية وحلفائها، طالب المدخليون برحيل حاكم قطر والإطاحة به.
وفي هذه الفترة لم يكن رئيس تركيا وحاكم هذه البلاد في مأمن من هجمات المدخليين بسبب دعمه لأمير وحاكم قطر. بينما، وبحسب النظرية التي يقبلها المدخليون، يجب طاعة هؤلاء الحكام دون سؤال.
وكما لم يتم الاعتراف بحكام سوريا وتونس واليمن من قبل المدخليين بسبب التعارض مع السعودية على الرغم من توليهم حكم بلدانهم.
السلفيون الأمنيون
تشير الوثائق التي قدمتها مراكز الدراسات الغربية بوضوح إلى تعاون أجهزة مخابرات الدول المضيفة للمدخليين مع أبناء هذه الطائفة ودعمهم الواسع بهدف مواجهة الحركات الإسلامية. بمعنى آخر، الجامية المدخلية ليست سوى مؤسسة أمنية خاصة تستخدمها الأجهزة الأمنية كأداة للسيطرة على المؤسسة الدينية، بحيث تكون لها وظيفة إضفاء الشرعية على نظام الحكم. ولهذا السبب يعتبر بعض المراقبين أن المدخليين مؤسسات استخباراتية مدربة، ولا يعتبرون أنها تستحق أن يكون لها طابع
ديني مستقل.
لدرجة أن يحيى الحجوري، أحد سلفيي دار الحديث دماج في اليمن، فضح تعاون ربيع المدخلي مع الأجهزة الأمنية السعودية علناً، وقال:"اتصل بي نسيب المدخلي، وهو أحد كبار ضباط الأمن السعوديين، وطلب تعاوننا الاستخباراتي مع السعودية مقابل دفع مبلغ كبير من المال".
هذه الوثيقة وغيرها من الأمثلة على مثل هذه الوثائق تكشف بوضوح محاولة السعودية استبدال النفوذ المفقود لهذا البلد خلال تهميش الوهابية، من خلال إفساح المجال للمدخليين. كما أن جهود المدخليين في مهاجمة حماس والمقاومة الفلسطينية في ظل مساعي قادة السعودية للتطبيع مع «إسرائيل» وتقاعسهم عن جرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني المظلوم تجعل الأمر مفهوما وبناء على ماسبق، ينبغي القول إنه لم يتغير شيء في السعودية.
تماماً كما استخدمت المملكة العربية السعودية الوهابية لعقود من الزمن لتبرير أهدافها السياسية أيديولوجياً والآن، وبعد انتهاء مدة خدمة هذه الطائفة، وبسبب السمعة السيئة التي أحدثتها سنوات من الجرائم في البلدان الإسلامية وحتى غير الإسلامية، أُسندت مهمة التبرير الأيديولوجي إلى طائفة جديدة ومن المفارقات أنها كانت أكثر طاعة. وستنظر الروحانية الحكومية قريباً إلى ضرورة العلاقة
مع «إسرائيل».