البطّيخ في خيال ضابط صهيوني
هل يمكن اعتبار البطّيخ رمزاً للتضامن مع الشعب الفلسطينيّ؟
مليحة مسلماني
كاتبة وفنّانة فلسطينيّة
منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزّة في أكتوبر الماضي، تنتشر بشكل كبير رسوم و"إيموجي" البطّيخ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بصفته، أي البطيخ، رمزاً بديلاً عن العلم الفلسطينيّ.
انتشرت خلال الأحداث الأخيرة رسومات وتصميمات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي بعض التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيّين في دول غربيّة، تتمركز حول البطّيخ رمزيّةً لا تحيل إلى العلَم فحسب، بل استبداليّة له أيضاً؛ أي أنّه يُسْتَخْدَم بديلاً عنه. وبالعودة إلى محرّكات البحث، نجد عشرات التقارير الإعلاميّة الّتي تتحدّث عن البطّيخ بصفته رمزاً أو أيقونة أصيلة ومتجذّرة في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة.
هذه التقارير نموذج على المبالغة الّتي تصل حدّ الإيهام، عبر التناقل المستمرّ للمعلومات دون التحقّق من صحّة مصادرها؛ ليصبح الأمر أشبه بانتشار الشائعة، الّتي قد تعتمد بعضاً من الحقيقة في سطورها، لكنّها تبقى بشموليّتها بعيدة عن الحقائق وأرض الواقع؛ إذ إنّ البطّيخ لم يكن رمزاً أصيلاً، ولم يستخدمه الفلسطينيّون بديلاً عن العلم الفلسطينيّ، لا في الوطن ولا في مخيّمات اللاجئين في الشتات، ولا في أيّ فترة من تاريخ النضال الفلسطينيّ.
ماذا يعني الرمز؟
تعني كلمة الرمز "الإشارة إلى علامة ما، أو فعل من نوع ما، يُسْتَعْمَل في نقل معنًى معيّن لفرد ما، استناداً إلى مجموعة من المعايير أو الممارسات العرفيّة المعتادة العامّة". مثل علَم الدولة، أينما شوهِد يُشِر إليها.
وهكذا غدا العلم الفلسطينيّ، وخارطة فلسطين الكاملة، والكوفيّة، وحنظلة، وقبّة الصخرة المشرّفة، والمفتاح، وشجرة الزيتون، وغيرها، رموز تؤدّي وظائف دلاليّة معيّنة تشير إلى الهويّة والقضيّة الفلسطينيّتين، وهي حاضرة بقوّة في الحياة الفلسطينيّة، سواء في أشكال الاحتجاج، أو في مشهديّة البيت الفلسطينيّ، تظهر ضمن معلّقات على الحائط، وعلى الصدور، ومنتجات أخرى، وحظيت بممارسات عرفيّة تراكميّة عبر الزمن.
غير أنّنا لا نعثر على البطّيخ في القاموس الرمزيّ الفلسطينيّ، لا في أشكال الإحتجاج المختلفة في الوطن ومخيّمات اللجوء خارجه، ولا في المخرجات البصريّة للأحزاب الفلسطينيّة المختلفة، ولا في مشهديّة الحياة اليوميّة الفلسطينيّة.
تعتمد التقارير الإخباريّة والمقالات على معلومات عدّة تؤكّد استخدام رمزيّة البطّيخ في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة عبر مراحل تاريخيّة؛ ومن هذه المعلومات أنّه اسْتُخْدِم بعد عام 1967، عندما حظر الاستعمار الصهيوني رفع العلم الفلسطينيّ، لكنّ أيّاً من هذه التقارير لا يشير إلى مصدر تاريخيّ أو أكاديميّ يؤكّد هذه المعلومة.
وخلال بحثي للدكتوراه في العلاقة بين الهويّة والفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، اطّلعت على مصادر تاريخيّة وثقافيّة كثيرة، ولم يشر منها إلى شيء من هذا القبيل. وبالاطّلاع على أعمال فنّيّة كثيرة لروّاد الفنّ الفلسطينيّ، ومَنْ بعدهم من أجيال التشكيليّين، سواء في فلسطين أو الشتات، فإنّنا لا نعثر على رمز البطّيخ فيها، غير أنّنا نعثر وبكثرة على الرموز السابق ذكرها، إضافة إلى غيرها من الرموز.
البطّيخ والضابط الصهيوني
تتّضح مسألة البطّيخ على لسان الفنّان سليمان منصور، الّذي يقول إنّه في أواخر عام 1980 أقام معرضاً في "جاليري 79"، الّذي أسّسه في رام الله مع زميلين فنّانين آخرين؛ لتغلق سلطات الإستعمار المعرض، وتأخذ مفاتيح الجاليري. بعد أسبوعين، استدعت الفنّانين لتوجّه إليهم أوامر تتعلّق بقوانين معيّنة، من بينها أنّه يُمْنَع عليهم استخدام ألوان العلم الفلسطينيّ الأحمر والأخضر والأبيض والأسود في أعمالهم الفنّيّة؛ بحجّة أنّه يُمْنَع ظهور العلم الفلسطينيّ في المناطق الّتي يسيطر عليها الاستعمار.
يسأل الفنّان عصام بدر، الّذي كان حاضراً، يسأل الضابطَ: "افرض رسمت زهرة/ وردة فيها الألوان هذه الأربعة؟"، فيجيب الضابط: "اللوحة طالما فيها الألوان هذه نصادرها... وكمان إذا بترسم بطّيخة بنْصادرها".
يكمل منصور، فيقول: "فكرة البطّيخ أَجَت من الضابط الصهيوني، وقتها حكينا إحنا للصحافة مباشرة... عن هذه القوانين، وعن منع الرسم بهذه الألوان، وصار في حملة تضامن من فنّانين كثيرين من العالم، والصحافة كتبت عن الموضوع كثير، بسّ وقتها ما صار في اهتمام كبير لقضيّة البطّيخ، كان اهتمامنا أكثر بإبراز العلم الفلسطينيّ والتركيز عليه كعَلم... في 2007، ولما صار في نوع من الاهتمام بالفنون المعاصرة وبالفنّ المفاهيميّ (Conceptual) الّذي يعتمد على الفكرة... والحدث، أحد الفنّانين... هو خالد حوراني، عمل لوحة كبيرة، اللّي هو شقفة بطّيخ ... وصار تقريباً نوع من الانتباه لموضوع البطّيخ، ورجعوا الناس يحكون في القصّة... بعدين الناس نسيوا الموضوع... ما كانش فيه اهتمام إلّا بفترة حملة الشيخ جرّاح، صار في اهتمام بموضوع البطّيخ بطريقة أنا شخصيّاً ما بقدر أفسّرها...".
علم فلسطين الجديد.. بطّيخة!
يقول خالد حوراني: "استعرت، لاحقاً، من هذه القصّة وهذا الضابط، فكرة العمل، أي رسم بطّيخة بألوان العلم الفلسطينيّ، ليس إعجاباً بما تفتّق عن خياله المريض، بل سخرية من منعه رسم العلم الفلسطينيّ. هكذا، عندما سمعت بالقصّة من زملائي الفنّانين لأوّل مرّة، واتتني فكرة رسم بطّيخة، واستغربت أنّ أيّاً منهم لم يُنْتِج عملاً عن هذه القصّة الطريفة، وفي سنة 2007 غامرتُ بعمل ساخر في إطار مشروع "أطلس فلسطين الذاتيّ"، ورسمت العلم البطّيخة... نُشِر العمل في كتاب "أطلس فلسطين الذاتيّ" في عام 2007، جزءاً من فكرة عن علم فلسطين الجديد، وذُكِرت القصّة فيه".
إذن، قرّر الفنّان أن يصبح هناك علم جديد لفلسطين، وهو بطّيخة! وبغضّ النظر عن دوافع السخرية من الضابط وقوانين المنع، لكنّ فكرة استبدال العلم ببطّيخة يجب أن يقابلها نقد ثقافيّ-وطنيّ؛ فعلى مدار عقود من الاستعمار، لم يتجاوز حتّى كبار الفنّانين الفلسطينيّين، العلَم الفلسطينيّ إلى درجة استبداله بموضوع بصريّ آخر، بل رسموه بكلّ الأساليب والأشكال، واحترموا مكانته ورمزيّته وقدسيّته؛ وللعلم الفلسطينيّ قدسيّة خاصّة، مستمدّة من رمزيّة القضيّة الفلسطينيّة، وارتقاء الشهداء لأجل رفعه ورفعها، ومن جثامين الشهداء الّتي تُلَفّ به. إنّ إهانة أيّ نظام سياسيّ أو شعب أو دولة، تكون عبر محو علمها وإلغائه وإهانته، كحرقه أو الدوس عليه في التظاهرات، أو إنزاله من علوّ، من هنا تُدْرَك أهمّيّة رمزيّة العلَم، أيّ علم، ومكانته.
ثمّ إنّ استبدال العلم في أعمال حوراني، أو في مواقع التواصل، أو في التظاهرات المؤيّدة، يُعَدّ استجابة لفكرة المنع ذاتها، وتطبيق عمليّ - وإن كان غير مقصود - لهدف الاستعمار، والأنظمة المؤيّدة له الّتي منعت رفع العلم الفلسطينيّ في بلدانها؛ فكان الردّ بالاستجابة لذلك؛ أي لفكرة إلغاء العلم، الّذي هو أصل الأزمة، بدلالته على شموليّة الهويّة والقضيّة، واستبدال شيء آخر به. إن دلّ هذا الشيء عليه أو على ألوانه، فإنّ فكرة الاستبدال ذاتها، تُقْرَأ أيضاً في إطار الاستجابة للمنع. من ذلك ما يحتجّ به بعض نشطاء مواقع التواصل؛ أي أنّهم يستخدمون "إيموجي" أو رمز البطّيخ بديلاً عن العلم الفلسطينيّ، للتحايل على الخوارزميّات، خاصّة في ظلّ التقييد على المحتوى الفلسطينيّ، وذلك المناصر للفلسطينيّين.
لكنّ الحقيقة أنّ "فيسبوك" أو "تويتر" وغيرهما من المواقع، لا تمنع ولا تقيّد منشوراً بسبب احتوائه على العلم الفلسطينيّ؛ بدليل وجوده بكثرة عليها، كـ "إيموجي" ورسومات وتصاميم وغيرها.
ظاهرة وليس رمزاً
إذن، يمكن القول إنّ البطّيخ يُعَدّ، في السياق الوطنيّ الفلسطينيّ، ظاهرة وليس رمزاً؛ فاعتبار شيء ما رمزاً يعني بالأساس تبنّيه من قِبَل أصحاب القضيّة أو الجماعة القوميّة ذات العلاقة، باتّفاق شبه جمعيّ، يكون عبر التراكم التفاعليّ والممارسة الزمنيّين، كما هو الحال مع حنظلة والكوفيّة مثلاً. وبما أنّ البطّيخ غير حاضر في الحياة اليوميّة - الوطنيّة الفلسطينيّة، فهو لا يُعْتَبَر رمزاً، كما أنّه غير حاضر برمزيّته المدّعاة تلك في الفنون والآداب الفلسطينيّة، الّتي استوحِيَتْ من الرموز الفلسطينيّة، بل خلقت رموزاً، مثلما أبدع ناجي العلي رسم حنظلة، فتبنّاه الشعب الفلسطينيّ رمزاً لشدّة تماهيه مع الطفل الفلسطينيّ ابن المخيّم.
ووجود البطّيخ في أعمال فنّان أو اثنين أو قلّة من الفنّانين لا يعني أنّه اعْتُمِد رمزاً. في المقابل، فإنّ فنّاناً واحداً قد يبدع رسماً فيصبح رمزاً لتبنّيه من قِبَل الشعب؛ إذ إنّ عمليّة تكوّن الرمز تستند إلى اجتماع ضمنيّ عليه، وإلى صيرورة تفاعليّة تراكميّة بين فئات المجتمع، من شبّان ومحتجّين وأحزاب وفنّانين وأدباء.
من الإشكاليّات الأخرى المحيطة بالبطّيخ انتشاره الواضح في سياق تضامنيّ احتجاجيّ ثقافيّ جغرافيّ، بعيد عن الثقافة والوطن الفلسطينيّين، بما في ذلك مخيّمات الشتات. وذلك عبر استخدامه في مسيرات التضامن في أوروبّا وأمريكا، بل في إسرائيل أيضاً من قِبَل جماعات معارضة وحقوقيّة، خاصّة مع تداول أخبار عن منع رفع العلم الفلسطينيّ والاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيّين في بعض هذه الدول. إضافة إلى استخدامه بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
بالاطّلاع اليوميّ منذ بداية الأحداث بتاريخ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، نستطيع أن نستقرئ أنّ معظم الصفحات والمصمّمين الّذين اعتمدوا البطّيخ رمزاً يشير إلى القضيّة الفلسطينيّة هم أجانب بشكل رئيس، ثمّ عرب بشكل أقلّ، ثمّ فلسطينيّون بشكل أقلّ كثيراً.
ثمّ إنّ رسومات البطّيخ تظهر في صور اللافتات، وغيرها من أدوات الاحتجاج البصريّ؛ في التظاهرات في أوروبّا وأمريكا، ولا تظهر في صور التظاهرات القادمة من فلسطين.
وقد يُطْرَح السؤال الآتي: هل يمكن اعتبار البطّيخ رمزاً إلى التضامن مع الشعب الفلسطينيّ، وليس رمزاً فلسطينيّاً؟ وهو سؤال منطقيّ في ظلّ هذا الانتشار لرسوم البطّيخ؛ ففي حين أنّ الشكل الأوّل، أي الرمز التضامنيّ مع الشعب الفلسطينيّ، يحيل إلى جماعات متضامنة مختلفة الثقافات، اتّفقت ضمنيّاً على رمز ما يشير إلى فلسطين أو علَمها، يحيل الثاني، أي الرمز الفلسطينيّ، إلى ما هو متجذّر في الثقافة الفلسطينيّة. لكنّ هذا السؤال أيضاً يخلق إشكاليّات، من بينها بعض ما سبق، وأهمّه إشكاليّة استبداليّة العلَم؛ إذ علينا أن نسأل الشعب الفلسطينيّ إذا كان يوافق على استبدال رسم أو رمز البطّيخ بعلم فلسطين من قِبَل المتضامنين، خاصّة أنّه يمكن القول إنّ هؤلاء؛ أي المتضامنين، ضُلِّلوا إعلاميّاً، عبر كمّ هائل من المحتوى والتقارير الّتي تتحدّث عن البطّيخ بصفته رمزاً متجذّراً في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة.
الإشكاليّة الثانية تتعلّق باستمراريّة الممارسة الزمنيّة؛ فاستخدام البطّيخ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي بعض التظاهرات في الخارج، بشكل موسميّ، ردَّ فعل على انفجار أحداث في فلسطين، أيضاً هذا الاستخدام الموسميّ المتقطّع، لا يجعل منه رمزاً فلسطينيّاً، ولا حتّى تضامنيّاً مع الشعب الفلسطينيّ؛ إذ إنّ عمليّة تكوّن الرمز واعتماده تحتاج إلى زمن قد يمتدّ لعقود، فضلاً على وجوب إشراك الشعب الفلسطينيّ؛ من باحثين ومثقّفين وإعلاميّين وفنّانين وأدباء وناشطين ومن كلّ الفئات، في مسألة استبدال أيّ رمز بصريّ آخر بالعلم الفلسطينيّ، سواء كان
بطّيخاً أو غيره.